سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قال: انا أخرجت 20 سيارة شبح جديد قراطيس، يوم جاء الأمير عبدالله بن عبدالعزيز زيارة لليمن وكسرت نفسي في خدمة علي عبدالله صالح .. 12 سنة في السجن هدت حياة تاجر السيارات الحميضة .. فمات
- علي الضبيبي : عندما قابلته داخل السجن، في رمضان 2006، كان في يده مسبحة طويلة. كان الحميضة جالسا على كرسي ابيض، تحت شجرة قبالة مغسلة السجن المركزية، مرتد دجلة ، ويسبح، وكان يبدو في غاية السعادة. لم أكن اعرف أن صاحب، معرض القادسية للسيارات مسجون، ولم اتوقع ان القابع امامنا تحت الشجرة، سجين. كان رأسه مبللا، وحذاءه انيقا جدا، وعندما اقتربنا ، موظف السجن وأنا، نهض الرجل من مكانه كأي رجل شهم:" مرحبا".. صافحته، فقبض يدي بلطف، وعندما قدمني اليه يحيى الحيدري، قائلا :" هذا صحفي يا عم علي جاء يزورك". وقال لي:" وهذا علي الحميضة، صاحب معرض القادسية للسيارات"، اندهشت، واكتبد الحميضة. لقد مات هذا الرجل، الشهم، في ذاك المكان الذي التقيته فيه قبل 6 سنوات. مات يوم الخميس قبل الماضي، في غرفته الصغيرة، المحاذية لمغسلة السجن المركزي الرئيسية ، وكانت الغرفة نظيفة ومرتبة وتنذخ بأجود العطور العالمية، التي تهدى اليه من بعض ما تبقى للحميضة من اصدقاء. داخل الغرفة سرير مرتب وأمامه مرآة أنيقة، وحامل خشبي للدهان والعطر وعلبة "الفاين". وكانت هذه، غرفة الحميضة، التي يخرج اليها في النهار من داخل السجن العميق للعمل في المغسلة كمشرف ومالك لها. أما محل اقامته الدائمة فغرفة جماعية بالداخل، ضمن عنابر قسم التوبة، القسم الخاص ب"المعسرين"، السجناء الذين احتجزوا على ذمة حقوق غيرية. مات الحميضة، تاركا وراءه سجنا فسيحا، وذكرى طيبة وعطر من كل نوع. كانت عائلته، المكونة من زوجتين وعدد هائل من الأبناء والبنات، تزوه كل خميس. وطبقا لما سمعت من شخص يحب الحميضة، فإن آخر مرة رأى فيه بعض أولاده، كان الاثنين، قبل الماضي، حيث طلبهم ان يستعجلوا زيارته، وكان بشوشا للغاية مع أبنه الأصغر "أمير الدين"، ذي ال9 سنوات. كان "أمير"آخر أبناء علي الحميضة ، وعندما التقاه مدير السجن يوم الدفن ، تذكر"أمير الدين" أباه وكيف انه ودعهم يوم الاثنين، وقبلهم واحدا واحدا وقال الأب لأمير :" لا تجيش يا أموري يوم الخميس أنا باخرج انا وباجي الى عندكم". وكان الحميضة مولعا بطفله هذا الى أبعد الحدود، وكان اذا فكر بالموت لا يهم سوى "أمير". وأمير، بحكم عمره، لم يشاهد اباه خارج السجن أبدا، اذ كان يزوره في الاسبوع مرة الى السجن، فقط . وكان يعتقد أن والده سيخرج يوم الخميس بالفعل، كما وعده.. خرج الأب، فعلا من السجن، ولكن ليس الى البيت وإنما الى قرية "القابل"، محمولا على الأكتاف. كان الحميضة يحب الناس. وكانت ملابسه أنيقه وأمتعته مرتبة. كما انه كان صاحب مزاج. يحكي للسجناء، عن افضل السيارات، التي كان يجلبها لليمن، وعن مدن العالم التي زارها، وأفخم الفنادق، التي كان ينزلها سائحا. كانوا يحبوه، وكان يعاني من السكري، وارتفاع الضغط أحيانا. لكن طبيعة الحميضة، لم تتغير؛ يجلب افضل انواع الشوكلاته الى السجن، ويشتري أجود الحلويات، التي كان بعضها ترسل إليه من عمان والبندقية، كما هي العطور تأتيه من باريس. كان فقيرا؛ لكن أنيقا وحياته راقية، واذا وصله أي مبلغ، كان يصرفه للتو ويعطي كل من يطلبه. وقال إن رشاد العليمي أحد، المسؤلين القليلين جدا، الذين ظلوا يذكروه، إضافة الى التاجر المعروف يحيى الحباري. زرت الحميضة، الى السجن مرات كثيرة، وكنت في الغالب أجلس معه لساعات. وفي إحدى المرات، قال لي:" كان علي عبدالله صالح، هذا يتصل لي كل يوم، ليلا ونهارا، وكنت أكسر نفسي معه، هو وغيره؛ لكن نسيوني".. كان يتنهد بقهر، وكان مدير السجن صديق الحميضة ايضا. كان يقصده كل يوم، الى المغسلة، حيث يقضي الحميضة نهاره؛ يصب الماء، أو يساعد العمال في كي الملابس. لم تكن تلك البقعة شيئا، قبل مجيء الحميضة. كانت عبارة عن مغسلة مركوم بداخلها كل شيء، وأمامها "أكوام من القشاش"، هكذا وصفها السجين صالح المحمي، الميكانيكي الشجاع، الذي دخل السجن قبل الحميضة ورافقه في نفس المكان الى 2008 ليخرج ضمن أكبر دفعة خروج للمعسرين، بعد جهد جهيد، وبقى الحميضة. قال لي العقيد مطهر الشعيبي ، أمس: " طفت تلك البقعة بعده". وأضاف ، متحدثا معي على التلفون: " رحم الله هذا الرجل، كان صديق شخصي، وأب". وقال مدير السجن إنه رآه يوم الإثنين، وهو يودع أسرته الى البوابة الوسطى، وكان في غاية الإنشراح. "كان لطيفا للغاية، ومبسوط ". فتحت صحيفة "النداء" ملف "السجناء المعسرين"، في يونيو 2006، وكتبت عن صاحب معرض القادسية للسيارات في أول تحقيق. كتبت عنه عدة مرات، وتحدثت الى النائب العام السابق الدكتور عبدالله العلفي، بشأنه مرتين، وبصفة خاصة. والنائب العام يعد بإطلاقه ويبلغه السلام عبري. كنت أبلغ سلام الدكتور عبدالله العلقي، الى الحميضة، وكنت أشعر من تعابير وجه النائب العام السابق، عندما أحدثه عن وضع هذا السجين، ان أمر تحريره ليس بيده. رغم ان الدكتور العلفي ، كان يعد بإطلاقه، دائما. الحميضة أشهر نزلاء السجن المركزي على الإطلاق، وكان الجميع يعرفه. وعندما كتبت عنه، وشاهد صورته في الصحيفة لأول مرة، بكى. وقال لي، لحظتها، وهو ممنون جدا، كأي إنسان نبيل غدرت به الأيام: " يا ابني ، مش عارف ايش اقل لك وكيف أرد لك هذا الجميل". كان الحميضة يحدق في الصورة، صورته في اليونان، اذ كان شابا، وصديقا للنخبة الحاكمة. مطلوب، وقد مات صاحب معرض القادسية للسيارات، أن تضع الدولة وأصحاب الخير حدا لمأساة هذا الرجل، التي لا يبدو انها انتهت بوفاته. فالمعلومات التي بلغتني ان أحد خصومه البدو، حضروا العزاء والدفن، وطلبوا من أولاده أن يتلزموا بتسديد "الدين"، وتبين ان احدهم لم يحضر لأداء واجب الدفن والعزاء، وإنما حضر الرجل يتعرف على أبناء، ويبحث عن من سيلتزم منهم بالسداد. وهو ما أثار وجع الناس، اذ كان أبناء الحميضة ساعتئذ يبكون على أبيهم. ولم يستبعد أحد الحاضرين ان يتعرض أحد اولاد الحميضة للخطف في أي لحظة من قبل "الدائنين"، الذين ألقوا بالحميضة في السجن حتى الموت، ولم يرحموه. تذكر صاحب معرض القادسية للسيارات، وهو في السجن، سنوات عمره الباذخة ومعرضه الشهير، وجاش من أعماقه بنهده: " آآآه آاه نسيوني، نسيوني، انا أخرجت 20 سيارة شبح جديد قراطيس، يوم جاء الأمير عبدالله بن عبدالعزيز زيارة لليمن، خرجتهم تقول طلقه". وأضاف وهو مقهورا، ويتذكر: " كنت اسرع من الريح المرسلة اذا طلبوا مني أي شيء". كان عزيز نفس وجوادا، وكان يغسل الكأس بالماء والصابون ويصب لي "شاهي". وكان يقدم قطع الحلويات الفاخرة في صحن أنيق ويضعها أمامي على الماسة: "اسألك بالله يا ولدي ان تاكل، هذه حلويات جتني من بيروت". كان طعمها لذيذ جدا، وكانت نفسه طيبة. رحمة الله تغشاك يا عم علي الحميضة، كم كنت لطيفا، رقيقا، عزيزا، شهما، ذواقا، لم أرى أحد يشبهك في حياتي. كنت مظلوما، وكم كنت اتمنى لو أخدمك وأستطيع أن أنتزعك من قلب السجن، الذي هد حياتك. لم أستطيع، وأنت كنت تعرف انني لن أستطيع، لأن اليد التي قيدتك قاسية، قلوب لا تعرف الرحمة! *عن صحيفة الشارع