في مديرية ماوية بمحافظة تعز، كان صباح ذلك اليوم مختلفًا عن سائر الأيام، حين خرج المعلم "جميل القادري" منتصف أكتوبر المنصرم من منزله متجهًا إلى مركز تحفيظ القرآن الكريم الذي قضى فيه أكثر من عقد من حياته معلّمًا ومربيًا، كان يحمل مصحفه القديم بيده، ذلك الذي حفظ عليه تلاميذه أجزاء كتاب الله جيلاً بعد جيل. في منتصف الطريق، توقفت أمامه سيارة سوداء بلا لوحة، لم يكن في باله أنه سيُستوقف أو يُسأل عن شيء، لكنه وجد نفسه محاطًا بمسلحين تابعين لمليشيا الحوثي الإرهابية، لم يُسمح له حتى بإغلاق باب بيته الذي تركه مواربًا، ولا بإخبار طلابه الذين ينتظرونه في الصف الصغير خلف المسجد.
اقتيد القادري إلى جهة مجهولة، لتبدأ فصول معاناة جديدة لعائلته وطلابه، حيث انتشر الخبر سريعًا في أحياء المدينة، وساد الحزن بين طلابه الصغار الذين حفظوا على يديه سور القرآن الكريم، وهم لا يدركون أن "الأستاذ جميل" قد صار في ظلام السجون الحوثية.
لم يُعرف مصيره لأيام، حتى علم أقرباؤه أنه مختطف بتهمة "نشر الفكر الداعشي"، وهي التهمة الجاهزة التي تُلصقها المليشيا بكل من يعلّم القرآن بعيدًا عن مناهجها الطائفية، وبذلك تحوّل جميل من معلّم للقرآن إلى رمز لصراع كبير بين النور والظلام، بين من يزرعون الوعي ومن يريدون طمسه.
الحرب على القرآن الكريم
تُعدّ جريمة اختطاف المعلم القادري جزءًا من سلسلة طويلة من الانتهاكات الممنهجة التي تشنها مليشيا الحوثي الإرهابية ضد العلماء والمساجد ومعلمي القرآن الكريم، فمنذ انقلابها على الدولة وسيطرتها على العاصمة صنعاء، وضعت المليشيا الطائفية المساجد وحلقات تحفيظ القرآن الكريم والعلماء وقادة المجتمع، في دائرة الاستهداف المباشر، باعتبارها آخر الحصون التي تحمي وعي المجتمع اليمني وهويته وعقيدته.
فقد أغلقت المليشيا المئات من مراكز التحفيظ، وصادرت مكتباتها، واختطفت مدرّسيها بذرائع ملفقة، وأصبحت حلقات القرآن في بعض المناطق الخاضعة لسيطرتها تُعقد سرًا، خوفًا من الملاحقة أو الاختطاف، بهدف تفريغ التعليم الديني من مضمونه واستبداله بتعاليم ما يسمى بالولاية ومفاهيم الاصطفاء السلالي، في مسعى لإعادة صياغة الوعي للأجيال وفق رؤيتها العقائدية الطائفية.
في تقرير صادر عن الشبكة اليمنية للحقوق والحريات، تم توثيق أكثر من 5 آلاف انتهاك ضد المساجد والعلماء ومعلمي القرآن الكريم منذ عشر سنوات، تنوعت بين القتل والاختطاف والإخفاء القسري، كما تمت مصادرة أراضٍ وأوقاف كانت مخصصة لتعليم القرآن وتحويلها لصالح ما يسمى "الهيئة الثقافية الحوثية".
يصف مراقبون الحرب على معلمي القرآن الكريم من قبل مليشيا الحوثي بأنها سياسة فكرية طائفية منظمة تستهدف بنية المجتمع الثقافية والدينية، وتريد تحويل الدين إلى أداة تعبئة سياسية تخدم مشروعًا طائفيًا وافدًا من خارج الهوية اليمنية.
انتهاكات ممنهجة
وفي هذا الصدد، شهدت اليمن خلال العقد الماضي سلسلة متصاعدة من الانتهاكات الحوثية الممنهجة التي طالت المساجد ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، وأئمة المساجد والمعلمين الدينيين، وهو ما شكل تهديدًا مباشرًا للنسيج الاجتماعي والقيمي للدولة والمجتمع، إذ استخدمت المليشيا الحوثية الدين كأداة للتحشيد والتجنيد، ولإفراغ المجتمع من القيادات المعتدلة وفرض أفكارها الطائفية بالقوة.
توضح البيانات الميدانية التي وثقتها الشبكة اليمنية للحقوق والحريات أن الحوثيين ارتكبوا نحو 4896 جريمة وانتهاكًا خلال الفترة من 1 يناير 2015 وحتى 30 يونيو 2025، شملت القتل المباشر، التفجيرات، الاعتداءات الجسدية، الإخفاء القسري، والتهجير القسري لعلماء الدين وطلاب العلم، وتعد العاصمة صنعاء ومحافظات إب، ريمة، البيضاء، وتعز الأكثر تعرضاً لهذه الانتهاكات.
ويؤكد مراقبون أن استهداف المدارس والمراكز التعليمية الخاصة بتحفيظ القرآن الكريم، واستبدال المعلمين والأئمة بخطباء تابعين للحوثيين، يعكس نهجًا منظما لتفريغ المجتمع اليمني من القيادات الفكرية المعتدلة، وفرض توجيه فكري منحاز لفكر المليشيا الطائفي، وهذا الأمر أسفر عن تعطيل تعليم القرآن الكريم وعلومه، وإلحاق أضرار جسيمة بالأجيال الناشئة، وتحويل المساجد إلى ثكنات عسكرية وغرف عمليات ومراكز لغسل العقول.
تشير التقارير الحقوقية إلى أن هذه الانتهاكات لم تقتصر على العنف الجسدي فقط، بل شملت الاعتداء والقتل للعلماء وطلاب القرآن الكريم، وفرض خطباء وأئمة موالين، وتهجير الأسر والطلاب، واستهداف مكتبات المساجد والمراكز التعليمية، بهدف السيطرة على الفكر الديني وإخضاع المجتمع لقيم طائفية محددة.
استهداف المساجد
على مدى عشر سنوات من الانقلاب الحوثي على الدولة، شهدت المساجد ودور العبادة في مناطق سيطرة المليشيا الحوثية حملة ممنهجة وغير مسبوقة، تجسدت في سلسلة من الانتهاكات الحوثية المروعة التي استهدفت مقدسات المجتمع اليمني، فقد رصدت التقارير الحقوقية 103 حالات تفجير للمساجد، إضافة إلى 201 حالة قصف، و52 حالة إحراق، مما خلف وراءه دمارًا ماديًا وخسائر بشرية جسيمة.
لم تقتصر الانتهاكات على التفجير والتدمير، بل شملت اقتحام المساجد ونهب محتوياتها، إذ وثقت الفرق الميدانية الحقوقية 341 حالة اقتحام، تضمنت إزالة الكتب والمراجع الفقهية واستبدالها بمواد تعليمية منحازة تتوافق مع توجه مليشيا الحوثيين الفكرية الطائفية، مما أسفر عن مسخ تدريجي للهوية اليمنية المعتدلة في هذه المؤسسات.
ووفق التقارير الحقوقية، فقد تم تحويل العديد من المساجد لأغراض عسكرية أو فكرية، فاستُخدمت 423 مسجدًا كثكنات لتعاطي القات والرقص، و219 مسجدًا كمراكز لغسل عقول الأطفال، في حين أصبح 61 مسجدًا كغرف عمليات لأعمال حربية، بينما أُغلق 394 مسجدًا بشكل كامل.
وفي خطوة تهدف لتغييب الأصوات المعتدلة، فرضت المليشيا 1291 حالة خطباء وأئمة تابعين لها، مما أدى إلى تكريس توجه فكري موحد بالقوة، وإسكات أي معارضة داخل المجتمع المحلي، ولم يكتف الحوثيون بذلك، بل تجاوزوا ذلك إلى الاعتداء المباشر على العلماء والمصلين، بما في ذلك اعتقال وتهجير رموز دينية بارزة، أبرزها الشيخ عبد الباسط الريدي وطلابه من مسجد السنة بالعاصمة صنعاء الشهر المنصرم، وقتل الشيخ حنتوس في منزله بمحافظة ريمة في يوليو الماضي على خلفية تدريس القرآن الكريم.
كل هذه الانتهاكات تكشف بجلاء كيف استغلت المليشيا المساجد كأداة للهيمنة الفكرية والسياسية، مستنزفةً قيمها الروحية والاجتماعية، ومهددةً بذلك الأمن المجتمعي والنسيج الاجتماعي المتماسك الذي ظل لقرون أحد أهم ركائز الهوية اليمنية.
إغلاق مدارس التحفيظ
لم تقتصر الانتهاكات الحوثية على المساجد فقط، بل امتدت لتطال المدارس والمراكز التعليمية الدينية، مستهدفة التعليم الديني مباشرة وحياة المعلمين والطلاب على حد سواء، فقد وثق تقرير حقوقي إغلاق 467 مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم خلال عشر سنوات.
ولم تتوقف الممارسات عند الإغلاق، بل شملت اختطاف 386 إمامًا ومعلمًا، مع تسجيل 73 حالة تعذيب جسدي ونفسي، منها 9 حالات تعذيب حتى الموت، ما يعكس مدى العنف الممنهج الذي تمارسه المليشيا ضد من يقفون في وجه توجهها الفكري.
كما فرضت المليشيا الطائفية خططها الفكرية بالقوة عبر استبدال المعلمين والمشرفين بموالين لها، وتطبيق برامج تعليمية طائفية، تهدف إلى غرس توجهات الحوثيين بين الأطفال والشباب، وتحويل المدارس إلى أدوات سياسية وفكرية أكثر من كونها مراكز تعليمية.
كما شملت الانتهاكات إحراق ونهب مكتبات المدارس، وإزالة المواد التعليمية المخالفة لفكرها الطائفي، واستبدالها بملازم تدعو إلى أفكار طائفية، ما يعكس نهجًا منظما لتغيير وعي الأجيال القادمة، وذلك في إطار مساعيها الرامية لإعادة تشكيل فكر المجتمع حسب أهدافها الطائفية.
استهداف العلماء
كما استهدفت المليشيا الحوثية العلماء والدعاة بصورة مباشرة وممنهجة، معتبرة أن السيطرة على القيادات الدينية هي مفتاح فرض هيمنتها الفكرية والطائفية، فقد سجلت تقارير حقوقية 277 حالة قتل بحق الأئمة والخطباء والمصلين، تنوعت بين 72 حالة بالرصاص المباشر، و19 حالة ناجمة عن القصف العشوائي، و28 حالة قتل باستخدام القوة المفرطة، و19 حالة بالسلاح الأبيض، مما يعكس الطابع الوحشي والمرعب للمليشيا الحوثية.
ولم تقتصر الاعتداءات الحوثية على القتل، فقد وثقت التقارير الحقوقية 178 حالة إصابة جسدية ناجمة عن هجمات مباشرة على العلماء وأئمة المساجد والمصلين، بالإضافة إلى 386 حالة اختطاف، و73 حالة تعذيب جسدي ونفسي، منها 9 حالات تعذيب حتى الموت، ما يدل على منهجية المليشيا في إرهاب القيادات الدينية وكسر إرادتهم.
كما شملت الانتهاكات تهجير العلماء بالقوة، وأبرز الأمثلة كان تهجير الشيخ عبد الباسط الريدي وطلابه من مسجد السنة بالعاصمة صنعاء الشهر المنصرم، حيث أُجبروا على مغادرة مسجدهم وسكنهم، في خطوة تهدف إلى إفراغ المجتمع من الرموز الدينية المخالفة لها، وفرض أفكار الجماعة الطائفية بالقوة.
وفي سياق مماثل، تم فرض خطباء وأئمة موالين للحوثيين على المساجد، ضمن إستراتيجية ممنهجة لتغيير التوجه الفكري للمجتمع وإحكام السيطرة على المراكز الدينية، الأمر الذي يؤكد بوضوح خطورة المشروع الحوثي على الهوية الدينية والاجتماعية لليمن، حيث أصبح تهديد القيادات المعتدلة يهدد مستقبل الأجيال ويضعف استقرار النسيج الاجتماعي.
إعادة هندسة المجتمع طائفيًا
تتجاوز خطورة الانتهاكات الحوثية الجانب المادي والجسدي لتطال عمق الهوية الثقافية والدينية للمجتمع، حيث أصبح استهداف العقول والأجيال الجديدة أحد أدوات السيطرة الأكثر فعالية، فقد حولت المليشيا 219 مسجدًا وفق تقارير حقوقية إلى مراكز لغسل العقول، مُسخرة التعليم الإجباري للأطفال لنشر الفكر الطائفي وتكريس الولاء الجماعي منذ الصغر، في محاولة لإعادة تشكيل وعي الجيل القادم وفق أيديولوجيتها الطائفية.
ولم تقتصر الممارسات على الأطفال، فقد استخدمت المساجد كمنصات للتعبئة الطائفية والسياسية، مُكرسةً حملات ضغط مستمرة على السكان لقبول سياساتها الطائفية والتخلي عن أي مسار مستقل، مما حول دور العبادة من فضاءات روحية إلى أدوات سياسية للهيمنة والتجنيد.
كما شهدت مناطق النفوذ تحويل المساجد إلى غرف عمليات وثكنات عسكرية، حيث تم استخدام الأبنية الدينية كمنصات للتجنيد القسري للأطفال والشباب، وإجبارهم على المشاركة في الأعمال القتالية، كما شملت الإستراتيجية أيضا محاولة طمس الرموز الدينية المخالفة لها، عبر تهجير أو اغتيال العلماء وطلاب العلم، كما حدث مع الشيخ صالح حنتوس في محافظة ريمة والشيخ عبدالباسط الريدي في صنعاء.
أما الكتب الدينية فقد تعرضت لدمار ممنهج، شمل إحراق المكتبات ونهب المواد التعليمية المعتدلة، واستبدالها بمحتوى مذهبي طائفي منحاز، مما يعكس رغبة الحوثيين في إعادة تشكيل الوعي الثقافي والديني بالكامل، وهذه الانتهاكات جميعها تؤكد أن المشروع الحوثي لا يقتصر على السيطرة العسكرية، بل يسعى إلى فرض هيمنة فكرية وطائفية تهدد الهوية الدينية والوطنية للمجتمع اليمني.
التنكر لقيم التعايش
وكانت هيئة علماء اليمن قد أدانت، الشهر الماضي، تهجير مليشيا الحوثي الشيخ عبد الباسط الريدي وطلابه من مسجد السنّة وسكنهم في منطقة سعوان بالعاصمة صنعاء، معتبرة هذا الفعل جريمة شنعاء تعكس سلسلة طويلة من المضايقات والاعتداءات الطائفية ضد العلماء والدعاة وطلاب العلم.
وأكدت الهيئة أن التهجير القسري يعكس الوجه الحقيقي للمليشيا الإجرامية القائمة على الإقصاء والتنكّر لقيم التعايش ومبادئ الإسلام السمحة، محذّرة من أن هذه الممارسات تهدف إلى تفريغ المناطق الخاضعة لسيطرتها من الوجود السني وفرض هيمنة فكر طائفي على المساجد.
وأوضحت الهيئة أن الحوثيين حولوا العديد من المساجد إلى ثكنات عسكرية ومراكز لتعاطي الممنوعات، وأهانوا العلماء في محاريبهم، وحوّلوا المساجد إلى منصات للتعبئة الطائفية، بما يهدد الهوية اليمنية والنسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع.
وحملت الهيئة المليشيا المسؤولية الكاملة عن هذه الجرائم، مطالبة بعودة الشيخ عبد الباسط وطلابه إلى مسجدهم وسكنهم فوراً، مع تعويضهم عن الأضرار المادية والمعنوية وضمان حرية الدعوة والتعليم الشرعي، بالإضافة إلى تقديم اعتذار رسمي لهم.
وجددت التأكيد أن هذه الانتهاكات امتداد لنهج إجرامي طويل يستهدف القرآن وعلوم الشريعة والحديث، مشددة على أن الدفاع عن العلماء والمساجد هو دفاع عن مستقبل الأجيال ووحدة المجتمع، داعية الجميع إلى توحيد الصوت ضد هذه الممارسات وكشف المشروع الحوثي الطائفي.
ويؤكد مراقبون أن دراسة هذه الانتهاكات الحوثية وتحليل أبعادها يشكل ضرورة وطنية ودولية لفهم السياسة الحوثية في السيطرة على المجتمع اليمني، وتقديم أدلة موثقة للضغط على المليشيا الحوثية، ووقف هذه الممارسات التي تهدد استقرار الدولة والمجتمع، وتمس الحقوق الدستورية المكفولة بالقوانين والمواثيق الوطنية والدولية.