فلسفة الصيام ! جلست مع صديقي الصائم ، وتبادلنا الحديث عن الصيام ، ومفهومه ، وسمو الروح فيه ، ودار بيني وبينه الأسئلة ابتدأ حديثه قائلاً : ما هي فلسفتك عن الصيام ؟ كان جوابي له على النحو التالي : إنّ الصوم لازم لكل إنسان ، وإن الصيام فريضة دينية في كل الأديان حتى الديانات الوثنية ، أو ما يطلق عليها الوضعية ، وإن دل هذا فإنما يدل على أن فكرة الصوم كانت راسخة في عقيدة البشرية قبل أن تتفرق إلي أمم وشعوب، بل أنها ترجع إلي أيام آدم ( الإنسان الأول ). والصوم هو عبارة عن قهر الجسد يمارسه الإنسان ؛ لكي تأخذ الروح مجالها ، كما أنه تدريب للجسد . وبهذا الصوم تُكتشف بعض طاقات الروح.. هذه الطاقة الروحية التي تحجب وراء الاهتمام بالجسد أعاقها الجسد عن الظهور ولن تكتشف إلا بالصوم.. وأن غاية ما يصل إليه الصائم هو حالة (النرفانا) أي انطلاق الروح من الجسد للإتحاد بالله، وهذه الحالة لا يمكن أن تُدرك إلا بالنسك الشديد ، والزهد ، والصوم ، وهكذا نجد أن الروح التي تنطلق من رغبات الجسد ، ومن سيطرته بالتدريب، تكون روحًا قوية، تصل إلي بعض طاقاتها الطبيعية ؛ لأنها تكون مشتركة مع روح الله..
سألني من هو الصائم الحقيقي ؟ أجبته قائلاً : إن الصائم الذي يصوم ، ويشتهي متى يأتي وقت الإفطارليس بصائم ، إنما الصائم الذي يشتهي الوقت الذي يعود فيه الصوم من جديد وهذا هو الإنسان الروحي الذي يفرح بفترات الصوم، أكثر مما يفرح بالفترات التي يأكل فيها ويشرب. والصوم الحقيقي الذي يتدرب فيه الصائم علي ضبط النفس ويستمر معه ضبط النفس كمنهج حياة ، فيضبط نفسه في أيام الفطر كما في أيام الصوم، بالرغم من إختلاف أنواع الأطعمة ، ومواعيد الأكل..
وهكذا يكون الصوم نافعًا له، ويعتبر بركة لحياته ، والصوم يصل إلى كماله، في الجوع ، واحتماله ، فإن كنت لا تجوع، فأنت لم تصل إلي عمق الصوم بعد ، وإن أطلت فترة انقطاعك حتى وصلت إلى الجوع، ثم أكلت مباشرة، فأنت إذن لم تحتمل الجوع ، ولم تمارسه ، وبالتالي لم تنل الفوائد الروحية التي يحملها الجوع. قال لي : إذاً ما هي الفضائل الروحية التي يحملها الجوع؟ قلت له الذي يمارس الجوع، يشعر بضعفه عن الغرور ، والشعور بالقوة ، والثقة يذل الجسد، فتُذلُّ النفس، وتشعر بحاجتها إلي قوة تسندها، فتلجأ إلى الله بالصلاة ، وتقول له: أسند يا رب ضعفي بقوتك الإلهية، فأنا بذاتي لا أستطيع شيئا وصلاة الإنسان وهو جائع، صلاة أكثر عمقا. أما الجسد الممتلئ بالطعام، لا تخرج منه صلوات ممتلئة بالروح. ولذلك دائمًا تمتزج الصلاة بالصوم، ويمتزج الصوم و الصلاة.
وحينما يريد الناس أن يصلوا في عمق، نراهم يصوموا ، وهكذا.. فصلوات الناس في أسبوع الآلام لها عمقها، وحتى قراءة القران كذلك حينما تقال بصوت خافت من الجوع هي قراءة أكثر تأثراً وعمقاً .. والصوم ليس مجرد فضيلة للجسد بعيدًا عن الروح. فكل عمل لا تشترك فيه الروح لا يعتبر فضيلة علي الإطلاق .
فما هو عمل الجسد في الصوم إذاً ؟ وما هو عمل الروح ؟ الصوم الحقيقي هو عمل روحي داخل القلب أولًا ؛ لذلك قال الله في الحديث " إلّا الصوم فهو لي وأنا أجزي به " وعمل الجسد في الصوم، هو تمهيد لعمل الروح أو هو تعبير عن مشاعر الروح ، الروح تسمو فوق مستوي المادة ، وفوق مستوي الجسد معها في موكب نصرتها، وفي رغباتها الروحية ويعبر الجسد عن هذا بممارسة الصوم. ونحن إن فهمنا الصوم علي إنه إذلاله للجسد بالجوع والأمتناع عما يشتهي، نكون قد أخذنا من الصوم سلبياته، وتركنا عمله الإيجابي الروحي.