أثار تصريح رجل الدين الصوفي المعروف/ علي الجفري في حديثه في جامعة القاهرة حين قال" لن يستقر اليمن حتى ينفصل الشمال عن الجنوب" أثار حفيظة البعض وفتح نقاشا طويلا حول علاقة التصوف بالسياسة، في الوقت الراهن وهل يوجد تصوف سياسي في اليمن؟؟ أو أنه في بداية تشكله؟؟ في حديثي هذا لن أخوض في حقيقة جدوى ذلك التصريح السياسي المجتزأ الذي قد يكون صحيحا من ناحية سياسية واقعية، ولكنني سأتطرق إلى موضوع علاقة التصوف المعاصر بالسياسة.....علما بأنه لا يمكن فهم ذلك إلا بالرجوع إلى الوراء )تاريخيا ( والتنقيب في معالم وطبيعة تلك العلاقة خصوصا في حضرموت والجنوب.
وهل توجد محاولات تاريخية تعكس بداية تشكل تصوف سياسي؟؟؟ أو أن التصوف ظل بصورته الروحية الفقهية كخط أحمر يمنع تجاوزه؟؟؟ نشأ التصوف وبدأ يبرز في القرن السابع (وان كان هناك ثمة خلاف حول زمان النشأة) كردة فعل للانخراط الجماعي للأمة في أتون صراعات السلطة, وأيضا للفساد والبذخ الناتج عن الفتوحات الإسلامية وازدياد الخراج وقد عبر التصوف عن نفسه بالترفع والانعزال والانسحاب من ذلك الفتات ومن تلك الصراعات, ووجد له معتنقيه تفسيرات تبريرية في اللاهوت الديني تدعو إلى الانعزال, والاهتمام بالجانب السلوكي والتربوي والروحي, وهو ما يقتضي على المتصوف احتقار المادة وفتات الدنيا والعزوف والانعزال عن المسليات والملهيات.
في جنوباليمن وفي حضرموت تحديدا تتشكل خارطة التصوف (تاريخيا) في إطار النأي بالنفس من الانخراط وراء الماديات والصراعات الدنيوية ( حسب ما يعتقدون) , ويجنحون إلى وضع حد فاصل بين الدين وممارسة السياسة, ويتم ذلك عبر أسس التصوف الأربعة القائمة على الزهد والمحبة والمعرفة والولاية. وقد سيطرت القاعدة الصوفية (ممارسة السياسة تفسد الدين) على الخطاب الديني المتصوف, وأصبح مجرد الحديث حولها خروجا على القاعدة ومقتضيات الخطاب الديني المعتدل.
في مجتمع مازال يسود فيه الإيمان بالغيبيات والقصص الخرافية والخطابات الميتافيزيقية, شق التصوف طريقه واستطاع التأثير في المجتمع أفقيا وعموديا, وبلغت تخيلاتهم المتجاوزة للماديات وللعقل, التأثير والهيمنة على الوعي الجمعي والثقافة والكينونة الفردية, تلك التخيلات تمجد الولي وتسخر له إمكانات لابشرية تجعل منه أسطورة متجاوزة للزمان والمكان, في صياغة حقيقية وامتداد مادي لتجربة المقدس والقداسة, ولن أطيل كثيرا في هذا الجانب بما قد يقود إلى تفرعات لا علاقة بمحور المقال.
في مرحلة ما بعد استقلال جنوباليمن (الجنوب العربي) في العام 1967 اتسمت العلاقة مع النظام الاشتراكي (اليساري الراديكالي) الحاكم آنذاك بأنها علاقة قطيعة, وقد قل تأثيرهم بشكل كبير على المستوى الاجتماعي والسياسي على حساب الايديولوجيا الاشتراكية الصاعدة, التي حملت على عاتقها قيادة المجتمع والتحكم في سير التحولات المجتمعية المختلفة, وظلت تلك العلاقة في حالة عداء مطمور,حتى ظهر على السطح بعد سقوط الدولة وانهيار النظامالاشتراكي.
ما بعد العام 1994 نشأت مرحلة سياسية جديدة وبرزت علاقة مختلفة بين ذلك التيار المتصوف والسلطة السياسية يمكن تصويرها بأنها علاقة ود وتبادل منافع وشهدت مصالحة منفعية إلى حد مشاركة أحد رموزهم في مهرجانات المنافسة السياسية لدعم الحاكم آنذاك في 2006, إلا أن مشاركاتهم ظلت محدودة جدا وبصورة فردية, ولا ترقى إلى الحديث عن بوادر ظهور نواة لتصوف سياسي, بما يعني أن الصوفية ظلت تفضل التحرك في الظل بعيدا عن الأضواء السياسية وتتجنب المواجهة المباشرة مع الجماعات السلفية المتشددة وجماعات الإسلام السياسي.
وفي الحديث حول علاقة التصوف بالسياسة وجب أن نعرج قليلا لنقطة غاية في الأهمية وتمثل تحولا جوهريا في ذات الموضوع ففي مصر بعد العام 2011 بدأ يتشكل تصوف سياسي حيث بدأت بعض الطرق الصوفية تشكل أحزابا تمثل أذرع سياسية لها مثل حزب التحرير المصري، وحزب نهضة مصر، وحزب النصر الصوفي، والتي أعلنت عن خوض الانتخابات البرلمانية، ومارست العمل السياسي بطريقة مستقلة عن أجهزة الدولة، وبدأت تنسق مع قوى مدنية وتبني تحالفات مستقلة عن السلطة الحاكمة...
بينما بقي التصوف في حضرموتوالجنوب منكبا على الاهتمام بالجانب السلوكي والتربوي والروحي, محافظا على صورته التقليدية, يتورع ويحذر من الانجرار إلى مربع تسييس الدين, أو المساس بتخوم السياسة الحارقة بوصفها شر مطلق, بما يصح توصيف التصوف في حضرموت بأنه "تدين شعبي" كونه يعتمد على ركيزة تقديس الأولياء, وكذلك على المواسم والزيارات, والطقوس الدينية....
كلمة لابد منها: ندرة الدراسات المهتمة بالتصوف في حضرموت من منظور انثروبولوجي, ومن منظور علم الاجتماع, وعلم الاجتماع السياسي, تمثل معضلة حقيقية وعائق كبير لفهم جزئيات وحيثيات ومستقبل تلك العلاقة, ويبقى سؤال التصوف السياسي محل تساؤل مستمر, في انتظار الباحثين والمثقفين والمؤرخين لإيجاد له مقاربات بحثية وعلمية تمكننا من فهمه بصورة أكثر وضوحا وأقل تحيزا.