لقد جعل الله الاسلام اخر الديانات السماوية وجعل محمد اخر الانبياء والرسل، وهذا ليس لان الرسالة ستحتاج بعد عدة قرون الى اعادة صياغة وترتيب او محاولة للتفسير، وكذلك ليس لان الامة ستحتاج بعد كل قرن الى مجدد لدينها كما وصل الينا "ان الله يبعث للأمة كل 100عام من يجدد لها دينها"، بل جعلت اخر الديانات لأنها مكتملة ونقية وغير قابلة للإضافات والتحديثات والمزيد من التأويلات، كما جعل محمد اخر الانبياء والرسل لأنه لن يأتي بعده من هو افضل منه على الإطلاق، فليس هناك مجددين كما سرب الينا او مبشرين جدد، فالإسلام العظيم الذي اتى به محمد الصادق الامين كامل ونقي وصحيح فهو هاديا وبشيرا ومتمما لمكارم الاخلاق كما جاء على لسانه، فلم يحاول صنع اخلاق غير معروفة لدى العرب، ولم يبتكر اعرافا غير متأصلة في الثقافة العربية، بل عمل على تشذيب الكثير من العادات والأعراف ورتب الكثير من السلوكيات والممارسات والقيم، بل انه احيا عبادات ورسخ مبادئ حسنة كانت عند غير العرب من اليهود كصيام يوم عاشورا، كما ورد. ان ما دفعني الى الكتابة في هذا الموضوع الشائك هو ما يحصل اليوم للمسلمين في شتى بقاع الارض وما ال اليه حالهم في اوطانهم كما في بلاد اغترابهم بسبب الاسلام السياسي وتطويع الدين وفقا لأحكام السياسة، حيث تخلخلت الكثير من المفاهيم الصحيحة وتعمقت مفاهيم اخرى في فكر الأمة، فأصبحت عاجزة عن المواكبة والحداثة وفهم المتغيرات المحيطة بها وغير قادرة على تحديث منهجها الاصلاحي والتنويري ومفاهيمها الفقهية والدعوية، وآل امرها الى اياد مأثومة من حركات الاسلام السياسي والتيارات الدينية والجماعات الاسلامية المسيّسة التي ما ان تختفي احدها حتى تظهر غيرها عشرات اخرى حاملة معها مناهج وأفكار تهدف الى نشرها وغرسها في عقول وقلوب من يقعون تحت اياديها ووضعها موضع العقيدة في خطة توسعية بعيدة المدى وفي رفض كامل لما تقوله الجماعات الأخرى، وفي تبادل الاتهام بالكفر او الزندقة او الالحاد واقلها الاتهام بالخروج عن المنهج المحدد. عند النظر الى حالنا اليوم نرى ان المسلمين والعرب تحديدا يعيشون حالة من التخبط والتشتت نتيجة عدم الفهم الصحيح لمبادئ الاسلام ولما انزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقد تواترت الينا احاديث وأقوال نسبت الى الرسول صلى الله عليه وسلم او لأصحابه تجعل اللبيب حيران، فوضِعت موضع التقديس وأصبحت دستورا ومنهج، وساعدت الجماعات المتأسلمة بشقيها المتشدد والمعتدل في تعميقها وتكريسها مما ادى الى نشوء قناعات مختلفة واعتقادات متباينة لدى الكثير من العوام تتفاوت بين التكذيب والرفض او التصديق مع التحقق وبين الايمان المطلق، ومحاولة فرضها كبراهين دامغة والعمل في نشرها وتوسيع رقعتها الفكرية والجغرافية بشتى الطرق حتى وان كانت احدى هذه الطرق هي التكفير ومن ثم اللجوء الى القتل. فقد استطاع دعاة ومروجي الفكر الظلامي ان يبقوا على الأمة قابعة في مكانها غير مفكرة او متدبرة، فتحكموا في مصيرها واحكموا قبضتهم بتلابيب ارادتها وحريتها وأحصوا عليها انفاسها التواقة الى المستقبل المشرق، رافضين كل عوامل التقدم والتحضر مشوهين كل مظاهر التطور والرقي، وبقي الذين وهبهم الله العلم والتقى والنور غير مسموعين ولا يلتفت اليهم، فهم لا يملكون من امرهم شيء، فقد طم عليهم الجهلة الذين اتخذوا الدين وسيلة للوصول الى غاياتهم وتحقيق مصالحهم الانانية الكامنة في اعماقهم المظلمة وبسط فكرهم ونفوذهم على اكبر قدر من الجغرافيا والإنسان ومثلوا معاني امبريالية الاسلام السياسي في اوضح صورها، فاستطاعوا الجام افواه الناس بحجة الإسلام واتبعهم البسطاء والجهلة والساذجين، متناسين ان الاسلام لا يرفض الاخر ولا يصادر حقه في الحياة والعيش بحرية كما يريد، ولا ينتهك حرماته او يسلب حقوقه بدون وجه حق، وان الاسلام دين لا يبيح القتل لأي سبب مهما كان ولا يقبل ان يعيش الفرد خائفا يترقب، كما لا يرضى باحتقار من هم على غير ديننا او مذهبنا وتحويلهم الى وحوش كاسرة ونشر الافتراءات عنهم. خلال تاريخ الاسلام عجزت حركات الاسلام السياسي عن توحيد الفكرة والهدف من وجودها كأحزاب سياسية دينية، حيث اتجهت النخب فيها الى التعامل السياسي البحت واتخذته خيارا هامها في مسيرتها حتى وان كان مبتعدا عن القواعد الدينية التي وضعتها لنفسها كحركات دينية أساساً، فعبثت بمقدرات الامة وأجهضت مراحل التقدم التي احرزتها في نظالاتها وجعلتها مفرغة من مضمونها العروبي والقومي بزعمها انها ليست من اجل "الله"، وعززت الهزائم العربية المتكررة في مواجهة العدو الصهيوني فعملت على شق الصفوف في خضم المعارك التي خاضتها الامة في سبيل تحرير مقدساتها، فلم تستطع توحيد الصف العربي والاسلامي لمواجهة عدو الامة الأول، فوهنت الامة وذبلت العزيمة القتالية للتحرر والتي كانت في عقود منصرمة في ظل الفكر القومي والتحرري اكثر اشتعالا، فتحولت الاْمة إلى هامش الأمم، وأصبح ينظر الى المسلم على انه انسان من كوكب اخر لا يمت للإنسانية ولا الاخلاق بصلة، ينكر المحبة والإخاء ولا يقبل العيش إلا في ظل الكراهية والإنتقام، كما تحولت اسمى الديانات وأصحها على الارض إلى وصمة على كل من يحملها وهي بريئة منهم، فبسببهم وبسبب ما اجترحه المندسين فيها وما اقترفه فقهائهم وعلمائهم المشبوهين الذين حولوها الى قواعد هشة يتجبر بها الطغاة على البسطاء والمساكين. بقي الصراع الابرز في الحركات الاسلامية خلال تاريخها هو على نظام الحكم ونوعه، حيث توجد حركات ما زالت تنادي بعودة الخلافة، وتارة تحت ما يسمى بالنظام الاسلامي وهو الذي يجب ان يكون الاسلام مصدر كل التشريعات والدساتير، وهو ما اظهر اشكالية جديدة في هذا التصور هي اشكالية مسمى الدولة المدنية التي ينادي بها الليبراليون، والتي تدعو الى تحقيق مبادئ العدل والمساواة والتكافل والشراكة الحقيقية، فمع ان هذه المبادئ التي تدعو اليها الدولة المدنية غير متعارضة مع ما جاء به الاسلام وما يدعو الى تحقيقه، إلا ان الحركات الاسلامية تعارض هذا المسمى بشدة حتى وان كانت المبادئ لا تتعارض مع روح الإسلام، مما يؤكد ان الدولة الاسلامية التي تطالب بها الحركات الاسلامية هي دولة أيديولوجية، وهي بالتأكيد سوف تفضى الى ان تعطي المسلمين كافة حقوقهم وتمنعها على غير المسلمين الموجودين في كل دولة، -والمسلمين هنا هم كما تراهم هذه الجماعة او تلك- حيث ان مسالة الولاء لدين جماعة بعينها سوف تكون هي السمة البارزة في هذا النظام خاصة وليس الولاء للدولة، بالإضافة الى انه في منهج هذه الحركات الاسلامية خاصة المتشددة منها فانه يتوجب على غير المسلمين دفع الجزية او الرحيل "داعش في العراق مثالاً". ان التحدث عن نظام دولة الخلافة كون السلطة الدينية والسياسية تكون في يد شخص واحد فهو الحاكم السياسي وهو الامام الديني هو كمن يتحدث عن اعادة تلك الامة بكل مستحضراتها الى هذا الزمن، كما احب ان اضيف ان هذا النظام لو اردنا تطبيقه الان لن يستمر ولن يؤتي اكله كما يطمح اليه، فهو لم يستمر في وجود الدولة الاموية والعباسية، وهي من اقرب العصور الى عصر النبي "ص" وعصر الخلفاء الراشدين، فقد ادبر الخلفاء في هاتين الدولتين عن الحكم الديني وتركوه الى فقهاء معنيين به، واتجهوا هم بالكلية الى الحكم السياسي او ما اسميته بالعلمانية الاسلامية، فكيف سيكون الحال في عصرنا الحاضر وقد تشبعت الامة بالف فكر والف عقيدة. بالرغم من ادراكنا الديني بأهمية الوحدة العربية والإسلامية إلا ان تكرار نماذج الماضي الاسلامي يثبت امكانية فشلها الان وبشكل رهيب خاصة اذا امعنا النظر في هذا الاختلاف الفكري والمذهبي والعقدي والاجتماعي الذي تعيشه الامة، فإذا تحدثنا عن نموذج الخلافة "الراشدي" نجد ان هذا سوف يكون اقرب النماذج فشلا استنادا الى الواقع الراهن، ورجوعا الى التاريخ السياسي للإسلام نجد ان الخلفاء الراشدين قد واجهوا تيارات معادية قوية منذ اول ايام الخليفة الراشد ابو بكر الصديق "رضي الله عنه" وظهور حركة الردة والادعاء بالنبوة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنلاحظ ان هذه الحركات ظهرت بشكل فجائي وغير متوقع لأنها حصلت في وقت كان الشيطان يأس ان يُعبد في جزيرة العرب ولان تلك الامة تتلمذت على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى يد من ارسلهم من اصحابه الموثوق فيهم لتعليمها الاسلام فهم قد راو الرسول صلى الله عليه وسلم وسمعوا منه إلا ان الاحداث التي اعقبت وفاته صلى الله عليه وسلم اثبتت ان هناك اختلاف في الفهم واختلاف في التفسير والتفكير وتطبيق ما وصل الى اذهانهم من احاديث وتفاسير وتعاليم دينية. حدثت حرب الردة التي عصفت بالأمة الاسلامية وأعاد الخليفة ابو بكر تطهير جزيرة العرب هذه المرة بقوة السيف، إلا ان الخليفة العادل عمر ابن الخطاب الذي تولى الخلافة بعد وفاة ابي بكر مات شهيدا على يد فردا من رعيته، ومات الخليفة ذو النورين عثمان شهيدا على ايدي جماعة من رعيته، ومات الخليفة علي كرم الله وجهه شهيدا على يد فرد من رعيته، بهذا نصل الى خلاصة مفادها ان ثلاثة من الخلفاء الراشدين تم اغتيالهم في مرحلة تاريخيه مهمة ووقت كانت الامة على منهج واحد وفكر واحد وكل من كان يعيش على الارض وقتها صحابي او تابعي وما زال صدى النبوة لم يخبوا، ولم تكن هناك أي افكار اخرى متعمقة في عقولهم ولم تكن هناك أي مدارس فكرية او ايديولوجية البتة، فما بالكم اليوم وقد تعددت الثقافات وتلاقحت الرؤى، وتقاربت البلدان ، وتعددت المذاهب الفكرية والمدارس الثقافية واختلطت الدماء والعقول واصبحت الكرة الارضية قرية كونية صغيرة . نستشف مما سبق وندرك ان نظام الخلافة هو اقل انواع انظمة الحكم استقرارا واستمرارا مقارنة مع انظمة الحكم التي تلته كالعهد الاموي والعباسي التي اتسمت بنوع من الاستقرار، حيث لم يتجاوز عمر دولة الخلافة الراشدية 30عام منذ وفاة النبي الاعظم محمد صلى الله عليه وسلم الى تنازل الحسن بن علي رضي الله عنه وهو اقل انواع الحكم قابلية في وقته، كما اتسمت تلك الحقبة بالانقسامات السياسية "مقتل ثلاثة خلفاء" مقارنة مع الانظمة التي تلت الحقبة الراشدية حيث عمد كل خليفة الى تعيين ولي واحد للعهد يكون من بعده، فساهم ذلك في تفويت فرص كثيرة لإثارة القلاقل والانقسامات مما ادى الى اطالة عمر الدولة نوعا ما، إلا ان الحال تغير بشكل سريع عندما عمد الخلفاء في الدولة العباسية الى تعيين اكثر من ولي للعهد كما حدث في حالة الامين والمأمون حيث بدأت الدولة تفقد استقرارها وثبوتها وادى الى انهيارها سريعا فيما بعد، كما انه عند مقارنة نظام الخلافة ككل بأنظمة الحكم التي كانت سائدة في الحقبة نفسها كالدولة الرومانية التي استمرت اكثر من 1200سنة، يؤكد حقيقة اخرى مفادها ان اعادة استلهام نماذج دولة الخلافة التي تلت العهد الراشدي كالدولة الاموية والعباسية والعثمانية سوف يؤدي الى فشل ذريع ايضا وهذا بحكم التاريخ السياسي للأنظمة الحاكمة التي توالت مذ وفاته صلى الله عليه وسلم فكل من يدعون الى نظام الخلافة هم اما واهمون وإما غير مدركين لماهية الواقع والتحديات العالمية والأخطار المحيطة بنا. كل هذا من التاريخ وهو الذي يدعونا اليوم وبشكل قوي الى المناداة بالدولة المدنية الحديثة والتي هي ارتباط الدولة بالمجتمع، كما ان تطورها يجب ان يكون وفقا لمنظومة ثقافية فكرية تلامس هذا المجتمع وتمثله، لهذا فانه لازما علينا ان نتحدث عن المواطنة ومفهومها الخاص ومدى قابلية تحقيق هذا المفهوم، بالرغم من وجوده في الاسلام إلا ان تحقيقه يحتاج الى اكتمال النظرة في علاقته بشكل الدولة في ظل تطبيق انساني بحت، فشكل المواطنة ونشوئها في أي دولة -مهما كان نوع نظام الحكم فيها- قابل للتطور والحياة بدون ربطه بالدين او بالملة او العرق ولكن بربطه بهدف الدولة ومساعيها الحقة لإيجاد الاستقرار والنهضة. ان امكانية اكتمال الحالة في المواطنة المدنية يجب ان يكون وفقا للحالة الثقافية والسياسية ومواكبا لها مع تغيير الذهنيات القائمة وتحويلها الى خدمة المصلحة العامة والهدف العام للدولة وإعادة بناء الدولة الهشة اصلا والتي كابدت العديد من الاخفاقات عبر المراحل التاريخية حيث كانت وما زالت نزعة حب السلطة لدى كل الحكام خلال التاريخ السياسي للإسلام هي المحرك في توسيل الدين للوصول اليها، وأصبح الاسلام بالنسبة لجماعات سياسية اخرى مأوى وملاذ امن وطريق سالك للوصول الى غاياتهم السلطوية. لهذا اذا أرادت الحركات الاسلامية بكافة تصنيفاتها ان تقيم دولة بمعناها الحضاري والحداثي، عليها ان تسعى وبشكل جاد الى الدعوة لإقامة دولة العدالة والمساواة والمواطنة والتسامح والتعايش السلمي، فبهذه المبادئ سيستطيعون ارساء جوهر الاسلام والمساعدة في انتشاره بقوة وتوسيع رقعته، وليس بالدعوة الى تطبيق الشرع والذي تم حصره فكريا ولو بحد ادنى بأنه اقامة الحدود والأحكام الفقهية، كما عليها ان تقف موقفا قويا من كافة القضايا الوطنية كما يراها اصحابها وليس موقفا مترددا ومتناقضا.كما عليها ايضا ان تتبنى المعاني الراقية والمبادئ السامية للعلمانية في ظل ما يقبله العقل وتقره العقيدة، فقد اصبح العالم كل العالم يتغنى بما تتيحه العلمانية وما تدعو اليه وما تضمنه من افكار تقدمية هدفها الاكبر جعل العالم قرية كونية صغيرة - حتى وان كانت قرية مالية بحته بعيدة عن روابط القرية الاجتماعية -، تخدمه المصالح المشتركة بين الامم والتقاء الثقافات وحوار الأديان، إلا ان الكثير من المتأسلمين لديهم اعتراض شديد على العلمانية بحجة تنافي ما تدعو اليه مع الاسلام متناسين ان الحداثة والحضارة التي بناها الغرب ووصل اليها اليوم بدأت بتحقيق نصوص التوراة والإنجيل والقران ثم مؤلفات ارسطو وأفلاطون وغيرهم من المؤلفين والفلاسفة وما زال العمل مستمرا الى اليوم. في الاخير .. احب التأكيد على ان العولمة حقيقة مفروضة، وعلينا الاعتراف بها والإيمان بوجودها كحقيقة مؤثرة مع التحكم بها وتوجيهها التوجيه الامثل لخدمة الامة، والعمل بالتوازي على اقناع الرافضين والممانعين لها بان النتيجة الحتمية لهذا الرفض سوف تكون في صالح الغير الذين لا يريدون من العولمة سوى وضع الشعوب تحت المجهر والتحكم بمصيرها..