يعتقد أغلبية الناس أنَّ الحرب موت وألم ودمار فقط ؛ فهي موسم رواج تجارة أدوات القتل والدمار ؛ وموسم لإنتاج اليتامى ، والأرامل ، والمشردين ، والمهجرين . . . الحرب كغيرها من الكوارث تُخلِّف كل ذلك . . . لكنَّ هذا لايعني أنَّها "السوء المطلق" . ففيها الكثير من الأشياء الجيدة ؛ هي وسيلة تحرير المجتمع من الخنوع والاستعباد والاستعمار . . . هي وسيلة من وسائل حياة المجتمعات ؛ هي شبيهة بالقصاص ؛ فالقصاص قتل وقد ينتج إيتام وترمُّل ، لكنَّه حياة لآخرين ؛ يقول تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} .
والحرب مختبر للصبر ، والصدق ؛ كثيرون أيام السلم تجدهم يصدرون التصريحات والبيانات الحربية وإطلاق العهود بالثبات والقتال والشهادة . . . وعندما تدق طبول الحرب تجدهم يفرون كالنعاج والأرانب المستنفرة تفر من الضواري..!! لولا الحرب لما اكتشف الشعب كذبهم وخديعتهم وجبنهم وخيانتهم .
والحرب مدرسة بناء الذات الإنسانية ، وموسم ظهور النخب المدنية التي تتصدر خدمة المجتمع نيابة عن أجهزة الدولة المعطلة أو الهاربة . . . فيها يجد كل ذي جهد وفكر مجال واسع لإظهار كل إمكانياته الكامنة ، والتي يعجز عن إظهارها في الأيام الطبيعية .
وعلى صعيد الكتابة والثقافة ؛ نجد الحرب بيئة لكتابة الشعر . . . بل هي بيئة دسمه للكتابة في كل شيء ؛ في القصص القصيرة والطويلة ، وفي الملاحم الأسطورية ، وفي سيكولوجية الجماهير ، وفي بناء المجتمع ، وفي إدارة الأزمات ، وفي إدارة الموارد . . . وهي أفضل موسم لانتشار الصحف وارتقائها ، هكذا جرت العادة في كل أنحاء العالم . . .
قد يقول قائل : فلماذا توقفت عن الكتابة...؟ توقفت لأنني عدت إلى ماكنت عليه قبل أن أكون كاتبا ، كنت جندي ، وبعد هذه السنوات شاء الله أن أعود جندياً .
و الجندي في جبهات القتال ، لايستطيع كتابة رأيه حتى لو كان ناقداً مشهود له بصواب الرأي وبعد البصيرة ، الانضباط العسكري يمنعه . . . ولذلك توقفت على الكتابة طوال الفترة الماضية . . . وقد لامني الكثير من الناس على توقفي ، والكثير طالبوني بالعودة ، بل قال لي أحدهم (أترك البندقية و عد إلى الكتابة فأنت كاتب نستفيد من كتابته أنفع لنا من كونك جندي في جبهات القتال)
في الحقيقة لايمكن ترك البندقية ؛ كما لايمكن رفض طلب الناس -العودة إلى الكتابة- ولذلك سأحاول الجمع بين "القلم والبندقية" عن طريق العودة إلى مكتبتي الألكترونية وقراءة الكتب التي يمكن أن استخرج منها مايفيد في حالة الحرب القائمة ، وأنقل للناس ماقاله الحكماء ، وماسطَّره التاريخ في حروب وصراعات سابقة .
وفي هذا المقال أنقل من كتاب "كليلة ودمنة" لإبن المقفع ؛ والذي نقل فيه نصائح حكيم الهند "بيدبا" للملك "ديبيشليم" في ذلك الزمان القديم . . . وقد كان بيدبا حكيماً بكل المقاييس ، إذ من حرصه على أن لا يفهم الملك أو يقول له قائل "أن بيدبا يعلمك" جعل كتاب النصائح عبارة عن قصص على ألسنة الحيوانات والطيور . . . فإذا قرأها الجهَّال وجدوها قصص للتسلية . . . وعندما يقرأها العقلاء يجدونها مدرسة العلم والحكمة .
ومن هذا الكتاب أنقل قصة الحمامة المطوقة ؛ قال أبن المقفع في كتابه كليلة ودمنة :
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف : قد سمعت مثل المتحابين كيف قطع بينهما الكذب وإلى ماذا صار عاقبة أمره من بعد ذلك ، فحدثني ؛ عن إخوان الصفاء كيف يبتدأ تواصلهم ويستمع بعضهم ببعض...؟ .. قال الفيلسوف بيدبا : إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئا (يعني لايمكن استبدالهم ولايقدرون بثمن) فالإخوان هم الأعوان على الخير كله ، والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه . ومن أمثال ذلك مثل الحمامة المطوقة والجرذ والظبي والغراب .
قال الملك : وكيف كان ذلك...؟
قال بيدبا : زعموا أنه كان بأرض سكاوندجين ، عند مدينة داهر ، مكان كثير الصيد ، ينتابه الصيادون ؛ وكان في ذلك المكان شجرة كثيرة الأغصان ملتفة الورق فيها وكر غراب فبينما هو ذات يوم ساقط في وكره إذ بصر بصياد قبيح المنظر ، سيئ الخلق، على عاتقه شبكة ، وفي يده عصاً مقبلاً نحو الشجرة ، فذعر منه الغراب ؛
فقال الغراب : لقد ساق هذا الرجل إلى هذا المكان: إما حيني وإما حين غيري. فلأثبتن مكاني حتى أنظر ماذا يصنع . . . ثم إنَّ الصياد نصب شبكته ، ونثر عليها الحب ، وكمن قريبا منها . . . فلم يلبث إلا قليلا، حتى مرت به حمامة يقال لها المطوقة ، وكانت سيدة الحمام ومعها حمام كثير ؛ فعميت هي وصواحبها عن الشرك ، فوقعن على الحبِّ يلتقطنه فعلقن في الشبكة كلهن ؛ وأقبل الصياد فرحاً مسروراً . فجعلت كل حمامة تضطرب في حبائلها وتلتمس الخلاص لنفسها .
قالت المطوقة : لا تخاذلنا في المعالجة ، ولا تكن نفس إحداكن أهم إليها من نفس صاحبتها ؛ ولكن نتعاون جميعاً فنقلع بالشبكة فينجو بعضنا ببعض ؛ فأقلعن بالشبكة جميعهن بتعاونهن . . . وعلون في الجو . . . ولم يقطع الصياد رجاءه منهن وظن أنهن لا يجاوزن إلا قريباً ويقعن .
فقال الغراب : لأتبعهن وأنظرو ما يكون منهن . فالتفتت المطوقة فرأت الصياد يتبعهن . . . فقالت للحمام : هذا الصياد مجد في طلبكن ، فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يخف عليه أمرنا ولم يزل يتبعنا ، وإن نحن توجهنا إلى العمران خفي عليه أمرنا ، وانصرف . . . وبمكان كذا جرذٌ هو لي أخ؛ فلو انتهينا إليه قطع عنا هذا الشرك . ففعلن ذلك . وأيس الصياد منهن وانصرف . وتبعهن الغراب .
فلما انتهت الحمامة المطوقة إلى الجرذ ، أمرت الحمام أن يسقطن ، فوقعن ؛ وكان للجرذ مائة جحر للمخاوف فنادته المطوقة باسمه، وكان اسمه زيرك ، فأجابها الجرذ من جحره : من أنت...؟ قالت : أنا خليلتك المطوقة . فأقبل إليها الجرذ يسعى .
فقال لها : ما أوقعك في هذه الورطة..؟ .. قالت له : ألم تعلم أنه ليس من الخير والشر شيء إلا هو مقدرٌ على من تصيبه المقادير ، وهي التي أوقعتني في هذه الورطة ؛ فقد لا يمتنع من القدر من هو أقوى مني وأعظم أمراً ؛ وقد تنكسف الشمس والقمر إذا قضي ذلك عليهما
ثم إن الجرذ أخذ في قرض العقد الذي فيه المطوقة . . . فقالت له المطوقة : ابدأ بقطع عقد سائر الحمام ، وبعد ذلك أقبل على عقدي ؛ وأعادت ذلك عليه مراراً ، وهو لا يلتفت إلى قولها . . . فلما أكثرت عليه القول وكررت ، قال لها : لقد كررت القول عليّ كأنك ليس لك في نفسك حاجة ، ولا لك عليها شفقة، ولا ترعين لها حقاً .
قالت : إني أخاف، إن أنت بدأت بقطع قيدي أن تمل وتكسل عن قطع ما بقي ؛ وعرفت أنك إن بدأت بهن قبلي ، وكنت أنا الأخيرة لم ترضَ وإن أدركك الفتور أن أبقى في الشرك . . . قال الجرذ : هذا مما يزيد الرغبة والمودة فيك . ثم إن الجرذ أخذ في قرض الشبكة حتى فرغ منها، فانطلقت المطوقة وحمامها معه .
انتهت القصة ،،،،،،، وسبحان الله ؛ كيف استطاعت الحمام هزيمة ذلك الصياد قبيح المنظر...؟فأرهقنه بمطاردتهن ؛ وبدلاً من أن يأخذهن ، هن أخذن شبكته وحبوبه . . . كذلك الناس يستطيعون الخروج من المصيدة التي وقعوا بها ، بنفس الأسلوب "الطيران الجماعي والهبوط الجماعي"