* ربما توقعنا أن نعاني ونتألم ونجوع ونعرى في هذه الحرب الهمجية الظالمة, وربما لاحت في أفقنا صور وأشكال هذه المعاناة والمأساة, ولكن لم يدر بخلد أحد منا أن تبلغ المأساة والمعاناة ذروتها وأن تصل إلى قمتها وفي أبشع صورها وأشنعها على الإطلاق ومن بني جلدتنا الذين منحناهم يوما وطن بجغرافيا وثروات وخيرات ورجال ومكاسب.. * أن تكفهر السماء في وجوهنا, وتوصد الدنيا أبوابها وتضيق بنا ربما رحبت, فلا سماء في وطننا تظلنا, ولا أرض تقلنا, ولا آدمية وإنسانية أو ضمائر حية في هذا الوطن المترامي الأطراف تشعر بمعاناتنا والمنا وهمومنا ومصابنا الجلل نحن الجنوبيين فهذه (مصيبة) بل كارثة تؤكد إنقراض الآدمية وموت الضمير الإنساني في من قيل أنهم (الين) قلوبا (وأرق) أفئدة, وقيل أنهم ذا حكمة وحنكة وعقل قلما تجد مثلها, وللآسف من يقتلنا, وهم من يدمر منازلنا, وهم من شردنا وقضى على وجودنا, فأين لين القلوب, وأين رقة الأفئدة, وأين تلك الحكمة؟ ..
* أن يهرب الجنوبيون من الموت إلى الموت بحثا عن الأمان والسكينة والسكنى, وإلى المجهول تأويهم فيه صحراءه, وتلفحهم فيه زمهريره, وتترصدهم حيواناته وهوامه, وتلاحقهم (الحسرات) والألم والوجع, بعد أن كانوا أعزة في ديارهم, كرام بين أهليهم, شرفا في (جنوبهم), فهذا هو الألم والضياع الحقيقي, والتعاسة والبؤس الذي خط عنه (فيكتور هوجو) يوما فصار واقعا ملموس يعايشه الجنوبيون ربما بطرق أشد قسوة وإيلاما ومرارة..
* أن تتلقاك الأمراض والأوبئة وتفتك بك ليل نهار , وتسلب أهلك وذويك وفلذات كبدك, وأنت مكتوف اليدين لاحول لك ولاقوة, مسلوب الإرادة, فاقد للحيلة, تخنقك العبرات, ويتكسر الدمع في مقليتك, وتلتهم جوفك براكين الإنسحاق والآهات والأنين, فأي (عيش) سيهنئك, وأي (مقام) سيطيب لك, وأي واقعا ستتعايش معه أو تتأقلم معه؟ وأنت المسلوب (وطنه), المزهقة (أرواح) شعبه, (المهدرة) دماؤه..
* أن يتخلى عنك الكل رئيس ومرؤوس,وزير وغفير, مؤسسات, أفراد, جماعات, منظمات, آدمية, إنسانية, ويتركوك وحيدا تتخبط, تجابه الموت, وتصارع الألم, وتقتات الجوع, وتتكحل بالسهر,تبحث عن شربة ماء تروي عطشك, عن (كسرة) خبز يابسة تسد رمق جوعك, فمعناه أن لا أحد يستحق منك أن تكون يوما تابعا له, تأتمر بأمره, وتنصاع لكلامه, وتطيع تعليماته, وتشهر له ولائك, فمن تركك في الشدة وولى هاربا لا ينبغي أن تكون معه في الرخاء, مهما كان معسول كلامه, وعذب بيانه ومنطق أفكاره..
* أن تحصد أسلحة الموت والدمار أرواح العشرات بل المئات من أبناء الجنوب,وتحتضنهم المقابر, ويخيم الحزن والألم على أهاليهم وذويهم, ومن أوكلنا إليهم حفظ أمننا وأماننا وسلامة أرواحنا يلبسون الحرير والديباج,ويأكلون مما لذ وطاب, ويسكنون القصور السامة ويركبون السيارات الفارهة,فأي حب ستحوي دواخلنا لهم, وأي ود وإحترام ستجيش به صدورنا لهم, فمن يرقصنا طربا على نواحنا, وينتشي فرحا على آلمنا ولايكترث بنا البتة لا يمكن ان يكون له وجودنا في جوانحنا وخلجاتنا..