الكتابة عن التصالح والتسامح أمر معقد وشائك في أي دولة كانت, اما وان يكون موضوع الكتابة عن بلد مثل الجنوب العربي المحتل فإن الامر يصبح اكثر تداخلا واكثر جدلا.. لكنه امر لابد من خوضه لأهميته وادعو كل المعنيين للكتابة في هذا المجال, فهي دعوة لمراجعة اداء الثورة التحررية في الجنوب العر بي .. مراجعة لمبادئ واسس ومفاهيم التصالح والتسامح التي ارى بانها تتماهى مع قيم الثورة التي يغيب عن الكثير فهمها . لا ادعي شيء غير اني احاول هناك إثارة وتحريك المياه الراكدة لعلها تكون بداية لمراجعة شاملة لمسيرة عشر سنوات خلت. الموضوع كتب في حلقتين الحلقة الثانية
التصالح والتسامح مفهوم قانوني وحقوقي صرف قبل ان يكون قيمة حضارية وإنسانية وأخلاقية عظيمة تخضع لمعايير دقيقة واجراءات شديدة تتمثل في التحقيق الشامل في الجرائم المعنية وجمع الأدلة والبراهين بمختلف الوسائل بما في ذلك الاستماع لشهادات واقوال الضحايا والجناة على حد سواء. ايضا من الضروري ان تقوم بهذه المهمة الصعبة هيئة او لجنة مخولة تملك صلاحيات قانونية ودستورية وتخضع لإشراف الدولة ومراقبتها. ومن اهم المعايير ايضا هو اعتراف الجناة بكل جرائمهم بشكل علني وشفاف وطلب الغفران والصفح وهذا شرط لابد منه يمهد للقبول من الضحايا بالعفو ان ارادوا. ومن المعايير الضرورية هي محاكمة واتخاذ اجراءات قاسية ضد كل من ينكر او يرفض التعاون مع لجنة التحقيقات ويشمل كذلك الذي ارتكبوا جرائمهم بدوافع غير سياسية لتحقيق منافع شخصية او لإشباع حقد او ضغينة.
ومن سخريات القدر ان من كانوا يكفرون خصومهم في الجنوب العربي بحجة موالاتهم للرجعية والإمبريالية صاروا اليوم هم يترددون على موائدهم دون خجل من ماضي ثوري او من اعتداد بالنفس. سقوط مريع لكل القيم والمبادئ عندما نرى منظّر الجناح التقدمي للجبهة القومية في المؤتمر الرابع لها في زنجبار 1968م نائف حواتمه ضيف دائم على مائدة عبدالله صالح. بتلك الوثيقة وذلك التنظير ذبح قادة الثورة امثال فيصل عبداللطيف وصلب قحطان الشعبي وصفي 24 من ابرز قادة الدولة الجنوبية بقنبلة واحدة في سماء شبوة .. تلك الثروة التي خسرناها ولم نستطع تعويضها حتى اللحظة كانت ممكن ان تصحح الطريق وتقود البلد الى بر الأمان.. هل يمكن اعتبار تصفيتهم جريمة سياسية ام حقد وضغينة خاصة وانهم رفاق من نفس التنظيم.. وهل اخفاء الحقيقة حولها وحول تاريخ الثورة والدولة على الأجيال امر عابر ... لا اظن بل انها جريمة من سبق الإصرار والترصد.
كما ان من اهم المعايير التي تعارف عليها هي تقديم التعويض المناسب للضحايا وذويهم وبذل كل الجهود لإقناعهم بقبولها ان هم رأوا ذلك.
عرّفت الأممالمتحدة مفهوم العدالة الانتقالية في مذكرة إرشادية للأمين العام للأمم المتحدة بأنها تشمل:
" كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المسائلة وإحقاق العدل وتحقيق المصالحة وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء , مع تفاوت مستوى المشاركة الدولية ( أو عدم وجودها مطلقا ) ومحاكمات الأفراد والتعويض وتقصي الحقائق والاصلاح الدستوري وفحص السجل الشخصي للكشف عن التجاوزات , والفصل , أو اقترانهما معاً . “
GUIDANCE NOTE OF THESECRETARY-GENERAL United Nations
Approach to Transitional Justice”
صحيح اننا لسنا في وضع يسمح لنا بتحقيق هذه المصالحة على الطريقة التي جرت بها في اكثر من بلد, لكننا مطالبون بتقديم دراسة وتصور متكاملين عن الكيفية التي بها نجري التصالح والتسامح وفقا لظروفنا لنحدد ما هو ممكن الآن وماهو مؤجل لاحقا. المضحك والمبكي ان الكثير من الأشخاص الذين تصدوا لهذا المشروع وأعلنوا على ضوئه عن تأسيس ما سمي بملتقى التصالح والتسامح والتضامن الجنوبي الجنوبي وابرزهم امين صالح محمد وحسين زيد بن يحي وغيرهم لم نعد نرى لهم أي تواجد او علاقة بهذا الملتقى حتى البيانات توقفت ولم يقدم هذا الملتقى أي خطة او تصور او مراجعة حول كيفية اجراء التصالح والتسامح على حد علمي. وهذا لا يختلف عن الإعلان الذي اطلقه ثوار ساحة العروض في 14 اكتوبر وتحديد يوم ثلاثين نوفمبر 2014 م كيوم للاستقلال ومغادرة آخر جندي يمني وما ان اقترب الموعد حتى احتار الكل وبدأوا يتساءلون عمن اطلق هذا البيان الناري وماذا اعد له فلم يجدوا غير الساعة الكبيرة التي بدأت تحسب بالعد التنازلي لهذا الموعد التاريخي . لاشك ان هذا الإعلان كان صاروخا موجها الى قلب الثورة مثله مثل البيانين رقم واحد واثنين اللذان اذيعا عبر قناة عدن لايف قبل عام تقريبا عما سميت بالمقاومة الجنوبية في الضالع مثل هذه التصريحات والبيانات صدقها بعض المساكين العرب وروجوا لها لكنها في الاخير اساءت للثورة ومصداقيتها كثيرا.
التصالح والتسامح هو معني بكل هذه الإخفاقات التي تتعرض لها الثورة ومسئول عن غزارة الدم النازف المنساب من جرح الوطن المفتوح لأننا لم نبدأ بما هو ضروري وممكن ..لأننا بدون التصالح والتسامح الذي يعني الوحدة الوطنية لا يمكن ان نحرر الجنوب ولايمكن ان نصنع ثورة إلا اذا كانت بدون رأس معاقة البصر والبصيرة كالتي معنا اليوم.
التصالح والتسامح لا يعني نبش ملفات الماضي لنكأ الجراح والانتقام وتأجيج الصراعات المناطقة والقبلية والسياسية بل على العكس من ذلك تماما. لابد من الغوص في الجرح المفتوح وتنظيفه وتعقيمه وتضميده قبل تغطيته حتى لا يتعفن وينقل العدوى لبقية اجزاء الجسم .. هكذا بكل بساطه.
لماذا وضعت لجان المصالحة في مختلف البلدان مبدأ "الاعتراف بكل شفافية" كشرط ضروري للعفو.. او كما رفعت مسيرة التصالح والتسامح في جنوب افريقيا شعار " الحقيقة مقابل العفو" ان هذا المبدأ القانوني والهام هو المدخل الرئيس لحل أي قضية فمن باب المنطق انه لا يمكن ان يغفر لاحد جريمة لا يعترف بها. هكذا فعل المشرعون القانونيون في مختلف بلدان العالم تقريبا فالمتهم الذي يقر بجريمته ويطلب الصفح ويعبر عن شعوره بالندم والذنب يمنح القانون للقاضي صلاحية تخفيض العقوبة الى النصف ومن يصر على النكران وتثبت جلسات المحاكمة إدانته فإنه يتلقى اقصى حد للعقاب يقره القانون. بل وحتى في الأعراف القبلية تتم المصالحة بالكشف عن كل الجرائم والإقرار بها وتحكيم ذوي الضحايا حتى يقبلوا العفو عنهم ويحددوا التعويض المطلوب.
عندما نتحدث عن التصالح والتسامح فإننا بكل بساطة نتحدث عن الثورة عينها. بمراجعه بسيطة لإخفاقاتنا والعوائق التي تقف امام مسيرة الثورة نرى بان فلول النظام الجنوبي السابق لهم حصة الأسد في ذلك فمن يحكمنا الان ويعيق تقدمانا وتحركنا وتشكيل قيادة موحدة للثورة بعد انهيار نظام الاحتلال وتشتت قواه هم الجنوبيون انفسهم ..سحقت ابين وتباد الضالع واغتيلت الهبة في حضرموت بأيدي وزير دفاع جنوبي ورئيس جنوبي وسدنة جنوبية. كما إن عناصر الاشتراكي الجنوبيين يتحالفون مع حزب الإرهاب التكفيري وميليشياته التي تغتال كل يوم افضل شبان وقادة الثورة وهم يتقاضون المرتبات من صنعاء ويوالون قيادتهم في صنعاء ومع هذا يزاحمونا على قيادة الثورة من اجل اعاقتها وحرفها. وبالمثل يتولى الصف القيادي الاول او ما يسمى بالتاريخي في الداخل والخارج عملية التواصل والتنسيق مع مختلف القوى اليمنية لخنق الثورة في الجنوب وتثبيت الشراكة معهم في السلطة ولو كره شعب الجنوب.
الم يكن اولى بالثورة بان تأتي بتعريف لمفهوم التصالح والتسامح وتأتي بخطة عمل لمراحل تنفيذ هذا المشروع وابرزها تتمثل في المهام التالية:
*العزل السياسي للصف القيادي الأول من فلول النظام الجنوبي السابق الضالعون في الجرائم والانتهاكات الواسعة التي ارتكبت في ظل الحكم الشمولي. صحيح انه ليس لدى الثورة السلطة لفرض هذا ولكنها على الأقل ستكف عن اعادة صناعة الأصنام والمستبدين ولن تحيي عظامهم بعد أن كانت رميم..
* على الثورة ان تضع حدا فاصلا بين الحق والباطل حتى لا يختلط الحابل بالنابل على من لديهم عمى الألوان حتى اصبح معه المتعاونون مع سلطات الاحتلال مناضلون مثلهم مثل الشهداء الذي يقتلون بدم بارد بدون مقابل بكل اسف.
*كان يفترض ان نطلب من كل المعنيين تقديم اعتذاراتهم العلنية والكف عن الاستمرار بارتكاب المزيد من الجرائم فالتعاون مع سلطات الاحتلال وتبنى مشاريع لا يرتضيها شعب الجنوب عبر تنصيب أنفسهم أوصياء , هي جريمة بكل المقاييس لها عواقب وخيمة اقلها إطالة امد المعانة ونزيف الدم لشعب الجنوب وأخطرها اعاقة تقدم الثورة وخنقها والقضاء على مستقبل شعب الجنوب وحريته وكلها جرائم تتنافى كلية مع مفهوم وروح ومبادئ التصالح والتسامح وكلها تمر مرور الكرام اذا تركنا المسألة هكذا عشوائية على ماهي عليه الان.
الكثير بكل اسف يرددوا شعارات بحت بها اصواتهم لا تختلف عن دعاء فقهاء الجمعة في كل مساجد العالم بان يعز الله الإسلام والمسلمين والنتيجة هي العكس لأنهم اصلا لا يعرفوا ما هو مطلوب منهم.
فهل نبدأ بمراجعة شاملة لمسيرة الثورة وبناء المفاهيم والقيم والمبادئ التي تقتضي وضع حد لمحاولة خلط الحق بالباطل .. لمحاولة احتواء مشروع التصالح والتسامح كمدخل لإغتيال الوطن!!؟