أثارت موافقة إسرائيل على إقامة مركز استخبارات ضخم بمدينة القدسالمحتلة تابع لوكالة الأمن القومي الأمريكية "NSA" ، وتحديدًا في جبل المشارف، الذي أصبح داخل الأراضي الإسرائيلية منذ توقيع اتفاق الهدنة الإسرائيلية مع العرب عام 1949، تساؤلات حول أبعاد ودلالات هذا التعاون الاستخباري الجديد. وتعد هذه المنطقة المحددة للبناء واحدة من أعلى المناطق الجبلية التي تطل على غور الأردن، أكثر من أي شيء آخر يتعلق بمدينة القدس، بما تمثله من رمزية تاريخية ودينية. ويشير القبول الإسرائيلي – التي كشفت عنه الصحف الإسرائيلية مؤخرا - للجانب الأمريكي بإقامة مركز للاستخبارات الأمريكية؛ إلى أنه سيُمكِّن هذا الموقع إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية من مراقبة ضفتي الأردن الشرقية والغربية، وأن هذا يعني –ضمنًا- أن إسرائيل قد تعيد النظر في إصرارها على بقاء قواتها في غور الأردن، وهو ما يطالب به الفلسطينيون، كما سيضم المركز الاستخباري مجموعات من النظم الاستراتيجية بهوائيات وأجهزة استقبال متطورة للغاية تستخدم لرصد الإشارات من الأقمار الصناعية التابعة لدول العالم. وسيتيح الموقع الجغرافي لمدينة القدس التقاط الإشارات من عدد من أهم الأقمار الصناعية المخصصة للاتصالات في العالم؛ ما سيساهم بشكل ملحوظ في تعزيز قدرات الاستخبارات الأمريكية في هذا المجال. وسيتعامل الموقع الجديد مع الأقمار الصناعية الأمريكية حسب أنواعها وطبيعتها وعملها؛ فمنها ما يعتمد على اعتراض المعلومات المتنقلة عبر مختلف الدول وفي داخل الدولة ذاتها، وسيتعامل معها من الموقع الجديد في القدس الشرقية، ومنها أنظمة "إيتشلون" التي تتيح اعتراض جميع طرق الاتصالات والقنوات المستخدمة. كما سيتيح الموقع الجديد للمركز الاستخباري تحليل ملايين الرسائل الإلكترونية كل دقيقة، وتحليل 35 مليون صوت عبر الاتصالات كل ساعة، وهو ما يفيد القوات الأمريكية في اعتراض مختلف الاتصالات بين من تصفهم بالأعداء من خلال تحليل الرسائل المشفرة عبر نظم فك شفرات غاية في التطور، أو تحليل أصوات شخصيات معينة غالبيتها في مراكز صنع القرار، أو معرفة خطط الهجوم أو الدفاع بفك ترميز المخططات العسكرية. والواضح أن إنشاء المركز الاستخباري لن يقتصر على القدس، بل سيمتد إلى مواقع أخرى في الشرق الأوسط؛ حيث ستنشئ الأجهزة الأمريكية مراكز تنصت جديدة وجيلاً جديدًا من الأجهزة الراصدة المتصلة بنظام التمركز العالمي في مناطق أخرى على طول الحدود الفلسطينية الإسرائيلية الأردنية. وسيبث المركز الاستخباري للأقمار الصناعية الأمريكية بتدفق قدره 50 بت في الثانية على موجتين: موجة للاستعمال المدني بذبذبة قدرها 1575.42 MHz (خاص بالاستخدام التجاري)، وموجة للاستعمال العسكري بذبذبة قدرها 1227.6 MHz (خاص بوزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون). تصورات متباينة
وقد تباينت التصورات الاستراتيجية بشأن حقيقة إقامة منشأة تجسس أمريكية بمدينة القدس؛ إذ أشارت المصادر الاستراتيجية الأمريكية إلى أن الإعلان عن المنشأة لا يحمل جديدًا على أساس ما يلي : (1) أن التعاون الاستخباري بين إسرائيل والولاياتالمتحدة قائم ومعروف منذ سنوات، ويتم عبر اتفاقات غير معلنة بين الطرفين، ويركز على مواجهة التهديدات والمخاطر المشتركة. (2) أن الإعلان عن المنشأة يأتي في توقيت له دلالاته بالفعل، وفي إطار المطلب الإسرائيلي بالحصول على جملة من الحوافز الاستراتيجية والأمنية والاستخبارية قبل التوقيع على اتفاق الإطار الأمني الذي قدمه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري للجانبين الأمريكي والإسرائيلي. (3) مطالبة إسرائيل بإجراءات أمنية محددة في القدس الشرقية العاصمة المرتقبة للدولة الفلسطينية الوليدة مع نصب وحدات للإنذار المبكر وقواعد الإطلاق الاستراتيجي ومنظومة الأقمار الصناعية وشبكات الرادارات المسبق ووحدات الاستشعار متعدد المجالات . (4) أن تكون هذه المنشأة محلية في إسرائيل بحيث ينبغي أن تساعد الأمريكيين في الإبلاغ عن كل شيء ترمي إليه واشنطن من إقامة مثل هذه المنشأة. ويكشف التعاون الاستخباري بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل بالإعلان عن هذا المركز الاستخباري الأمريكي في محصلته، عن أن وكالة الأمن القومي الأمريكية لديها منشآت للتجسس المباشر في عدد من الدول، و أن إسرائيل واحدة من هذه الدول المعلنة في الشرق الأوسط التي يتزايد فيها حجم التعاون الاستخباري الإسرائيلي-الأمريكي؛ لمواجهة عدة قضايا في المنطقة؛ منها استمرار التهديد النووي الإيراني، وتهديدات تنظيم القاعدة والتنظيمات الفرعية، وعدم الاستقرار في سوريا واليمن ومصر وليبيا والعراق والأراضي المحتلة، بالإضافة إلى ترتيبات الأمن الجديدة في اتفاق الإطار الأمني المقترح للفلسطينيين والإسرائيليين. ويمكن القول إن التعاون الأمني بين واشنطن وتل أبيب بلغ درجات متقدمة إلى درجة أن واشنطن قدمت معلومات أمنية عن مواطنيها لإسرائيل، وأن تفاصيل الاتفاق حول تبادل المعلومات الاستخبارية محدد في مذكرة تفاهم بين وكالة الأمن القومي الأمريكي ونظيرتها الإسرائيلية. ويضع الاتفاق المشترك حدودًا غير ملزمة قانونًا بشأن استخدام البيانات من قبل الإسرائيليين. ويشار إلى تنوع المساهمات الإسرائيلية للمصالح الوطنية الأمريكية في المجالين الأمني والاستخباري، ومنها القيام بالتدريبات والمناورات المشتركة، فضلاً عن التبادلات حول العقيدة العسكرية. وقد استفادت الولاياتالمتحدة من مجالات التعاون لمكافحة الإرهاب والاستخبارات التكتيكية والخبرة في الحرب المدنية، كما تعزز التكنولوجيا الإسرائيلية المصالح الأمريكية؛ إذ تلجأ وكالات الأمن الداخلي والوكالات العسكرية الأمريكية، على نحو متزايد، إلى التكنولوجيا الإسرائيلية لحل بعض مشكلاتها التقنية. ويتراوح هذا الدعم من تقديم المشورة والخبرة في مجال تقنيات التصوير السلوكي لأمن المطارات إلى الحصول على نظام الرادار التكتيكي الذي تنتجه إسرائيل لتعزيز حماية القوة. والمعروف أن إسرائيل رائدة في تطوير الأنظمة الجوية للطائرات بدون طيار لجمع المعلومات الاستخبارية والقتال على حد سواء؛ إذ شاركت الجيش الأمريكي في هذه التكنولوجيا والمبادئ وخبرتها فيما يخص هذه الأنظمة، كما أن إسرائيل سباقة عالميًّا في مجال التدابير الفعالة لحماية المركبات المدرعة والدفاع ضد تهديدات الصواريخ قصيرة المدى وتقنيات وإجراءات الروبوت، وتقاسمت جميعها مع الولاياتالمتحدة.
مصالح مشتركة
الخلاصة أن التعاون في مجالي الاستخبارات ومكافحة الإرهاب هو تعاون عميق وواسع؛ حيث تعمل الولاياتالمتحدة وإسرائيل على تعزيز مصلحتهما المشتركة في مواجهة حماس وحزب الله وتنظيم القاعدة والجماعات المنتمية إليه، عن طريق تبادل المعلومات ودعم الأعمال الوقائية وردع التحديات وتنسيق استراتيجية شاملة، كما أن تدريب ومناورات القوات الخاصة المشتركة، والتعاون حول أهداف مشتركة، والتعاون الوثيق بين الوكالات الأمنية الأمريكية والإسرائيلية ذات الصلة؛ تشهد جميعها على قيمة هذه العلاقة. أضف إلى ذلك، أن إسرائيل شريك كامل في العمليات الاستخبارية التي تفيد كلا البلدين، مثل الجهود الرامية إلى اعتراض تمويل إيران بقطع غيار لبرنامجها النووي، أو منع تهريب الأسلحة في البحر الأحمر والبحر المتوسط، ومن خلال إتاحة الفرصة لواشنطن للوصول إلى مجموعة فريدة من القدرات الإسرائيلية لجمع المعلومات وتقييمها بخصوص دول وقضايا رئيسية في المنطقة، باعتبار أن إسرائيل قادرة على تركيز الموارد والاهتمام على أهداف معينة ذات أهمية قُصوى للولايات المتحدة. ومن الواضح أن العلاقة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل هي ركيزة مهمة للمصالح القومية الأمريكية، وهناك إمكانية كبيرة لزيادة المنافع الأمريكية عبر تعاون أعمق لتحقيق أمرين وهما:. - سعي الحكومة الأمريكية إلى تحقيق أقصى قدر من المزايا التي يمكن أن تجنيها الولاياتالمتحدة من التعاون مع إسرائيل، وأن توسع الشراكة، سواء في المجالات التقليدية (مثل المجالين الاستخباري والعسكري) أو في مجالات جديدة (مثل الحرب الإلكترونية والمرونة الداخلية). - من المرجح في حال التوصل إلى اتفاق للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين، إن يتزايد دور الاستخبارات الأمريكية مع كلا الجانبين وينمو، وبذلك فإن إقامة هذه المنشأة قد يعد مؤشرًا على وجود تقدم في مفاوضات السلام واستمرار ترتيبات الأمن في سرية كاملة، وبدايةً للتوصل إلى مخطط (ب) في التصميم في الوجود الإسرائيلي في غور الأردن.