الغرابي.. شيخ قبلي متهم بالتمرد وارتباطات بشبكات تهريب في حضرموت والمهرة    البطاقة الذكية والبيومترية: تقنية مطلوبة أم تهديد للسيادة الجنوبية    انضمام المحترفين ولاعبي المهجر إلى معسكر المنتخب الوطني في القاهرة استعداداً لاستحقاقات آسيا والعرب    "إيني" تحصل على حق استغلال خليج السويس ودلتا النيل حتى 2040    استهداف العلماء والمساجد.. كيف تسعى مليشيا الحوثي لإعادة هندسة المجتمع طائفيًا؟    صنعاء: تحذيرات من 3 ليالي صقيع    تدشين حملة رش لمكافحة الآفات الزراعية لمحصول القطن في الدريهمي    اتحاد كرة القدم يحدد موعد الدوري اليمني للدرجة الأولى والثانية ويقر بطولتي الشباب والناشئين    وزير الصناعية يؤكد على أهمية تمكين المرأة اقتصاديا وتوسيع مشاركتها في القطاعات التجارية    غموض يلف حادثة انتحار مرافِق المخلافي داخل سجنه في تعز    القصبي.. بين «حلم الحياة» و«طال عمره» 40 عاما على خشبة المسرح    دنماركي يحتفل بذكرى لعبه مباراتين في يوم واحد    المقاتلتان هتان السيف وهايدي أحمد وجهاً لوجه في نزال تاريخي بدوري المحترفين    وداعاً للتسوس.. علماء يكتشفون طريقة لإعادة نمو مينا الأسنان    عدن.. انقطاعات الكهرباء تتجاوز 15 ساعة وصهاريج الوقود محتجزة في أبين    نائب وزير الخارجية يلتقي مسؤولاً أممياً لمناقشة السلام    شبوة:فعالية تأبينية مهيبة للإعلامي والإذاعي وكروان التعليق الرياضي فائز محروق    جراح مصري يدهش العالم بأول عملية من نوعها في تاريخ الطب الحديث    الذهب يهبط من أعلى مستوياته في 3 أسابيع    ريال مدريد يختصر اسم "البرنابيو" ويحوله إلى ملعب متعدد الأغراض    مناقشة آليات توفير مادة الغاز المنزلي لمحافظة البيضاء    لجنة من وزارة الدفاع تزور جرحى الجيش المعتصمين بمأرب وتعد بمعالجات عاجلة    وزير الصحة: اليمن يواجه أزمات مركبة ومتداخلة والكوارث المناخية تهدد الصحة العامة فيه    واشنطن تفرض عقوبات على 32 فردا وكيانا على علاقة بتهديد الملاحة الدولية    واشنطن تكشف عن التنازلات التي قدمها الشرع في البيت الأبيض    العراق ضد الإمارات بالملحق الآسيوي.. هل يتكرر سيناريو حدث قبل 40 عاما؟    اول موقف من صنعاء على اعتقال الامارات للحسني في نيودلهي    لماذا قتلوا فيصل وسجنوا الرئيس قحطان؟    قضية الجنوب: هل آن الأوان للعودة إلى الشارع!    حل الدولتين في فلسطين والجنوب الغربي    عدن تعيش الظلام والعطش.. ساعتان كهرباء كل 12 ساعة ومياه كل ثلاثة أيام    الكشف عن 132 جريمة مجهولة في صنعاء    إعلان نتائج الانتخابات العراقية والسوداني يؤكد تصدر ائتلافه    تدشين منافسات بطولة الشركات لألعاب كرة الطاولة والبلياردو والبولينغ والبادل    جروندبرغ يقدم احاطة جديدة لمجلس الأمن حول اليمن 5 عصرا    الإعلان عن القائمة النهائية لمنتخب الناشئين استعدادا للتصفيات الآسيوية    الأمم المتحدة: اليمن من بين ست دول مهددة بتفاقم انعدام الأمن الغذائي    شبوة تودّع صوتها الرياضي.. فعالية تأبينية للفقيد فائز عوض المحروق    مناقشة جوانب ترميم وتأهيل قلعة القاهرة وحصن نعمان بحجة    قراءة تحليلية لنص "اسحقوا مخاوفكم" ل"أحمد سيف حاشد"    القرود تتوحش في البيضاء وتفترس أكثر من مائة رأس من الأغنام    عالميا..ارتفاع أسعار الذهب مدعوما بتراجع الدولار    حضرموت.. تُسرق في وضح النهار باسم "اليمن"!    احتجاج على تهميش الثقافة: كيف تُقوِّض "أيديولوجيا النجاة العاجلة" بناء المجتمعات المرنة في الوطن العربي    وزير الإعلام الإرياني متهم بتهريب مخطوطات عبرية نادرة    تمرد إخواني في مأرب يضع مجلس القيادة أمام امتحان مصيري    عسل شبوة يغزو معارض الصين التجارية في شنغهاي    الواقع الثقافي اليمني في ظل حالة "اللاسلم واللاحرب"    "فيديو" جسم مجهول قبالة سواحل اليمن يتحدى صاروخ أمريكي ويحدث صدمة في الكونغرس    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    مواطنون يعثرون على جثة مواطن قتيلا في إب بظروف غامضة    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محنة الرأي في تاريخ المسلمين (4)
نشر في الجنوب ميديا يوم 11 - 05 - 2014


* * * *
عبد الله بن المقفع – ويل لمن سبق عقله زمانه
سقطت الدولة الأموية
وصعدت الدولة العباسية على أنقاضها
وبدأ فصل جديد من فصول الحكم بالحق الإلهي، وعهد جديد من عهود الاستبداد الديني.
بدأه "أبو جعفر المنصور"، الخليفة العباسي الثاني، عندما أعلن أنه "خليفة الله في الأرض وسلطانه على أمواله" أي أن شرعيته مستمدة من الله وليس من الشعب، وفي ذلك خطب في الناس قائلًا:
- "أيها الناس! إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله، أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلاً، فإن شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه قفلني".
وبهذا أعطى المنصور لنفسه سلطة إلهية مطلقة، يتصرف في أرواح المسلمين وأرزاقهم وحرماتهم كيفما يشاء!
لقد كان الخلفاء السابقين – على ظلمهم – يعتبرون أنفسهم خلفاء لرسول الله (ص)، حتى اجترأ "المنصور" وأعلن نفسه خليفة لله، وظله الممدود على أرضه، فيحاسب الناس لمجرد الشك، والشك عنده كان كافيًا لقطع الرقاب دون تحقيق أو مساءلة، فكيف يكون على خطأ، وهو خليفة الله في الأرض؟
إن استخدام الدين في تحقيق المطامع الدنيوية والسياسية هو أحد أهم أسباب الاستبداد الديني، وحيث وُجد الاستبداد الديني، فليست هناك حرية رأي، وحيث لا توجد حرية رأي، فلن يكون هناك إلا أبشع أنواع التسلط والقهر.
وقد شاع الفساد بشدة في عهد الدولة العباسية، وخاصةً الفساد المالي، فبينما كان أمراء البيت العباسي ومن يواليهم غارقين في نعيم الترف ويسبحون في تلال الأموال، كانت الرعية تعاني الفقر وغلاء الأسعار وضيق الحاجة، وفي ذلك نظم الشاعر "أبو العتاهية" شعرًا قال فيه:
من مُبلغ عني الإمام نصائحًا متوالية
إني أرى الأسعار، أسعار الرعية غالية
وأرى المكاسب نزرة وأرى الضرورة فاشية
وأرى غموم الدهر رائحة تمر وغادية
وأرى اليتامى والأرامل في البيوت الخالية
يشكون مجهدة بأصوات ضعاف عالية
صاحب كليلة ودمنة:
كان "عبد الله بن المقفع"، (106 – 142 ه) (724 م 759 م)، أشهر ناقد للأوضاع في هذا العهد، وكان سلاحه الكلمة الحرة الصادقة، والحكمة والموعظة، وكيف لا وهو الأديب الفصيح، والخطيب المفوه، وصاحب كتاب "كليلة ودمنة" الشهير، الذي تضمن حكايات ومواعظ على لسان الحيوانات، جمعها "ابن المقفع" وترجمها من ثقافات شتى وأضاف إليها من عنده، فجاءت أشبه بأفلام الكرتون التي يشاهدها الأطفال اليوم، لتكون شاهدة على عقل سبق زمانه بسنوات كثيرة.
و"ابن المقفع" فارسي الأصل، اختلف المؤرخين حول سبب تسمية أبيه "بالمقفع"، فقيل "المقفَع"، بفتح الفاء، لأن "الحجاج بن يوسف الثقفي" قد عذبه حتى تقفعت يداه، أي تورمتا بشدة، وقيل "المقفِع"، بكسر الفاء، نسبة إلى بيع "القفاع" وهي مقاطف مصنوعة من الجريد بلا آذان.
رسالة الصحابة:
نظر "ابن المقفع" إلى قصر الخليفة، فوجده وقد أصبح مرتعًا للوصوليين والمنافقين، ونظر إلى الدولة فوجدها غارقة في الفساد، ورأى أن بطانة الحاكم سبب رئيس في هذا الفساد، فألف كتابه "رسالة الصحابة" الذي انتقد فيه فساد الدولة ووجه من خلاله عدة نصائح للخليفة.
والصحابة المقصودون في هذا الكتاب ليسوا صحابة رسول الله (ص)، ولكن حاشية الخليفة وأصحابه هم المقصودون.
وانتقد "ابن المقفع" في كتابه هؤلاء الصحابة نقدًا شديدًا، وحتى يأمن شرهم وغدر الخليفة الذي لم يكن يحب النُصح، لم يذكر اسم الخليفة ولا أصحابه صراحةً، بل جعل كلامه عامًا، ينطبق على بطانة الحاكم في كل مكان وزمان، وبذلك وجه رسالة مستترة إلى الخليفة وقتها حتى ينتبه إلى فساد بطانته.
مظاهر الفساد في دولة العباسيين:
تمثلت مظاهر الفساد في الدولة العباسية في عدة نقاط، منها:
1- عدم تسجيل الأموال الواردة إلى خزائن الدولة من مختلف الأمصار في سجلات دقيقة، مما فتح الباب على مصراعيه أمام السرقات والاختلاسات.
2- تضارب أحكام القضاة في القضية الواحدة من بلد إلى بلد لعدم وجود قانون موحد للأحكام، وهو الأمر الذي لا يحقق العدالة بين الناس، فكيف تكون العدالة حين يُحكم على أحد الأشخاص بالبراءة في قضية ما وعلى آخر بعقوبة في القضية نفسها؟
3- توغل قادة الجند في شؤون البلاد ونفاقهم للخليفة، وقد بلغوا في نفاقهم مبلغًا قالوا فيه: "لو أمرنا أمير المؤمنين أن نستدبر القبلة في صلاتنا، لسمعنا وأطعنا!" أي لو أمرنا الخليفة أن نعطي ظهورنا للقبلة بدلاً من وجوهنا لفعلنا، فحتى أصول الدين يمكن التنازل عنها رياءً للخليفة!
عقل سبق عصره:
رأى "ابن المقفع" وجوب وضع قانون موحد يلتزم به جميع القضاة في جميع الأمصار، وهو الأمر الذي يشبه إلى حد كبير آليات التشريع الحديثة، فسبق "ابن المقفع" بذلك عصره بمئات السنين، فأوروبا مثلاً لم تعرف القانون الموحد إلا على يد "نابليون" الذي جمع كبار رجال القانون لتوحيد القانون الفرنسي، فخرج "القانون المدني" الموحد عام 1804 ليقضي على فوضى القوانين في فرنسا وقتها، وهي الفكرة التي قدمها "ابن المُقفع" قبل ذلك بمئات السنين.
نصائحه للخليفة:
وجه ابن المقفع في كتابه عدة نصائح للخليفة، منها:
1- أن يعيد النظر في اختيار رؤوس الدولة، فيولي أهل الكفاءة لا أهل الثقة.
2- أن يقوم بتثقيف الجند ثقافة علمية وخلقية، فلا يكون الجندي عصا في يد قائده يضرب بها من يشاء.
3- أن يتقصى أحوال الجند ويتعرف على أخبارهم وحالهم.
4- أن يمنع الجند من التدخل في الشؤون المالية للبلاد، وعلل رأيه بأن (ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة)، وقد صدق رأي "ابن المقفع"، لأنه في عصور لاحقة، وعندما عوقب الكثير من القواد على ظلمهم للناس، استغلوا ما تحت أيديهم من أموال، ومن يواليهم من الجند، فخرجوا على الدولة وسببوا لها عدة كوارث.
وقد شعر الخليفة وبطانته بالخطر من أفكار "ابن المقفع" التي تنم عن عقل واعٍ، وفكر حر، وهم يريدون عقولاً جوفاء، تصلح للاستعباد بسهولة دون عناء، فأخذ أصحاب "المنصور" يؤلبون الناس على "ابن المقفع"، ويتهمونه بالزندقة، وبأنه يفسد على الناس عقائدهم.
وهكذا يكون استغلال الدين لتكفير المعارضين، وما أشبه اليوم بالبارحة!
الخلاف بين المنصور وعمه:
وحدث أن وقع خلاف شديد بين الخليفة "المنصور" وعمه "عبد الله بن علي"، وكان سببه أن "المنصور" خلع عمه من ولاية العهد، وعين ابنه "المهدي" بدلاً منه، فأعلن "عبد الله" تمرده وخرج على ابن أخيه طالبًا الخلافة لنفسه، فأرسل إليه "المنصور" جيشًا بقيادة "أبو مسلم الخراساني"، فانتصر "أبو مسلم" وهرب "عبد الله بن علي" إلى أخويه "سليمان" و"عيسى" واستتر عندهما خوفًا على نفسه من "المنصور"، فتوسطا له عند "المنصور" ليرضى عنه، ولا يؤاخذه بما جرى منه، فقبل شفاعتهما، واتفقا معه على كتابة عهد أمان لأخيهما يوقع عليه "المنصور"، فذهبا إلى "ابن المقفع" في البصرة، وكان كاتبًا لعيسى، وطلبا منه أن يكتب هو عهد الأمان وأن يبالغ في التشديد على الأمان حتى لا يغدر "المنصور" بأخيهما، فكتب "ابن المقفع" عهد الأمان وبالغ في تشديده حتى قال فيه: "ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله بن علي، فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته".
وأُرسل العهد إلى "المنصور" كي يوقعه، وما أن قرأ كلمات "ابن المقفع" حتى استشاط غضبًا وصاح قائلاً:
- من كتب هذا؟
فقيل له:
- إنه "عبد الله بن المقفع".
فكتب الخليفة إلى والي البصرة "سفيان بن معاوية" بأن يقتل "ابن المقفع" جزاءً على تطاوله على مقام الخليفة السامي!
نهاية مأسوية:
وكان "سفيان بن معاوية" هذا يكن حقدًا شديدًا تجاه "ابن المقفع"، لأنه كان دائم السخرية منه، فما أن وصلته رسالة الخليفة، حتى احضر "ابن المقفع" مقيدًا بالحبال، وقال له متشفيًا:
- والله لأقتلنك قتلة لم يقتل بها أحد.
فأمر بالسكين فأحضروها له، وأخذ يقطع جسد "ابن المقفع" قطعة وراء قطعة، وهو حي، ويشوي كل قطعة في النار أمام عينيه إمعانًا في الذل، قبل أن يحرق ما تبقى من جسده دفعه واحدة في نهاية الأمر!
وهذه القتلة البشعة إنما تدل على مدى انحطاط ودناءة نفوس الحكام في هذا العصر بشكل خاص، وفي أنظمة الحكم الشمولية بشكل عام.
وقبل أن يلفظ "ابن المقفع" أنفاسه الأخيرة، ألقى في وجه قاتله بهذين البيتين:
إذا ما مات مثلي مات بموته خلق كثير
وأنت تموت ليس يدري بموتك لا الصغير ولا الكبير
وقد صدق "ابن المقفع" في هذين البيتين، فالجميع الآن يذكر "ابن المقفع"، ولا أحد يذكر اسم قاتله.
وهكذا سقط شهيد جديد من شهداء الرأي، وقد مات وهو لم يبلغ السادسة والثلاثين من عمره بعد، تاركًا تراثًا ثقافيًا قل أن تجود العقول بمثله، فقد كان واحدًا من أعظم العقول في تاريخ الثقافة العربية، وبموته انطفأت شمعة كانت قد أضاءت سماء الفكر، شمعة أبت طيور الظلام إلا أن تطفئها، لتبقى عقول البشر غارقة في الظلام، حتى يستمروا في طغيانهم، واستعبادهم للناس.
وللحديث بقية...
مواضيع متعلقة
بص وطل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.