(الحلقة الخامسة والأخيرة) يستحق المخرج مارتن سكورسيزي أن يندهش كثيراً بعد فوزه بأوسكار أفضل فيلم للعام 2006م عن فيلمه قبل الأخير “ذا ديبارتيد” أو “المرحلون”، بعد أن عاش عشرات السنوات في حسرات متتالية لخسارة روائع أفلامه أمام أفلام لم يتوقع لها أحد أن تقهرها، ولن تكون الدهشة كافية هنا فقط، فهو أيضاً بحاجة إلى الحسرة من جديد كون فيلمه المقتبس عن فيلم آخر يفوز مقابل خسارة أفلامه السابقة ذات الإبداع الأصيل. لم يفز سكورسيزي بأية أوسكار عن “الثور الهائج” الذي أُنتج عام 1980، و”الإغواء الأخير للمسيح” عام 1988م، و”رفقة طيبون” عام 1990، و”عصابات نيويورك” 2002، الذي لم يفز ولا بواحدة من بين عشر جوائز رشح لها ذلك العام، و”الطيار” 2004 بالإضافة إلى ترشيحات أخرى كأفضل سيناريو مقتبس عام 1990 عن فيلم “رفقة طيبون”، وعام 1993 عن فيلم “عصر البراءة”. ومارتن سكورسيزي ليس الوحيد الذي لم تجد الأوسكار إليه طريقاً إلا مرة واحدة بعد عناء طويل، فمثله أو أسوأ منه حظاً فيلسوف الإخراج ستانلي كوبريك الذي حصل على الأوسكار مرة واحدة كأفضل تصوير فقط –وليس أفضل إخراج أو سيناريو- عن فيلم “أوديسا الفضاء”، وخرجت أكثر من 50 عاماً من عمره قضاها في الإخراج خالية الوفاض، لكن المخرج الأعظم الفريد هيتشكوك ب(جلالة قدره) لم يفز بأية أوسكار، وبالمثل لم ينل “المواطن كين” كأعظم فيلم في التاريخ –بحسب ما يذهب إليه غالبية النقاد والسينمائيين- أية جائزة أوسكار. مثل ذلك في فئة الممثلين حصل أل باتشينو مرة واحدة فقط على أوسكار أفضل ممثل عن فيلم “عطر امرأة” 1992، ولم يفز بها عن أفلام أخرى مثَّلت علامات فارقة في تاريخ السينما العالمية كالجزء الثاني من “الأب الروحي”، وسواه. في الجزء الأول من فيلم “الأب الروحي” 1972لم يكن ثمة من يستطيع منازعة مارلون براندو على أوسكار أفضل ممثل في مسابقة الأوسكار عن دور زعيم المافيا الدون كيرليوني، لكنه لم يذهب لاستلام الجائزة، بل بعث فتاة هندية تعلن عن رفضه للجائزة كتعبير عن رفضه لما لاقى ويلاقي الهنود الحمر من ويلات في سبيل صناعة حضارة أميركا التي صنعت أيضاً مجد هوليوود، ومجده هو شخصياً، ويذهب الكثير من النقاد إلى أن موقفه هذا كان سبباً رئيساً لحرمانه من الأوسكار مستقبلاً، وخصوصاً في العام التالي عن فيلم “التانجو الأخير في باريس”، والذي ظهر فيه براندو بشخصية رجل كثير الاضطرابات، وشديد التوتر والتقلب، ولم يستطع أحدٌ أن يفعل ما فعله في تلك الشخصية حتى الآن، وليت الجائزة حينها ذهبت إلى أل باتشينو أو جاك نيكلسون أو روبرت ريد فود. كثيراً ما كانت الأوسكار حمَّالة أوجه سياسية، وربما كانت سبباً في حرمان براندو كما أشرنا من جائزة أفضل ممثل للعام 1973، لكن هذا لا يعني أن الأكاديمية التي تمنح هذه الجائزة تذهب إلى ذلك الحدَّ اللاموضوعي في تقديراتها، أو تسقط بها التقديرات إلى الدرك الأسفل، فهي حتى وعندما تحمل اختياراتها طابعاً يشير لدى الكثيرين من نقادها ومعارضيها إلى خدمة السياسة الأميركية مثلاً؛ فإنها تعطِ الجوائز لأفلام تستحق التقدير، فالقول بأن عملاً ما يحمل فلسفة استعمارية، لا يحرمه حقيقة كونه فيلماً عميقاً ويحمل قيماً جمالية وإنسانية تستحق أكثر من الجوائز، فالجوائز ليست المعيار الوحيد لتقييم الإبداع، ولا حتى الأول، ولا يقوم موضوع العمل الإبداعي أو هدفه بذلك أيضاً. يصلح “خزانة الألم”، الذي تفوق على كثير من الأفلام هذا العام بما فيها “أفاتار”، ولم يعجب الكثير من النقاد؛ يصلح مثالاً نموذجياً لما تحصل عليه جوائز الأوسكار من نقد واتهامات، فهو وإن حمل الكثير من الدلالات والرسائل غير البريئة؛ إلا أنه حمل الكثير من مقومات الأفلام الخالدة، ومع كلِّ مرة يشاهده المرء يكتشف أشياء جديدة لم ينتبه لها من قبل، ويعيد النظر في رأيه حوله، وفيمَ اُتُّهم به من نزعة لترويج قيم الاستعمار. وإذا كنتُ أشرتُ منذ البداية إلى أن الترشيحات نفسها تكون مفاجئة وصادمة؛ فحري هنا أن أذكر أن ترشيح أفلام مثل “ثمينة”، و”الجانب الأعمي” عن أفلام العام 2009 لم يكن أكثر من انتصار للمثالية الزائدة، والقيم غير الفنية، إذ يُقدم الفيلمان أحداثاً وقصص افتراضية عن قصص حقيقية، بيد أن الدراما تملؤها المثالية أكثر من أن يتم الاقتناع بأجزاء منها, وبالمثل يأتي ترشيح “عاليا في الهواء” الذي بدا طريفاً للغاية، لكنه لم يحمل شيئاً يمكن أن يبقى في البال مدة طويلة. لم يكن ترشيح “ثمينة” وحده المفاجئ بالنسبة لهذا الفيلم، بل إن فوزه بجائزة أفضل سيناريو مقتبس متغلباً على “تعليم” البريطاني مفاجأة أخرى، وبالمثل جاء فوز ساندرا بولوك بجائزة أفضل ممثلة مفاجأة أخرى لشيء لم ينجزه أدائها في فيلم “الجانب الأعمى”، فما قدمته لا يزيد عن شخصية امرأة مفرطة المثالية، وكثيرة الادعاء، وإن كان بولوك تمتلك أشياء أخرى ليس منها ما هو معياراً للفوز بالأوسكار، ومن ذلك طيبتها المفرطة، وشقاوتها المتقنة. في العام الماضي 2009، وعند اختبار الأوسكار لأفلام العام السابق 2008، كانت الدهشة الكبرى أن يفوز “المليونير المتشرد” بذلك الكم من الجوائز، متفوقاً على أفلام “القارئ” و”الحالة الغريبة لبنجامين بوتون”، وهي المفاجأة التي يمكن وصفها بالانتكاسة العظمى لأوسكار، فإن تمنح جائزة أفضل فيلم ل”المرحلون” على حساب “بابل” حدث يمكن نقده، والبحث في تفاصيل دقيقة يمكن القول أنها رجحت فيلماً عن العصابات وعالم الجريمة على آخر يقارب بين حضارات العالم كله عبر سيناريو فريد ومدهش وعميق، لكن ما لا يُمكن تصوره أن تأتي قصة مليئة بالتوابل والبهارات الهندية على كلِّ القيم الفنية التي وجدت الأوسكار لحمايتها، فهو أمر صادم جداً. المفاجأة الأخرى في الأوسكار قبل الأخيرة أن تفوز “كيت وينسيلت” بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في “القارئ” برغم أن أداءها فيه لم يكن مقنعاً، وهو الأمر الذي يمكن أن يترافق مع قناعتها السابقة بعدم المشاركة في فيلم عن جرائم النازية ومعاداة السامية؛ ثمَّ اضطرارها لذلك من أجل الأوسكار لا أكثر، وقد كان فوزها بتلك الجائزة لائقاً بها بالفعل، بيد أن ذلك كان ينبغي أن يكون عن دورها في فيلم “الطريق الثوري” الذي أقنعت المشاهدين خلاله بأنها زوجة حقيقية لشريكها في البطولة ليوناردو دي كابريو، لكن –وكما يحلو دائما للكثيرين- يبدو أن ثمة مغزى سياسياً ينتصر لضحايا الحرب النازية مجدداً، ويمكن أن ينطبق التفسير نفسه على فوز شون بين بجائزة أفضل ممثل عن دوره في “ميلك” الذي يحكي قصة المدافع عن حقوق المثليين في الولاياتالمتحدة هارفي ميلك، فأداء بين لم يكن يستحق أكثر من لقب أفضل شجاعة إن كان يوجد مثل هذه الجائزة. يبقى الكثير مما يمكن قوله عن جوائز السينما ومفاجآتها، والكثير عن جوائز الأوسكار التي تقدمها “أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة” كتقليد سنوي يحظى غالباً باهتمام أكبر من الاهتمام الذي تحظى به الأفلام الفائزة نفسها. كثيرون ندموا لخسارة “أفاتار” لجيمس كاميرون أوسكار هذا العام، وقليلون رحبوا بهذه الخسارة، وأقل منهم من شاهدوا الفائز بها “خزانة الألم” لكاثرين بيجلو، لكن الغالبية العظمى من الفريقين لم يشاهدوا بعد “خزانة الألم”، بينما في دهشة العام الماضي صفق كثيرون أيضاً لفوز “المليونير المتشرد”، ولم يعلم كثيرون أيضاً بأمر “الحالة الغريبة لبنجامين بوتون” لديفيد فيشنر، وبالنسبة لفيلم”المرحلون” يتحدث غالبية الناس عنه إلى الآن، بينما يعتقدون أن منافسه على “بابل” يتحدث عن العراق أو ما شابه، ويبقى القول أيضاً أن الفنون تستحق أن تكون نخبوية جداً مثلما هي شعبية أيضاً. [email protected]