سبق الحديث في الجزء الأول عن الأسباب الاجتماعية الكامنة خلف ضعف القضية الحضرمية ، وسنتطرق اليوم على عجل للتركيبة المذهبية للمجتمع الحضرمي ، حيث تؤثر هذه التشكيلات المذهبية على القرار السياسي للناس . ويعد المجتمع الحضرمي من أكثر المجتمعات تناغما والتشكيلات المذهبية المؤثرة فيه قليلة ، وأقدمها وأكثرها تأثيرا في العوام الصوفية ، والصوفية مذهب من الناحية البنائية غير عقلاني ، ولا يمكنه أن يتعايش مع مجتمعات مفتوحة واعية ، بل هو أكثر نجاحا في نطاقات جغرافية ضيقة ، وهو ما توفر في حضرموت ، وقد تولد في مجتمعات مفتوحة كالمدن الكبيرة في حال توفر شروط معينة ، لكنه في الغالب سيكون على هامش الأحداث ، وفي حالات معينة كذلك يتم استدعاؤها من قوى سياسية لمصالح إعلامية ، أو لإرسال رسائل اجتماعية ، وفي كل الأحوال هي حركة مسالمة غير قادرة على الفعل السياسي المباشر ، وهذا ما يفسر فشل قيادات صوفية حضرمية في إقامة نماذج ناجحة للدولة . وفي الحدث المعاصر في حضرموت ستكون غالب التشكيلات الصوفية راغبة أو قل متقبلة لمد جسور التعاون مع الحركة الشيعية الحوثية ، وغني عن القول أن الصلات بين الفكر الصوفي والشيعي كثيرة ، وقد يعتقد بعض رموز التصوف أن التعايش مع التشيع أسهل من التعايش مع السلفية السنية ، ولاشك أن ذلك فيه مخاطرة كبيرة إذ أن المعروف عن الحركة الشيعية أنها أحادية الاتجاه ، ولن تقبل بمثل هذا التعايش بلا ثمن ، ومع ذلك فالحركة الصوفية الحضرمية متخوفة جدا من كشف أي نوع من أنواع التنسيق مع الحوثيين ، ورغم ذلك فهناك تحركات خفية لمد جسور التعاون بين الصوفية الحضرمية والحركة الحوثية ، وهنا يمكن القبول بالمعلومات المتداولة عن تعدد زيارات أحد رموز التصوف الحضرمي لإيران . لكن هناك تيارات صوفية ستكون حريصة على أن تنأى بنفسها عن التمدد الحوثي ، وربما ستبذل بعض الجهد لمعارضته لأنها تعلم ألا مستقبل للفكر الشيعي في حضرموت ، وأن ذلك سيكون مكلفا داخليا وإقليميا وسيكون من الأدوار المنتظرة للصوفية المتعاونة مع الحركة الحوثية أن تتولى عملية تخدير روح المقاومة في المجتمع الحضرمي بدعاوي كثيرة منها أن حضرموت أرض مسالمة وأن شعبها مسالم ، وأن على المسلم ألا يرفع السلاح في وجه أخيه ، وغير ذلك من الحجج التبريرية . الجهة المذهبية الأخرى في حضرموت السلفية والتي هي كذلك قديمة في حضرموت ، حتى قبل التأثير السعودي ، فقد كان هناك العديد من علماء حضرموت سلفيون ، بل إن هناك عددا من علماء السادة في حضرموت كانوا إما سلفيين أو متقبلين للأفكار السلفية . وأهم عامل في تنامي قوة السلفية في حضرموت هو ضعف البناء الفكري الصوفي ، وقيامه على كثير من المصادر المكتوبة المملؤة بالخرافات والأكاذيب التي لا يقبلها عاقل . في مقابل هذا البناء الخرافي للصوفية يبدو الفكر السلفي أكثر عقلانية وأقرب إلى أصول الإسلام خصوصا في مسائل التوحيد ودور الفرد في مجتمعه أو إزاء المجتمعات الأخرى . ويمثل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما شعيرتان إسلاميتان لا يمكن لأحد أن ينكر أهميتهما في البناء الفكري الإسلامي ، من ركائز الفكر السلفي وهما من أكثر الأمور التي تمد السلفية بالحياة والتأثير الفاعل في المجتمعات . بيد أن الضغوطات على الفكر السلفي والتي نشأت نتيجة الاصطدام بالغرب دفعت إلى نشوء تيارين رئيسين في الكيان السلفي التيار الأول وهو المسمى خطأ بالسلفية الجهادية – والذي ينضوي تحته كافة المنظمات الجهادية المتطرفة – والصحيح أنها سلفية متطرفة شابهت الخوارج في عدد من النقاط مثل التساهل في الدماء والمسارعة إلى التكفير ، كما أنهم لا يراعون الفرق بين المناطق الآمنة والمناطق المشتعلة مما يدفعهم إلى التحرك في المناطق المستقرة والمشتعلة على حد سواء ، وهو الأمر الذي دفعهم للاصطدام بالأنظمة العربية والإسلامية ، كما أن اصطدامهم بالمعسكر الغربي المؤثر على هذه الأنظمة زاد من وتيرة الصراع بينهما ، وهو الأمر الذي ضيَّق الخناق عليها وجعل المجتمعات تتجنب فكرة القبول بها أو بتجربتها في الحكم باعتبارها استجلابا للتدخل العسكري الأجنبي وما سينتج عنه من تدمير واسع . وهذا ما حدث في حضرموت إذ لم تحض السلفية المتطرفة بأي ترحيب شعبي رغم حرص هذه الجماعات على التقرب من السكان وإظهار نوايا حسنة تجاههم والتعامل بلين معهم ، لكن كل ذلك لم ينجح حتى الآن، رغم أن الأحوال العامة نموذجية بالنسبة لهذه الجماعات ، إذ يتخوف أفراد المجتمع الحضرمي من أي تمدد محتمل للحركة الحوثية الشيعية ، ومع ذلك فالقبول بالسلفية المتطرفة ودعمها في مواجهة الخطر الحوثي هو خيار خطر في نفس الوقت . لذا لن تستطيع السلفية المتطرفة تثبيت أقدامها في المدن الحضرمية والخيار المتاح أمامها الخروج خارج المدن ، واستغلال المناطق الساخنة لممارسة النشاط الجهادي ، وربما ستكون عدن وجهة محتملة لهم . التيار الآخر في السلفية هو ما يمكن تسميته بالسلفية المسالمة وهي تيار واسع نشأ في الأصل نتيجة الضغوط التي سبق الحديث عنها ، لكنها دفعتها إلى التقوقع على الذات ، ويقوم هذا التيار على التركيز على الدعوة وعدم الدخول في النزاعات السياسية أو محاولة إقامة أي شكل من أشكال التنظيم الحزبي أو محاولة الاستيلاء على السلطة ، ومن أدبياتهم قولهم " إن من السياسة ترك السياسة " ، ويسوق هذا التيار العديد من الأقوال والحجج الداعية إلى الصبر على الحاكم الجائر والتعامل معه خوفا من الفتنة والتي يرون أن ثمنها أكثر فداحة ، وترغب الحكومات بلا شك بنمو مثل هذا الفكر لأنه ينزع أظافر وأنياب السلفية . ويمكن أن يكون هذا الفكر السلفي نافعا في ظل حكومات تحافظ على الحد الأدنى من التطبيق الإسلامي ، أو في مناطق مستقرة ، ويكون ثمن الخروج على هذا الحكومة أكثر كلفة . لكنه سيكون في بعض الحالات فكراً سلبياً كارثياً إزاء ما حدث في العراق إبان الغزو الأمريكي ، أو ما يحدث من صراعٍ دامٍ في سوريا ، أو في حالة نشوء فراغ سياسي بسبب صراعات مرشحة تفتح الباب أمام قوى مشبوهة للوصول إلى السلطة كما يحدث في حضرموت واليمن ، عندها تصبح سلبية الفكر السلفي قنطرة لانتشار الفساد المذهبي والسياسي . وفي الحالة الحضرمية من الممكن لو تحركت القوى السلفية وتخلت عن سلبيتها ، وعملت على إخراج السلفية المتطرفة ، حتى لو اقتضى الأمر دفعها بالقوة ، واستلمت زمام الأمور ومارست السلطة فعليا ، فإنها ستجد مناصرين لها داخليا وإقليميا ، وستجنب حضرموت شر الحوثيين وأذنابهم وعلى رأسهم اللواء الحليلي . عندها سيصبح للصوت الحضرمي حضور واضح ، ولن يكون في حاجة استعطاف الآخرين لسماعة وإثبات عدالة القضية الحضرمية . وعندها ستولد الدولة الحضرمية المستقلة القائمة على تحكيم الكتاب والسنة وستعود حضرموت فاعلة في محيطها الإقليمي والإسلامي . لكن حتى حدوث ذلك ستكون حضرموت العاجزة تنتظر ظهور المخلص ، والذي نرجو ألا يكون الحليلي وأمثاله .