يعتبر ديفيد فينشر مخرج فيلم (فتاة مفقودة) من بين المخرجين الذين يعيدون اللقطة الواحدة أثناء التصوير عشرات المرات حتى يحصل على اللقطة الأفضل. لكن هل الأمر يستحق كل هذه الدقة؟ الفيلم الجديد (فتاة مفقودة) الذي يقوم ديفيد فينشر بإخراجه عبارة عن قصة تمتزج فيها القسوة بالجنون والعبث. هذه الأوصاف ذاتها تنطبق على عملية إخراج الفيلم، وحتى على الفيلم ذاته. ومن المعروف عن هذا المخرج الذي يعتبر العمل معه مضنياً جداً، ميله إلى تصوير المشهد الواحد مرات عديدة، ربما عشرات المرات، مما يتسبب في إرهاق فريق العاملين معه وتحويلهم إلى حطام. ففي فيلم (نادي القتال) يقول البعض إنه جعل فريقه يواصل العمل حتى ساعات متأخرة من الليل ليكرر تصوير لقطة لقطعة صابون. وفي فيلم زودياك أصر في بعض الأحيان على تصوير أحد المشاهد 90 مرة. روبرت داوني جي آر وصفه بأنه منضبط جدا. أما جيك غيلينهول فقال إن فينشر صارم ومعتد برأيه. وقال لصحيفة نيويورك تايمز: "إنني أكره الجدية في التمثيل، في العادة تتلاشى هذه الجدية مع تكرارنا لتصوير المشهد للمرة السابعة عشرة." كثيرون تتداخل في شخصياتهم صفتا الإدارة الجيدة مع الاستبداد، وفينشر واحد منهم.
بلغ معدل إعادة تصوير المشهد الواحد في فيلم تشارلي تشابلن "الولد" 53 مرة. الشيء ذاته يقال عن فنان الكوميديا الشهير تشارلي تشابلن على سبيل المثال، والذي بلغ معدل إعادة تصوير المشهد الواحد في فيلمه "الولد" 53 مرة. وقد لخص طريقته هذه في الاخراج بعبارة: "المثابرة التامة لدرجة الجنون". أما جيمس كاميرون، فقد كان مخرجاً من الطراز المثابر لدرجة أن فريق العمل معه كانوا يرتدون قمصاناً تحمل شعار: "لا أحد يخيفني، فأنا أعمل مع جيمس كاميرون". غير أن ستانلي كوبريك كان يعد شخصا غريب الأطوار يدير فريقاً من غريبي الأطوار مثله. فقد استمر تصوير فيلمه "عيون مغلقة تماماً" 400 يوماً، واستغرق العمل يومين كاملين في تصوير مشهد الممثلة سيدني بولاك وهي تدخل إلى المكتب. بالنسبة لكثير منا يبدو هذا ضرباً من الإسراف، أو السادية في أسوأ الأحوال. لكن هل هؤلاء المخرجون فعلاً مستبدون ومتعجرفون كمايشاع عنهم؟ أم أنهم فقط يحاولون الوصول إلى الكمال عن طريق مراعاة كل التفاصيل التي تجعل عملهم مميزاً؟ شاؤول متزشتين مخرج أنجز فيلمين استعراضيين، فضلاً عن عدة حلقات من المسلسل البريطاني الشهير (دكتور هو)، وكذلك حلقات من مسلسل (ذا موسكيترز)، لكنه لا يرى أي غرابة في تكرار تصوير المشهد عدة مرات. يقول متزشتين: "عندما تبرز مشكلات معينة في أحد الأفلام، تكون عادة مشكلات صغيرة لكنها تكبر بالتدريج، ومع انتهائك من العمل لا تستطيع إصلاحها. لكن لو كنت تفعل ما يفعله فينشر وتعالج هذه المشكلات بالقسوة المطلوبة فور ظهورها، فهذا يعفيك من الاضطرار إلى المعالجة بعد فوات الآوان. إذا توفرت لديك الإمكانيات المالية والوقت لتصوير المشهد 50 مرة فعليك أن تفعل ذلك بلا تردد." هذا ما فعله فرانسيس فورد كوبولا خلال عمله في إخراج فيلم (العراب). لقد كان يصرخ لأن المنتجين لم يقدموا له تصويراً آخر لنفس المشهد أو اللقطة." هذا ما كشفه آل باتشينو في صحيفة الايفننغ ستاندرد اللندنية، مضيفاً أنه يعتقد أن "ذلك السلوك من قبل كوبولا ينطوي على إيجابية ما".
استمر المخرج ستانلي كوبريك في تصوير فيلمه "عيون مغلقة تماماً" لمدة 400 يوماً ويقر باتشينو هذا المنهج الذي يتبعه المخرجون في الإصرار على تكرار تصوير المشاهد واللقطات مرات عديدة، لكن ماذا لو أدت رغبة المخرج في إعادة التصوير إلى احتجاج العاملين معه؟ يقول متزشتين مازحاً: "بعض المخرجين مخلوقات بشرية مروعة، ليس الأمر غريبا أو نادر الحدوث. لكن في نهاية الأمر، لن يغبطك أحد على لقطة غير متقنة. لا يمكنك وضع عبارة على الشاشة تقول: آسف هذا أفضل ما لدينا، لأن المخرج لم يرغب في مواصلة العمل." مع كل ما تقدم، فقد أنجز معظم المخرجين أفلاماً جيدة المستوى دون الحاجة إلى قضاء أيام طويلة في تصوير كل مشهد من المشاهد. فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للمخرجين الآخرين؟ إذا كانوا جيدين في عملهم، ألا يكفي تصوير المشهد أربع أو خمس مرات؟ أندرو أبوت كتب وأخرج عددا من الأفلام الوثائقية عن صناعة السينما، مثل فيلم (طارد الأرواح الشريرة) و (رجل القصب)، ويعتقد أن إعادة التصوير لمرات عديدة تنم عن طموح كبير. ويقول: "أشعر بتعاطف كبير مع من يسيرون على خطى كوبريك وفينشر من المخرجين." ويضيف أبوت: "هؤلاء لا يطمحون لصناعة أفلام يمكن مشاهدتها فقط، ولكنهم يطمحون لصناعة أفلام مميزة وعظيمة من النواحي الفنية. إنهم يسعون دائماً إلى الكمال. بإمكانك أن تسعى إلى الكمال إذا كنت روائياً أو رساماً، ولا أحد يعترض على ذلك، فلماذا يأتي الاعتراض فقط عندما تعمل على صناعة إنجاز يشترك فيه فريق كبير من الناس مثل الأفلام." جنون في محله باختصار، الغاية تبرر الوسيلة، وكما يقول ميتزشتين: "كوبريك سيفتخر بما يفعله للأبد. أفلامه رائعة، حيث تحتوي على شيء ما لا يمكنك إدراكه إلا اذا كنت دقيقاً وتفكر بطريقة منهجية. وإنجاز هذا النوع من الأفلام يحتاج إلى نوع من الحماس الشديد لدرجة الجنون." ويتفق مع هذا الرأي إلى حد ما بيتر كارمر، وهو كاتب دليل المعهد البريطاني للأفلام، وأشرف على تحرير دراسة نقدية هامة بعنوان "ستانلي كوبريك: آفاق جديدة". أندرو أبوت كتب وأخرج عددا من الأفلام الوثائقية عن صناعة السينما، ويعتقد أن إعادة التصوير لمرات عديدة تنم عن طموح كبير يقول كارمر: "إن الدقة المتناهية التي يحرص عليها كوبريك في أفلامه لا تجعله مستبداً. يعتقد الناس أن كوبريك يفعل ما يريد ثم يزعج الناس في محاولة فهم ما أراد. هذا ليس صحيحاً على الإطلاق، فهو مثل تشارلي تشابلن، لديه منهج استكشافي، حيث يمكن أن يعمل على إعداد النص لسنوات عدة، وهذه فقط نقطة البداية." ويضيف: "بمجرد أن يبدأ في التصوير، يريد أن يعكس بالصورة كل التفاصيل الموجودة في النص، وليس في ذلك أي استبداد أو دكتاتورية. فقط يعتبر تكرار التصوير للمشهد الواحد مرات ومرات تبديد لأموال الجهة الممولة لإنتاج الفيلم، لكن في نهاية الأمر، تلقى جميع العاملين مع المخرج كوبريك أجورهم، وإذا طلب منهم العمل لساعات طويلة أو إضافية فإنهم يتلقون أجرهم في المقابل، ولا بد أنهم سعداء تماماً لذلك." وتشهد استراتيجية كوبريك وفينشر انتشاراً مطرداً، وهو أمر يسعد الممثلين. ويساعد الانتقال من التصوير على الشريط السينمائي القديم إلى التصوير الرقمي الحديث في إمكانية تكرار تصوير المشاهد واللقطات مرات لا حصر لها. ووفقا لأبوت، يتزايد عدد المخرجين الذين يتبنون هذه الطريقة كأسلوب عمل بشكل مستمر. يقول أبوت: "لقد أنتجنا وثائقياً عن بليد رانر، وقال أعضاء فريق العمل من الأمريكيين إنهم فوجئوا بإصرار المخرج رايدلي سكوت على فرض إرادته على العاملين معه. بيد أن رايدلي هو واحد من أوائل المخرجين الذين تخصصوا في الإعلانات التجارية." ويضيف: "وإذا كنت تصور إعلاناً تجاريا لشركة نايكي على سبيل المثال، لا يزيد طوله عن 15-20 ثانية، وينبغي أن يحدث تأثيراً كبيراً وواسع النطاق على المشاهدين، فإنه لا مجال للقبول بأي شيء دون الكمال التام." ويتابع: "في تصوير الفيلم، ربما لا تهتم كثيراً بمسألة الإضاءة في لقطة ما إذا كان الأداء جيداً جداً. لكن في الإعلان التجاري، لا يمكنك أبداً استخدام لقطة ليست مستوفية لكافة المواصفات الفنية. جاء رايدلي إلى صناعة الأفلام بهذه الثقافة، وبهذه المفاهيم، وبهذا المستوى من الحساسية لدرجة الجودة في التصوير، وهو ذاته موقف ديفيد فينشر." ويقول بيتر كارمر: "إن المخرجين دائماً يطلبون وقتاً أكثر من المتاح لهم. لهذا السبب، هناك تسلسل هرمي بين التليفزيون وصناعة السينما. فإذا كنت تصور برنامجاً تليفزيونياً، فأمامك أسبوعان، أما إذا كنت تصور فيلماً من مستوى أفلام هوليود؛ فإن لديك وقت أطول بكثير، ولهذا بإمكانك المحاولة مرات ومرات، وتكرار اللقطات وتصوير المشاهد." ويضيف كارمر: "هذا بالضبط ما يحارب المخرجون من أجله: أن يكون لديهم مزيد من الوقت، ومزيد من الكاميرات، ومزيد من الخيارات، ومزيد من عدد مرات تصوير المشاهد. وإذا تبين أن المرات الخمس الإضافية في عدد مرات التصوير تتحول إلى 50 مرة، فإن الأمر في النهاية يستحق كل هذا التكرار."