فكرة المصالحة مع «الإخوان» كمين ينصب لمصر والعرب. فتغيير الاتجاه السياسي يبدأ عادة بهمسات في أوساط دوائر يعتقد بتأثيرها على الرأي العام، إذا كان تغييره ضمن حسابات تصب في النهاية لمصالح البعض. يبدأ هذا البعض بإطلاق بالونات اختبار بتسريبات يطرحها كُتّاب الأعمدة أو تقارير على لسان مصادر دبلوماسية. ترويج التسريبات يهدف لقياس استجابة الرأي العام؛ وإذا جاءت سلبية يمكن لمن نُسبت إليهم التسريبات تكذيبها. تسريبات من حاولوا القفز على الثورتين (25 يناير/ كانون الثاني، و30 يونيو/ حزيران) أو إحداهما، ولم يحظوا بثقة الشعب، يجسون بها نبض الأمة المصرية، التي تعاني يوميا من إرهاب «الإخوان المسلمين» الذي يحصد أرواح نسائهم وأطفالهم وأبنائهم مجندي القوات المسلحة، ورجال البوليس. مثال ذلك جس نبض استجابة الشعب لما تريده إدارة أوباما: فرض حكم «الإخوان المسلمين» على مصر والبلدان العربية. خطة القوى الغربية لتمكين «الإخوان» تبدأ بالمصالحة، فالمشاركة في الحكم (ثم ابتلاع الشركاء لاحقا، والتاريخ مليء بهذه النماذج) قد لا تتعمد الإضرار بالشعب المصري والشعوب العربية بقدر ما هي حسابات خاطئة في شكل صفقة مع الإسلام السياسي. وسواء عن قصد أم لا فمن غير المعقول تصور وضع واشنطنولندنوبروكسل مصالح الشعب المصري قبل مصالحها الخاصة. الغرب (أميركا، وبريطانيا، والاتحاد الأوروبي) يسعى «للاستقرار» بتجميد المنطقة بكبح محاولات التحديث لضمان عدم تكرار 25 يناير 2011 أو 30 يونيو 2013. محاولات الإصلاح أدت لعدم الاستقرار عبر انتفاضات ربيع تحول لعواصف شتاء مستمرة. شمولية «الإخوان»، أو الإسلام السياسي، بالسيطرة على المنطقة تضرب عصفورين بحجر إذا تضمنت المصالحة التيارات العروبية القومجية بسذاجة شعار أمة واحدة بلا حدود رسمها الاستعمار البغيض؛ فهي تهدم الدولة القومية الحديثة وتعود بالمنطقة من الشمال الأفريقي إلى بلاد النهرين إلى خريطة بداية القرن ال19 بولايات الخلافة العثمانية. هل هي مصادفة أن أعلى أصوات خرجت من وراء ظلال التسريبات لتجاهر بالمصالحة كانت من مرشح التيار الناصري العروبي القومجي؟ ولا غرابة أن من يحمي «الإخوان» ويستضيف ويدعم تنظيمهم الدولي هو الزعيم التركي رجب طيب إردوغان (الذي يسهل مهام مقاتلي «داعش» ويحافظ على دورياتهم على الحدود) الذي يريد إحياء الخلافة العثمانية. من الضرورة إذن قراءة الخرائط بعين ملاح السفينة، لمعرفة التيارات الخفية واتجاهات الرياح، وأيضا خرائط المصالح الاقتصادية ووضع ما هو مطروح تحت مجهر الاختبار. مصالحة مع من؟ مع الجماعة نفسها التي يسفك إرهابها الدم المصري يوميا؟ ما هو المقصود بالمصالحة؟ حكومة ائتلافية من «الإخوان» وبقية القوى السياسية؟ ألم يرفض «الإخوان» - أو فاترينتهم السياسية حزب الحرية والعدالة - المشاركة في جبهة وطنية شاملة في الفترة ما بين الأول والرابع من يوليو (تموز) 2013؟ وعندما أعطيت الفرصة لكبيرهم محمد مرسي لمخاطبة الأمة استخدم الميكروفون والكاميرا لبث التحريض على العنف، وإشارات للخلايا النائمة في التنظيم السري الإرهابي ل«الإخوان». وسقط «الإخوان» ومرسيهم في امتحان الشعب المصري الذي رد (باستثناء الأقلية المتعاطفة مع «الإخوان») بالخروج رافضا بأعداد تفوق كل المسجلين في قوائم التصويت. ولو قبلنا بفرضية «عفا الله عما سلف» وأن «الإخوان» تعلموا الدرس (أن يكونوا جزءا من نسيج الأمة المصرية، وليس العكس بإخضاع مصر كولاية تابعة لخلافتهم الشمولية العابرة للحدود)، فلنقرأ خرائط الواقع اليوم. مصالحة بين أي أطراف؟ الدولة المصرية بحجمها وعمقها، أهي طرف مساو في المعادلة لجماعة الإخوان، حتى ولو اشترينا الترام وصدقنا تخليها عن الإرهاب؟ المعادلة تناقض الفيزياء الطبيعية في علم الروافع: أيوازن كائن بحجم الفيل، أرنبا في الطرف الآخر؟ هل تتساوى الجماعة كند للأمة المصرية؟ وإذا تمتع 10 آلاف إرهابي بتعاطف من عشرة أضعافهم، وتحمس مليونان آخران، وتسامح ضعفهم، فهل يتساوى أربعة ملايين و110 آلاف وزنا ببقية ال90 مليونا؟ نظريا، يمكن ل«الإخوان» التفاوض كند مع جماعات مماثلة كالسلفيين، أو أحد الأحزاب الكثيرة، وليس مع الدولة. والتفاوض على ماذا بالضبط؟ وما هي الأهداف والبرامج موضع التفاوض؟ تقريبا كل الأحزاب المصرية أعلنت أهدافها الاستراتيجية وتجادل في تكتيك تحقيقها. اليسار يدعو لتأميم وسائل الإنتاج والاشتراكية والعدالة الاجتماعية؛ أحزاب يمين الوسط تدعو لحرية السوق وخفض الضرائب وتعديل القوانين لتنمية الرأسمالية وجذب الاستثمارات. فما هو برنامج «الإخوان» وهدفهم بعيد المدى؟ أثناء الديمقراطية البرلمانية التعددية (1922 - 1954) اختلفت الأحزاب حول البرامج الاقتصادية والإصلاحات السياسية، لكنها تلاقت عند أهداف وطنية عامة وسارت في مظاهرات تناهض الإنجليز وتطالب بخروجهم من القواعد المصرية، ما عدا «الإخوان»، لم يطالبوا بخروج الإنجليز، بل سيروا مظاهرات تطالب بمنع العروض الفنية وإغلاق المسارح ودور السينما (ووضعوا القنابل فيها وأحرقوها). وحديثا، عندما دخلوا البرلمان كأقلية (1985 - 2010) أو كأغلبية بعد 2011، لم يطرحوا برامج تهم المواطن كإصلاح التعليم أو السياسة الضرائبية أو الاقتصادية، بل قدموا قوانين الفصل بين الجنسين في المعاهد، وتغيير سلوك الناس إجباريا، ومنع العروض الفنية، وفرض الرقابة. المنظمات التي لجأت للعنف في فترات تاريخية كانت لها أهداف كفت عن العنف عند بلوغها (الجيش الجمهوري الآيرلندي، وواجهته السياسية حزب شين فين، تخلى عن العنف مع اتفاق الجمعة العظيمة بالمشاركة في الحكم على سبيل المثال).. لكن جماعات ولدت من رحم «الإخوان»، سياسيا وفكريا وتنظيميا، ك«القاعدة» و«داعش» و«بوكو حرام» و«الشباب» الصومالية، ما هو الهدف الذي يعتبر «نجاحا» أو «انتصارا» تكف عن العنف عند بلوغه؟ لا يوجد. الغاية القصوى على راية «الإخوان» (mission statement) شعارات وليست هدفا محددا. هل «الجهاد سبيلنا» استراتيجية أو سياسة أو هدف.. أم حالة مزاجية؟ وإذا كانت كلمة «وأعدوا» تعني برامج التسليح، فماذا عن البرامج الأخرى من إسكان واقتصاد وتعليم؟ «إعادة دولة الخلافة».. ماذا تعني؟ وأين يمكن تأسيسها؟ وما هو دستورها ونظام الحكم فيها؟ ألم يقل زعيم «الإخوان» علنا «طظ في مصر»؟ والترجمة: دولة الخلافة ليست في مصر. ألم يقل أيضا «إن إندونيسيًا مؤمنًا يترأس مصر أفضل من مصري مشكوك في إيمانه»؟ بجانب أن ذلك إعلان من زعماء «الإخوان» لعدم انتمائهم لمصر، وأن دولة الخلافة ليست بالضرورة مصر. ماذا ستتضمن أجندة الحوار بين «الإخوان» والأحزاب الأخرى للخروج ببرنامج ائتلافي عام في حال «المصالحة»؟ المصالحة فخ ينصبه محور واشنطن - بروكسل - لندن، إذا وقع فيه المصريون فلن يخرجوا منه لأجيال قادمة، فالمقصود تمكين «الإخوان» من هدم الدول العربية الحديثة لإقامة خلافة عاصمتها قسطنطينية القرن ال21.