من هو إدوارد سنودن كاشف أسرار وكالة الأمن القومي الأمريكية؟ ولماذا أقدم هذا الرجل على ما فعله؟ الفيلم الوثائقي الجديد "سيتيزين فور" يتيح لسنودن الفرصة لكي يتحدث بلسانه عما جرى.. والناقد السينمائي أوين غليبرمان استمع لما قاله سنودن وأعرب عن إعجابه به، وكتب السطور التالية: يبدو أن "سيتيزن فور"، الفيلم الوثائقي المثير الذي يمثل قيمة إخبارية كبيرة للمخرجة الأمريكية لورا بويتراس، عملا نادرا من كل الوجوه. فالفيلم يتناول حدثا أثار ضجة هائلة وسط أمواج متلاطمة. وفي معظم أجزاء هذا العمل الوثائقي، نجد أنفسنا داخل غرفة بيضاء الجدران مجهولة بأحد فنادق هونغ كونغ، وذلك في وقت ما من شهر يونيو/ حزيران من عام 2013. في تلك الغرفة، يناقش سنودن، المدير السابق للنظم في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي آيه)، قراره الخاص بكشف النقاب عن آلاف الوثائق السرية، التي أماطت اللثام عن نظام المراقبة واسع النطاق الذي تتبناه وكالة الأمن القومي في الولاياتالمتحدة (إن إس أيه). النقاش جاء في سياق مقابلة امتدت على مدار ثمانية أيام، وأجراها مع سنودن كل من المخرجة بويتراس، وكذلك الصحفي في صحيفة الغارديان البريطانية غلين غرينوالد، الذي كان أول من كشف النقاب عن هذه القصة. وبعد فترة قصيرة انضم إليهم إيوان ماكاسكيل، وهو صحفي في الغارديان. وفي استعارة للعبارة التي تفوه بها الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون عندما شاهد الفيلم الصامت "ذي بيرث أوف ذي نيشن" أو (ميلاد أمة) عام 1915، فإنه يمكننا أن نصف الأمر بأنه أشبه "برؤية التاريخ وهو يُكتب بألسنة البرق". ولعل ما يجعل "سيتيزن فور" عملا ممتعا ومثيرا للغاية وكذلك أكثر فيلم وثائقي لا غنى عن مشاهدته خلال العام الجاري، هو حقيقة أن وجود سنودن ظل غامضا للغاية مثل الأشباح. لكن من خلال الفيلم، بات الآن بوسعنا أخيرا أن نرى هذا الرجل ونسمعه، ليزاح الستار عن شخصية متأملة مفكرة ومثير للإعجاب.. عن مهندس تقنية ذي شخصية متمردة مستنيرة، لم يكن قط يرغب في أن يصبح بطلا لقصة مثيرة أو فيلم مثير مليء بالمؤامرات. وبطبيعة الحال تتفاوت النظرة إزاء سنودن بحسب التوجه السياسي للمرء، فهناك من يراه مقاتلا من أجل الحرية، وثمة من يعتبره وغدا خسيسا. لكن حتى إن كنت ستصمه بالخسة والنذالة، فسيكون من الصعب عليك أن تشاهد فيلم "سيتيزن فور"، دون أن يساورك حتى قدر قليل من الإعجاب بما يتمتع به هذا الرجل من جرأة تمتزج بالتواضع والصرامة في آن واحد. وعلى أي حال، كان سنودن المحلل السابق بوكالة الأمن القومي الأمريكية، يتابع الأفلام الوثائقية التي قدمتها بويتراس من قبل مثل فيلم (بلدي..بلدي)، الذي يمثل صيحة احتجاج وغضب إزاء طبيعة الحياة في العراق تحت الاحتلال الأمريكي. كما كان سنودن على علم بأن اسم بويتراس كان من بين الاسماء المدرجة على قائمة أعدتها وكالة الأمن القومي الأمريكية لأكثر الأشخاص الذين تسعى الوكالة لمراقبتهم، وهو ما يعني أن عملاء الوكالة كانوا يرصدون ويراقبون أي حركة أو نشاط تقوم به هذه المرأة. وفي هذا الإطار، رأى سنودن أن بويتراس ستتعاطف مع قضيته، وبدأ التواصل معها عبر سلسلة من رسائل البريد الإليكتروني مجهولة الهوية، حملت توقيع "سيتيزن فور". وفي اللحظات الأولى من أحداث الفيلم الوثائقي، أبرزت بوتيراس على نحو مباشر في إطار البناء الدرامي للعمل وضعها كمصدر خطر أمني من وجهة نظر وكالة الأمن القومي الأمريكية، إذ ألقت الضوء على وثائق ترسم صورة تحركاتها وتنقلاتها بين المطارات المختلفة، وذلك مع إشارة غير مباشرة تفيد بأن كل منّا قد يكون عرضةً لهذا الأمر. وبدت أجواء الخداع والتآمر التي هيمنت على العمل، مثيرة إلى أبعد حد وجعلتنا ندرك أن ما نراه أمامنا ليس مجرد فيلم وثائقي. من جهة أخرى، فإن شخصية سنودن، الذي بلغ الثلاثين من العمر خلال تصوير الفيلم، هي أبعد ما تكون عن شخصية المحرض المتطرف لعامة الجماهير. فقد نشأ هذا الشاب وسط أسرة ذات خلفية عسكرية. وحتى من حيث المظهر، يبدو سنودن أقرب إلى صورة الأستاذ الجامعي الشاب الأنيق، بنظارته وقمصانه المواكبة لأحدث صيحات الموضة وكذلك هيئة شعره ولحيته المشذبة الخفيفة التي ترتسم على وجهه. أ جواء الخداع والتآمر في عالم التجسس كانت مثيرة بدرجة كبيرة في الفيلم ومن خلال هذا العمل، لم يكن خافيا شعور الفزع والذعر الذي كان يتملك سنودن. ففي الوقت الذي جرى تصوير "سيتيزن فور"، كان يدرك أنه قد يُزج به وراء القضبان، وهو ما جعل كل عباراته مفعمة بنزعات الشك والخوف المرضي من الآخرين. ولكن إدوارد سنودن تعامل بتواضع مع احتمال تعرضه "لمعاناة شديد" بعدما أقدم على كشف وثائق سرية أمريكية. فقد بدا كمواطن عادي يائس، أدرك بفزع وخوف متزايديّن، أن وكالة الأمن القومي في بلاده، وفي إطار ردها على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، جمعت السجلات الخاصة بكل الاتصالات الهاتفية وجميع رسائل البريد الإلكتروني وكذلك كل عملية بحث عن بيانات جرت في الولاياتالمتحدة. وفي ظل إدارتي جورج بوش الابن وباراك أوباما، صارت هذه الوكالة أشبه ب"جهاز لشفط الغبار" في مجال المراقبة لكل البيانات والسجلات والمعلومات. وفي هذا السياق، جرى تجاهل مفهوم الخصوصية تماما كوسيلة لمحاربة الإرهاب. وبالمقارنة مع الأساليب التي تستخدمها وكالة الأمن القومي الأمريكية في المراقبة، تبدو الأيام التي كانت تتجسس فيها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية على المواطنين عبر تثبيت أجهزة تنصت في مصابيح، وكأنها تعود للعصور الوسطى. وبالرغم من الموهبة التي تتمتع بها لورا بويتراس كمخرجة، فإن عملها اتسم ببعض الرتابة والافتقار للخيال. ففي ثنايا فيلم "سيتيزن فور"، لا توجد سوى بعض لحظات التشويق والإثارة ذات الطابع الواقعي، مثل تلك المشاهد التي أظهرت سنودن وهو يرد بعصبية على كل اتصال هاتفي يرد إليه في غرفته بالفندق في هونغ كونغ، وكأن مثل هذه الاتصالات ستكشف غطاء السرية الذي كان يتدثر به. وفي نهاية المطاف، لا يتضمن الفيلم الكثير مما يمكن الحديث عنه، بخلاف ما كان على سنودن نفسه أن يقوله. ولحسن الحظ فإن ذلك بدا كافيا في حد ذاته. وحتى إذا كان يمكن الدفاع عن الدوافع وراء عمليات المراقبة واسعة النطاق التي نفذتها وكالة الأمن القومي الأمريكية، فإن سنودن رأى أن النظام الجديد الذي تتبناه الوكالة لجمع المعلومات والبيانات وتطبقه يعني أن السلطات الأمريكية تجاوزت حدود ونطاق السلوك المقبول، بما يعنى أن الولاياتالمتحدة ربما تنزلق باتجاه التحول إلى دولة استبدادية، إذا ما وصل إلى سدة الحكم فيها زعيم غير مناسب. ولهذا السبب، فبمجرد إدراكه لنطاق وحجم الأنشطة التي تقوم بها وكالة الأمن القومي الأمريكية، شعر سنودن بأنه يجب عليه كشف النقاب عما يعرفه من معلومات في هذا الصدد، واعتبر أن ذلك واجبه، وأن البرنامج الجديد الذي تستخدمه واشنطن للتجسس على نحو واسع النطاق يشكل سراً ينبغي أن يُماط عنه اللثام. ولكن فيلم "سيتيزن فور" يعاني من تناقض في جوهره. ففي مرحلة ما وبينما تظهر للعيان الأنباء الخاصة بنظام التجسس الأمريكي الجديد، يشير سنودن إلى أنه سيكون من قبيل الخطأ الفادح أن يصبح هو نفسه القصة التي تسلط عليها الأضواء، وليس عمليات التجسس والمراقبة. واعتبر أن ذلك سيصرف الانتباه بعيدا عن وكالة الأمن القومي الأمريكية وأنشطتها. ومما لاشك فيه أن سنودن كان على صواب في هذا الشأن. ولذا فإن اختفاءه بعيدا عن الأنظار قبل حصوله على حق اللجوء إلى روسيا ساعده في تجنب أن يكون في دائرة الضوء. المفارقة أن ذلك ليس هو الحال في فيلم "سيتيزن فور". فالفيلم لا يكشف عن معلومات جديدة بخصوص ما يمكن أن يُسمى دولة المراقبة ذات الأذرع الأخطبوطية التي تديرها أجهزة الاستخبارات الأمريكية، لكن الجديد في هذا العمل هو شخصية إدوارد سنودن نفسه. وعلى الرغم من أن هذا الأمر يشكل بوضوح جانبا جوهريا وضروريا من القصة، فإننا حين نشاهد هذا العمل الوثائقي ننغمس في الأحداث والتطورات الدرامية المتعلقة بسنودن نفسه ومصيره، وهو ما يجعل من الصعب القول ما إذا كان ذلك الفيلم قد أسهم بالفعل في تسليط المزيد من الضوء على أنشطة وكالة الأمن القومي الأمريكية في مجال المراقبة، أم أنه حوّل القضية برمتها في واقع الأمر إلى عمل إعلامي أو سينمائي يتمحور حول شخصية بعينها ليس أكثر. ومن هنا فإن فيلم "سيتيزن فور" يثير تساؤلا مفاده: هل وكالة الأمن القومي في الولاياتالمتحدة تشكل في حد ذاتها شيئا يمكن للناس العاديين أن يهتموا به من الأساس دون وجود هذه الشخصية الرمز (مثل سنودن)؟ ربما يسعى المرء باستماتة لأن يأتي الرد بالإيجاب، ولكن النشوة التي أشاعتها مشاهدة سنودن في هذا الفيلم الوثائقي، لدى الشغوفين بمتابعة الأخبار، تدفع الإنسان للتساؤل عما إذا كانت الإجابة ربما ستكون بالنفي في نهاية المطاف.