من عجائب قدرة الله أن يهب المال لمن يشاء {والله يرزق من يشاء بغير حساب} البقرة 212 . دون أي شروط ..! فقد يهبه للفاجر ويحرم البر . . . ويهب الجاهل ويحرم المتعلم . . . يرزق شخص يعمل ساعة في اليوم عشرات أضعاف ما يرزقه آخر يعمل في اليوم 16 ساعة ...! والناس لا يفهمون هذه الحقيقة . وأصبح البعض يعتقد أنَّه جمع المال بذكائه وقدراته . . . وهذا قول قارون {إنما أوتيته على علم من عندي} القصص 78 . فاستقر في يقين هذا البعض أنَّهم الأذكى والأكفأ والأقدر , وهذا الاعتقاد خلق اعتقاد آخر هو "الشمولية" فالمنتمي إلى هذه الفئة يرى نفسه القائد السياسي والأمير والشيخ والمفكر.! والشعب الذي يقتنع أو يقبل هذه الرؤية المغلوطة يسقط وينتهى .
والسؤال المشكلة ؛ هل المال هدف أم وسيلة ...؟ في رأيي أنَّه قد يكون هدف وغاية عند البعض .؟ يحاربون من أجل تحقيقه بالطرق الشرعية وغير الشرعية ، لماذا...؟ لأنَّهم بلا قيمة ولا مكانة ولا احترام إلَّا بالمال . . . لكنَّ الحقيقة تقول (المال وسيلة) . . . نعم هو وسيلة ؛ بواسطته يحقق صاحبه رفاهية المسكن والملبس والمركب والمأكل . وهو وسيلة للراغب في نيل كل ملذات الدنيا ؛ بالمال يستطيع الحصول على أجمل النساء ويصبح زير نساء ، ويشتري شعراً من باعة الشعر ويصبح شاعراً ...! لكنَّه لا يستطيع شراء العقل الذي كتب الشعر . ويستطيع شراء المديح وشراء الاحترام الظاهر ......... أشياء كثيرة يستطيع شرائها . . . إذاً المال وسيلة . . . ولكن ليس إلى مالا نهاية ..؟ فهو وسيلة حتى مستوى معين (وسيلة تكفي لتحقيق أعلى درجات الرفاهية الشخصية) وإذا تجاوز المال حدود هذه الحاجة -الرفاهية- أصبح قوة . وعندما يكون حجم المال في مستوى الوسيلة ليس للمجتمع الحق في مسائلة صاحبه أو حتى لومه ، فلينفقه كيفما شاء . . . لكنَّه إذا تجاوز حد الوسيلة إلى مستوى القوة أصبح للمجتمع الحق في مسائلته ؛ لماذا لا تنفق هذه القوة التي استودعها الله بين يديك في خدمة المجتمع بالطريقة الصحيحة ...؟ هذه القوة ملك الشعب وأنت حارس عليها . . . حالها حال السلطة -ملك الشعب- من يكون فيها يسائلونه .
وقصة عمر بن الخطاب مع خالد بن الوليد رضي الله عنهما خير دليل ؛ فخالد رضي الله عنه أعطى الأشعث بن قيس 10000 درهم مكافأة على مدحه بقصيدة بعد معارك أرمينيا ، وكان خالد حينها قائد الحملة بعد أن تم عزله من قيادة الجيوش وتعيين أبو عبيدة بن الجراح مكانه . فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يستقدم خالد مقيدًا بعمامته ، حتى يعلم هل كافأ الأشعث من ماله أم من مال المسلمين ، فإن كانت من مال المسلمين ، فتلك خيانة للأمانة وعقابه أخذ كل ماله ، وإن كانت من ماله فقد أسرف وعقابه أخذ نصف ماله . . . وفي الحالتين يُعزَل من قيادة أي جيش (يعود جندي) من جيوش المسلمين ...! فكانت الثانية أخذ نصف المال والعزل .
هكذا أرى المال وسيلة إلى حدود معينة ، فإذا تجاوزها أصبح قوة .
ومن يكتنز هذه القوة ولا ينفقها في المكان الصحيح هو في رأي مجرَّد صندوق حافظ فقط ؛ قد يكون صندوق من الكرتون أو من الذهب ، المهم هو صندوق ينتهي -يموت- يوم من الأيام لامحالة ، وينتقل المال إلى غيره . . . وهؤلاء المستفيدون من موت الصندوق الأول ؛ قد يكونون صناديق كالذين من قبلهم أو يكونوا أُمناء ينفقون هذه القوة في المكان المناسب والوقت المناسب .
ولو تناولنا جانب من جوانب الانفاق "مساعدة الآخرين" ؛ يمكننا تصنيف المنفقين إلى نوعين ؛ كريم الأخلاق والدافع للأجر :- كريم الخلق [ وهو رجلٌ عرف حقيقة المال فأنفقه حيث يجب انفاقه ] لمن هو في حاجة ، دون الاهتمام بمن يكون هذا المحتاج ، ولا دينه ، ولا مذهبه ، ولا بلاده ، ولا قبيلته ، ولا حتى نوعه ؛ ذكر أو أنثى ، إنسان أو حيوان . . . هذا النوع لا ينفق بسبب المحتاج بل بسبب الأخلاق والقيم التي نشأ عليها وتبناها . وهذا النوع من الرجال هم شرف الأمَّة ؛ وعلى الناس شكرهم والثناء عليهم وتوقيرهم واحترامهم لأنَّهم أدُّوا الأمانة إلى أهلها ؛ ويجب ذكرهم حتى يكونوا قدوة للمجتمع . والنوع الثاني "دافع الأجر" ؛ وهو الذي يساعد فلان ويحرم علان ؛ وليس له شكر ولا ثناء . . . لماذا..؟ ؛ لأنَّه قد يكون أحسن إلى فلان لأنَّه جزء من فريقه أو عصابته ، قدم له خدمات ولذلك استحق الجزاء ؛ والجزاء قد يكون أجر ظاهر أو خفي .
وقد تكون هناك أسباب أخرى . . المهم في الأمر أنَّه دافع أجر وليس كريم خلق .
قد يكون تجاهل المناضل معاذ سفيان الحكمي أنَّه ليس منهم ؛ لو كان منهم لانبَّروا إلى نقله إلى مستشفى النقيب ولم تقطع قدمه ، وقد تقطع قدمه الثانية قبل أن يعي طالبي الشهرة "دافعي الأجر" الخطأ القاتل الذي وقعوا فيه . وحتى لو قطعت رجله الثانية فقد ربح معاذ سفيان البيع مع الله ؛ فلله ما أعطى ولله ما أخذ ، ومصاب الرجال في عقولها وليس في أرجلها ؛ فإذا ابتلاه الله بقدمه فقد سلَّم له باقي جسده ، وزاده شرفاً ومجداً يراه بعينيه ، وهذه نعمة عظيمة ، فغيره (علي صالح الحدي ووضاح ومحمد جباري) حُرِموا من رؤية مجدهم وعظمتهم . . . فقل يا معاذ : الحمد لله رب العالمين . . . وكن على يقين أنَّ الكثير سيأتيك اليوم أو غداً ؛ فسوق الشهرة انتقل من تحت قدميها إلى تحت قدمك . استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه .