الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    نهضة بركان إلى نهائي الكونفيدرالية بعد انسحاب اتحاد العاصمة    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة من أدب المقاومة الجنوبية .. مخاتلة قناص
نشر في عدن الغد يوم 07 - 04 - 2016


الإهداء
إلى ابن المنصور الفتى الأسمر ة الذي ذاد عن الدين الأرض والعرض ومرغ أنوف الغزاة الطائفيين في تراب عدن وذاق حلاوة النصر و قبل أن يذوق ثمار السلم بسويعات استشهد, إلى الفتى الخلوق اللين والضحوك الفتاك بالعدى, الذي لم أعرفه قط ولكنني سمعت سيرته العطرة ورأيت صورته السموحة فأحببته ميتاً, إلى روح الشهيد محمد البكري أهدي هذا العمل الذي استلهمته من سفر البطولة الذي سطره ورفاقه بدمائهم.

مخاتلة قناص

"أحرق قلوبنا هذا القناص عليه لعنة الله. في كل يوم له نصيب من لحومنا: إما قتيل وإما جريح. يجب أن نقتله بأي ثمن وبأي وسيلة وإلا نكب من تبقى منا. رباه كيف العمل ؟! حاولنا مرارا ضرب الغرفة التي يأتينا منها الرمي, ولا فائدة, إنه مثل الجني لا نستطيع أن نراه, وكأنه وقبيله يرونا من حيث لا نراهم. رمينا الغرفة بالآر بي جي فصنعت في جدارها ثقبا لكن الرجل لم يُقتل, بل مستمر في قتلنا. آه من قناصي الحرس الملاعين ! إنهم مهرة ويجيدون التخفي, وينكبون شبابنا نكبات عظيمة ! لكن لا ! لا نجونا إن نجوت ! سنصل إليك بأي وسيلة وبأي ثمن !"
كان ذلك ما يجول في ذهن محمد البكري ضحى أحد أيام شهر يونيو, وهو يناوب مع شباب المقاومة في بعض العمائر في جعولة شمال مدينة عدن في بيوت بلوك يقال له صفر يواجه قرية الفلاحين. كانت هناك عدد من العمائر الجديدة في الجهة اليمنى من القرية, وكانت إحداها في الركن الشرقي من القرية, وكانت تواجه القطاع الذي ترابط فيه مجموعة هلال الحسني المقاوِمة. وكان يقبع في هذه العمارة قناص بارع. كان هذا القناص يمنعنا من الحركة أو الظهور في النهار, وما كان لأحدنا أن يتحرك نهاراً بين البيوت إلا على وثبات خاطفة وقصيرة, لئلا يتمكن من التسديد علينا. كانت الأفكار تؤزه ليجد خلاصا من محنتهم مع هذا القناص. فإذا به يصيح في رفاقه المرابطين معه في العمارة:
- علينا أن نقتل هذا القناص بأي ثمن, لكن كيف العمل ! فكروا يا شباب بأي طريقة تمكنا من رأس هذا الملعون !
قال له محمود:
- أنت ترى الوضع أمامك, كم راقبنا الطاقة ولم نستطع أن نراه, لم يظهر يوما واحدا حتى ظهورا خاطفاً.
- طيب أيش رأيكم يا شباب إن نقتحم عليه العمارة ؟ ! قال محمد البكري ذلك الكلام بنغمة ممطوطة ومشوقة.
لكن هلال الحسني عندما سمعه فز كمن وخزته إبرة وقال له بصوت غاضب:
- أنت مجنون أم عاقل ؟!
- لا والله عاقل !
- أي عاقل وأنت تريد أن تودّر عيال الناس ! هل تريد أن تقضي عليهم ؟!
- اسمعني يا هلال أنت والجماعة الله يحفظكم.
- هاه, قل !
- نحن هنا لماذا جئنا ؟ نلاعب المجوس كرة أم ندافع عن ديننا وأرضنا وعرضنا ؟
أجابه أكثر من واحد بلغط جماعي:
جئنا ندافع عن الدين والأرض والعرض.
- طيب ! نحن هنا جئنا لواحدة من اثنتين: إما النصر وإما الشهادة, وأنتم ترون هذا القناص كل يوم يضرب فينا, ونحن بين قتيل وجريح. القناصة قيدونا عن العمل وإذا استمرينا على هذا الحال فلن ننتصر بعد عشر سنين.
قال أحدهم مؤكدا لكلامه :
- أي والله سنصير مثل سوريا.
- فقال محمد البكري:
- وحتى لا نصير مثل سوريا علينا أن نبذل ونضحي ونتشجع.
وقال محمود مؤيدا:
- هذا القناص إذا بقينا هنا سيقتلنا كلنا واحدا وراء واحد. اليوم مثلما علمتم صوب صبري باحاج في عينه. كانت هناك أربعة ثقوب في الجدار. وعندما نظر صبري من الثقب الأيمن بادره بطلقة في العين.

- أما أنا فقد حدد القناص الفتحة التي كنت أرمي منها, وعندما أخرجت ماسورة البندقية رمى علي وكان يريد أن يصيب عيني, أصاب أنبوب الغاز في البندقية وسلمني الله من القتل. وبسرعة سحبت نفسي وغيرت موقعي, ولو لم أفعل فقد كانت نهايتي محققة.
نظر إليهم هلال وهز رأسه وهو يقول:
- يا شباب حاولوا أن تفهموني, المسؤولية ليست سهلة, وأولاد الناس ليسوا لعبة في يدي, بل أرواح, ولهم أهل وزوجات وأطفال. الاقتحام يا شباب ليس لمن هب ودب ! الاقتحام له أناس مدربون خصيصا, وأنتم هنا كلكم مدنيون, لا أحد فيكم عسكري, ولو كنتم عسكر فلا يكفي, الأمر يتطلب قوة خاصة مدربة على التسلل والاقتحام. أنتم تريدون أن تدخلوا إلى وكر الضباع بأرجلكم, وتظنون أن الأمر سهل. لو كان عندي أمل أن أرسل خمسة منكم فينفذون المهمة ويرجع منهم ثلاثة أو اثنان لأرسلتهم؛ لنتخلص من هذا القناص الذي قتل علينا الكثير وقد يقتل أكثر.
- طيب أيش العمل ؟ نبقى متفرجين ؟ قال محمد البكري بنغمة تطفح بالتعجيز والالزام بخياره. فرد عليه هلال بهدوء قائلا:
- ليس لنا الّا الصبر والاستعانة بالله. لو كان عندنا ب-10 أو هاون 120 كنا نستطيع أن نقضي عليه بسهولة, لكن كما ترون ليس معنا الًا البنادق وقليلا من قذائف الآر بي جي, وعيال الذين لديهم الهاونات. اصرفوا نظراً عن الموضوع, والله يجيء بما فيه الخير.
كان هلال يفكر ليس في المسؤولية عن أرواح الجنود فحسب, بل في العدو إذا تمكن من المغيرين. سترتفع معنوياتهم, وقد يعود هذا بنكسة للمقاومة وتقدم للحوافش على الأرض. لذك لم يرغب في مغامرة نسبة فشلها أكبر من نجاحها.
عاد هلال بعد ذلك الى المنصورة, وبقيت مجموعته مرابطة في جعولة. بقوا موتورين. ولم يقنعوا بما قاله لهم؛ لذلك بعد أن ذهب هلال ابترز محمد البكري بمحمود, وقال له:
- كيف ترى في ما قاله قائد المجموعة ؟
- كلامه صحيح بأننا غير مدربين, لكن من غير المعقول أن نبقى للقناص هكذا حتى يجهز على بقيتنا.
- أنا أعرف أنك رجل جيد, لكن الآخرين ليست لديهم أي خبرات كافية, ولا نريد أن نخسر أحدا منهم. إذا كنت مقتنعا بالاقتحام فسأذهب أنا وأنت إلى مجموعة اللحوج وسنستعين بعدد منهم. إن لديهم خبرات في الاقتحامات.
كان محمود شابا في الثامنة والعشرين تقريبا, طويلا, مفتول العضلات, رابط الجأش عند المواجهات, وذا فطنة ونباهة, وسريع التعلم في أمور القتال. كانت هذه الخصال ما شد محمد البكري فيه وجعله يختاره من بين الآخرين. وكان محمد البكري الرجل الثاني في قيادة المجموعة بعد هلال. لقد كان ما اتفقا عليه كسرا ً لأمر قائد مجموعتهم. لذلك قال محمود:
- لكن كيف نصنع مع هلال؟
- سنخفي عليه الأمر تماما, أما المجموعة فلن نخبرهم إلا قبل الخروج مباشرة حتى لا يصل الخبر لهلال, وإن وصل فبعد التنفيذ. المهم خذ في حسابك هذه عملية انغماسية سننغمس في العدو, وقد لا نرجع. المهم وطن نفسك على الشهادة !
- الله كريم ! إما أن نتمكن من القناص وإما الشهادة.
- لكن أهم شيء أن نقتل القناص وبعد ذلك إذا استشهدنا فلا مشكلة, علينا أن نقتص لكل من قتلهم وجرحهم !
- هيا بنا إلى اللحوج !
وذهب الرجلان إلى محسن فرحان قائد مجموعة اللحوج. بعد أن حيا بهم وجلسوا, سألهم عن الأخبار, فقال له محمد البكري:
- ماذا أقول لك ؟ لدينا قناص في العمارة المقابلة لنا قتل منا كثيراً وجرح كثيراً, ومنعنا من الحركة في النهار. ونحن نفكر بأن نلتف على العمارة ونتسلل إليه ونقتله.
- إن كان لكم حاجة أقدر أن أساعدكم فيها فأبشروا !
- أنت تعرف مجموعتنا, أغلبهم صغار في السن, وليس لديهم أي خبرات في مثل هذا العمل, وهلال رفض تماما أي تحرك لنا, لكن أنا ومحمود عازمون على قتل القناص حتى لو قُتلنا. جئناكم اليوم نلتمس منكم العون ببعض الرجال. ما شاء الله ! جماعتكم لها خبرة في التسلل والاقتحامات.
- لا تهتموا من هذا الأمر, أنتم اثنان وأنا سأعطيكم ثلاثة من مجموعتنا. أظن أن خمسة يكفون لهذه العملية, أم لا يا بكري ؟
- بالضبط خمسة يكفون, وإذا كثرنا فقد ننكشف, بخمسة نستطيع أن نتسلل بخفة ومهارة.
أشار محسن فرحان إلى ثلاثة فتيان معه قائلا:
- سأعطيك هؤلاء.
كانوا ثلاثة فتيان في بداية العشرينات من أعمارهم, وذوي قامات طويلة رياضية نافرة العضلات. كانوا يعلمون أن مثل هؤلاء هم من يصلحون لعمليات التسلل, فأجسامهم القوية تعطيهم ميزة خلف خطوط العدو وتمكنهم من حسم أي عراك مع العدو بالأيدي المجردة أو بالسلاح الأبيض سريعا. كانت قاماتهم الرياضية الطويلة تدخل الرعب في نفوس الحوافش عندما يباغتون بهم, وتمكنهم من التغلب بسهولة على الحوافش الضئال القامات غالبا, وكأنهم يتعاملون مع طفل صغير.
- طيب متى تنوون الانغماس ؟
- اليوم العصر, نريد أن نخارج القناص قبل المغرب, لا نعلم روح من سيطفئها إن بقي إلى الغد. الآن الساعة الثانية. الرابعة أحسن وقت للتسلل, فهم في هذه الساعة مكيفون بالقات الممتاز.
كان المقاومون في جبهة جعوله قد طالت بهم المناوبات وتعدت الشهرين, وكانت مواقعهم متقاربة مع مواقع الحوافش المواجهة لهم في الأماكن المبنية, وكانت أحيانا لا تبعد أكثر من 150 متراً عن مواقع الأعداء. كانوا يسمعون بعضهم عندما يصيحون. كانت معظم مجاميع المقاومة في جعولة تأتي من المنصورة. لم تكن هذه المجاميع ترابط طويلا بل اتخذوا نظام المناوبات بديلا. كانت المناوبات توفر لهم فترة راحة وتخفف من أعباء التموين. كان طول أمد المناوبة قد أكسب أفراد هذه المجموعات معرفة جيدة بالمنطقة وبمواقع تمركز الحوافش. كانوا يعرفون حجم قوتهم الصغير ومواقع تمركزهم ومداخلهم ومخارجهم وأوقات راحتهم ومواعيد وجباتهم. كان لهذه المعرفة قيمة كبيرة في تسهيل التسلل. هذا القرب منهم جعلهم يحفظون النمط اليومي لحياة عدوهم, ويعلمون أوقات نشاطه وسكونه. كانوا يعلمون أن الأعداء بعد أن يخزنوا بساعة أو ساعتين يميلون إلى الاسترخاء, وعند الساعة الرابعة يبلغون ذروة التكييفة, وقلما ينشطون للقتال في هذا الوقت, وعند الخامسة ينجع أكثرهم القات, وكان العشاء يصل إليهم في الخامسة أو السادسة. وضع البكري في حسابه أنه إذا لمحهم أحدٌ من الأعداء فسيظن أنهم منهم. فالحوافش صاروا يقلدون مجاميع المقاومة, فلا يلتزمون بزي موحد, ويلبسون ثيابا رياضية, أو سراويل عسكرية وقمصانا مدنية, وبعضهم يلبسون مثل القاعدة: عمائم سوداء وسراويل أفغانية.
سأل محمد فرحان:
- هل حددتم في أي دور هو ؟ وهل هناك أحد غيره في العمارة يرمون ؟ وماذا عن العمارات المجاورة ؟
- هو في الدور الثالث, وليس هناك من يرمينا من تلك العمارة غيره. وأربع من العمارات المجاورة لعمارته على اليسار لا تأتي منها أي نيران. هو يقوم بتغطية قطاع رمي يشمل عددا من عمائرنا المواجهة لهذه العمارات كلها.
- ومن أي طريق ستتسللون ؟
- سنتسلل من الجهة اليمنى للعمارة عبر العمائر المجاورة. صنعنا فجوات في جدران العمائر, واعطتنا ممرا أمنا من أنظار العدو يمكننا أن نتسلل عبره إلى المدرسة, ثم سنقفز من سورها الشمالي إلى جهة العمائر التي في قطاع الحوافش بعد التأكد من خلو الطريق. تلك العمائر بحسب ملاحظتنا لا أحد يتمركز فيها, وبعدها نمشي ما بين صفين من العمائر حتى نصل لعمارة القناص من الخلف.
- كيف ستقتلونه ؟
- سنتسلل إليه وسنباغته, إن استسلم قيدناه واعطيناه طعنة بالسكين في الرقبة, وإن لم يستسلم سنباشره بالرصاص.
- طيب, نريدكم أن تتنبهوا لهذه الأمور, يجب أن لا يطول وقت العملية على نصف ساعة منذ انطلاقكم إلى حين عودتكم. ولا تنسوا أن الحرس الجمهوري غالباً ما يضعون على أي عمارة فيها قناص حارساً أو حارسين على الباب؛ ليمنعوا أي تسلل. فكونوا منتبهين لذلك !
- لا تهتم بهذا الشأن. قال فتى لحجي اسمه فضل ممن اختارهم فرحان للذهاب مع البكري, وأردف: أنا سأتعامل مع الحارس, ومحمد البكري يغطيني من الخلف أو في حال ظهور واحد من الأمام.
- ممتاز يا فضل, وبعدها يا بكري بسرعة البرق ادخلوا العمارة, وأبقوا واحداً في منتصف الدرج عند انعطافها؛ ليحرسكم من أي متدخل, وواحداً في الدور الثالث بعد دخولكم, يحرس مدخل الشقة, فقد يكون هناك أحد مختبئ في الشقة المقابلة. وبعد أن تدخلوا إلى بوابة العمارة يجب أن لا يطول الوقت عن عشر دقائق, تصفون فيها القناص, وتنسحبون من العمارة جريا حتى تصلون, وإلا سيكتشفونكم إن وصلت الساعة الى الخامسة, وجاء عشاءهم مبكرا. في كل الأحوال إن كشفوكم فلا مجال لكم إلا الشهادة. إياكم أن تستسلموا سيقطعونكم إربا. إن كشفوكم سنعرف من الرمي. سنشاغلهم من جهتنا, وقولوا لمجموعتكم أن تشاغلهم, فقد يُقدَّر لكم النجاة.
- أسأل الله أن تكون العواقب سليمة.
رجع البكري ومحمود إلى قطاعهم الذي يناوبون فيه مصطحبين معهما ثلاثة من اللحوج. كانت الساعة الثالثة حين وصلوا إلى مجموعتهم. عندما رأوا اللحوج علموا أن البكري قد نوى عملاً؛ فاللحوج في ذلك القطاع لا يأتون إلا لتنفيذ أعمال هجومية غالبا, أو لصد هجمات الحوافش حين تشتد.
طلب البكري أن يجتمع الأفراد, فاجتمعوا في إحدى العمائر الآمنة, فقال لهم:
- يا شباب لا وقت لدينا الآن للكلام الكثير. تكلمنا مع هلال عن قتل القناص, فرفض لأننا لسنا متدربين. لكن من غير المعقول أن يبقى القناص يقتل فينا هكذا. المهم: تكلمت مع فرحان, وأعطاني ثلاثة من رجاله المتمرسين بالتسلل والاقتحام, وأنا ومحمود سنذهب معهم. يجب أن نقتل هذا القناص بأي ثمن حتى لو كان فيها شهادتنا. المهم لا ترموا على القناص أو غيره حتى نرجع. الآن هم مكيفون بالتخزينة وفي نشوة واسترخاء. أي رمي سيستفزهم ويجعلهم في حالة يقظة واستنفار, وهذا ما لا يناسبا, لأننا نريد أن نتسلل للقناص ومن معه وهم في حال استرخاء؛ لنقدر على مباغتتهم والقضاء عليهم دون أن يشعر أحد في باقي العمائر القريبة منهم؛ فلا يأتيهم مدد. لكن إن انكشفنا, ووجدتم أننا وإياهم في معركة حامية الوطيس حاولوا أن تشاغلوهم في قطاعكم بالرمي؛ لينخدعوا بأصوات الرصاص, فيظنوا أن الهجوم آت عليهم من جهتكم, فلا يلتفتوا للآخرين. لكن لا تستعجلوا بالرمي عند سماعكم لأول طلقة أو طلقتين فقد نضطر لتصفية أحد الحراس. فقط عند نشوب معركة حامية الوطيس اشعلوها من عندكم. مفهوم يا رجال !
فأجابه الشباب بصوت موحد قوي:
- مفهوم !
- بقي شيء أخير يا شباب, ما ندري أنرجع أم لا فسامحونا وأنتم مسامحون !

تأثر الشباب كثيرا بما قال البكري, وغصت حلوقهم, وأخذت العبرة بعضهم. لكنهم أجابوا بأصوات متفرقة متهدجة أو خافتة.
- مسامحون دنيا وآخرة
- المهم الله الله إذا استشهدنا. لا يرون منكم لينا ولا اهتزازا, أذيقوهم الصَبِر.
- لا تقلق. قال أحد الفتيان.
- نستودعكم الله. الساعة الأن الرابعة إلا عشرين. سنصلي وسننطلق.
انطلقت مجموعة الإغارة بعد أن أتموا صلاة العصر متسللين عبر العمائر حتى وصلوا إلى سور المدرسة الجنوبي, وتسللوا من إحدى الحفر التي كانوا قد صنعوها في السابق. حين بلغوا سور المدرسة الشمالي مسحوا بأعينهم العمائر المجاورة وتأكدوا أن لا أحد يرصدهم, فرفعوا أحدهم بأيديهم ليرى ما خلف السور وبعد أن أشار لهم بأن لا أحد أمامه, رفعوه لأعلى السور فوثب إلى الجهة الأخرى, وتبعه الباقون. ومشوا بموازاة السور إلى الغرب؛ ليصلوا إلى صف العمائر الأول وراء عمارة القناص. كانوا يسيرون ببطء وبينهم مسافات تصل إلى سبعة أمتار؛ لئلا يسهل حصدهم ببندقية أو بقنبلة إن كُشفوا مجتمعين, وكانت عيونهم لا تكف عن مسح كل المباني. عند وصولهم لطرف السور, كان محمد البكري في المقدمة. وقف فوقفوا. جثى على ركبتيه وتقدم بطرف رأسه من خلف السور ليتأكد من خلو الشارع المقابل لهم, ثم وثب مسرعاً وتبعوه حتى وصلوا إلى الصف الأول من العمائر التي كانت تفصل بينهم وبين عمارة القناص. بينما هم يتهيؤون للعبور من جانب عمارة في نهاية الصف الأول وقطع الشارع ليصلوا الى الصف الثاني, إذا بهم يسمعون طلقات نارية عديدة. ظنوا لوهلة أن أمرهم كُشف وأنه قضي عليهم, لكن سرعان ما أفرخ روعهم حين علموا أن الرمي ليس عليهم. كان الصوت يأتي من بين صفي العمائر. تقدم محمد البكري وفضل إلى طرف العمارة وراح محمد يختلس النظر, ورأى اثنين خلف مترس يرميان على إحدى العمائر التي تواجههم في قطاع المقاومة. رجع برأسه سريعا. لم يكن لديه أي وقت ليضيعه, وعليه أن يتخذ قراره بسرعة ودون أي ترو, وما كان ليتكلم مع رفاقه؛ لأن العدو سيسمعهم, فأشار لهم بيده أن هناك اثنين من الأعداء, وأشار إلى نفسه وإلى فضل اللحجي ففهم البقية بأنه سيصفي الرماة من الخلف هو وفضل, فهزوا رؤوسهم بالموافقة, ثم أشار إلى أصدقائه فعينِهِ فالعمائر, ففهموا أنه يطلب منهم حمايته ممن قد يخرج منها. كانت ثوان مكتظة بقلق يوغل يده في أحشائهم فيعتصرها, حين تقدم محمد وفضل اللحجي ليقتلا الراميين, كانت قلوبهم قد بلغت الحلوق من الرجفان. إن طامة توشك أن تحل بهم بعد أن كانت مهمتهم تسير في طريق النجاح. إنهم الآن في وجار الضباع, وإن شعرت بهم فستتناوشهم ولن ينالوا من القناص. يا للخسران !
ما كان بالمستطاع القضاء على الراميين طعنا بالسكاكين؛ لقد كانت بينهم فسحة تصل إلى خمسين مترا, ويعسر على المتسللين أن يصلوا إليهم دون أن ينكشفوا. وكانا راميين اثنين, لا واحداً, وكانا في يقظة وأصابعهما على الزناد؛ لذلك لم يكن للبكري ورفيقه من وسيلة إلا أن يباشراهما بالرصاص قبل أن يتنبها لظهورهما, ويجب أن يصيباهما من الطلقة الأولى لكيلا يتنبه من في الجوار ويتحول الأمر إلى معركة.
خرج المغيران في لمح البصر من خلف الجدار, وأطلق كل واحد منهما ثلاث طلقات على أحد الرماة؛ فأصاباهما, وقتلاهما على الفور, وتراجعا إلى خلف الجدار. بقيا لبرهة, ولما لم يسمعوا أي لغط في الخارج, علموا أن الحوافش لم يتنبهوا, ولعلهم ظنوها نيراناً صديقة تُكال على مواقع "الڈواعش".
تقدم محمد وفضل إلى المترس الذي كان الراميان فيه واقتربوا منهما, فرأوا بركة الدماء تحتهما وتأكد لهما أنهما قد ماتا. حينها انطلقت المجموعة نحو عمارة القناص. لم يكن يفصلهم عنها إلا الصف الثاني من العمارات. انسلوا من ممر صغير بين عمارتين في ذلك الصف, وتقدموا وقبل أن يخرجوا من هذا الممر ليصلوا إلى عمارة القناص تناهى إلى سمعهم أصوات زوامل تصدح من جوال فتوقفوا, وتقدم محمد البكري كالعادة ليختلس النظر إليهم من أدنى زاوية المبنى. وعاد وأشار إليهم أن يقتربوا, وقال لهم :
- هناك حارس في بوابة العمارة, هو في الداخل ولا يظهر منه شيء, إذا مشينا بجانب الجدارن والتففنا إلى جدار العمارة التي هو فيها, فلن يرانا ولن يشعر بنا إلا ونحن فوقه. فضل تقدم وأنا بعدك. البقية اتبعونا.
قطعوا الممر ثم سارو بمحاذاة العمائر حتى وصلوا إلى الزاوية وانعطفوا. إنهم الان يسيرون بموازاة جدار عمارة القناص, ويخشون أن يشعر بهم الحارس؛ فتذهب المباغتة ويُحصرون بين الضباع التي ستتناوشهم. كانوا يسيرون ورؤوسهم تدور كالرادار تمسح مجال البصر خشية أن يطلع عليهم أحد الحوافش, فيبادرهم بالرمي. كان عليهم كشفه قبل أن يكشفهم, ورميه قبل أن يفوق من المباغتة, فالأفضلية لمن سيرمي أولا. وضع فضل اللحجي البندقية على ظهره حين اقتربوا من الباب, وسل سكينا من جعبة الذخيرة كان يذخره في جعبته لمثل هذه الحالات. كان فضل كبعض مقاتلي المقاومة قد حملوا السكاكين متأثرين بمشاهدتهم لأعضاء تنظيم القاعدة, وقد خبروا مع الأيام من فوائدها الكثيرة. اقترب فضل اللحجي من الباب وفي إثره محمد البكري, وكان صوت الجوال الصيني يصدح بنشيد "حيا بداعي الموت". وعندما صار بجانب الباب رأى أقدام الجندي, فأيقن أنه جالس مسترخ مستمتع بتخزين القات, ثم في لمح البصر وثب إلى داخل العمارة فرى شهقة الموت في عيني الجندي.
وثب البكري بعد فضل وتبعه الباقون سريعا. وجدوا الحارس جالساً على كرتون ومتكئا على طوبة عليها بطانية وبجانبه جواله يصدح بزامل " حيا بداعي الموت قل للمشرقي والمغربي" وأغصان القات الفاخر وعلب الماء. و لم يترك فضل الفتى الجبار الذي حنكته التجارب للحارس أدنى فرصة, بل هوى عليه وضعاً ركبتيه على فخذي الحارس ليثبت أطرافه السفلى, وبراحة يده اليسرى وأصابعه القوية كملزمة سد فم الحارس وأنفه, فلم يترك له أدنى نفس ليخرج, وبيمناه طعنه في صدره فانغرس السكين بسهولة في صدر الحارس الرقيق البنية, وطعنه ثانية وثالثة, كان الدم يشخب, وسال من تحته صانعا بركة دموية على الكرتون. وبقي فضل ساداً فمه حتى سكنت جثته. لحسن حظهم أن الحارس كان يضع جعبة الذخيرة على شقه لا على صدره.
لم يقتل فضل الحارس بدم بارد كما يقال, بل كان الدم يغلي في عينيه بحقد اشعلته في نفسه جرائم الحوافش. ولا عجب في ذلك, فقد رأى مقتل عدد من أهله وجيرانه على أيدي القناصة الحوافش, أو بقذائف حقدهم الطائفي, وكان وجماعته ممن شردهم الحوافش من لحج, وفجروا بيته وبيوتا لأقاربه وأصحابه, ولم يبق له من مسكن هو وجماعته من اللحوج إلا الجبهة يرابطون فيها, ويشغلون أنفسهم بصيد الضباع الحوثية والعفاشية التي جعلت حياة الناس جحيما في الجنوب.
قام فضل من فوق الحارس, وجذب سكينه ومسحه بثيابه, ثم بسرعة سحبوا الجثة ليخفوها عن نظر أي عابر إن نظر صدفة إلى باب العمارة. بقي الهاتف الجوال الصيني يصدح على الارض مكملا النشيد "يا هذه الدنيا طُلِقت بالثلاث مودعة". وضحك فضل لسماع هذه الكلمات وقال في نفسه: " الله في حياتي كلها ما أحببت الأناشيد الحوثية مثل اليوم".
نظر البكري إلى الساعة وقال لهم بصوت خافت:
- الساعة الآن الرابعة وعشرين دقيقة. معنا عشر دقائق لنتم عملنا فوق ثم ننسحب. هيا.
حين صعدوا أشار البكري إلى أحد الفتيان اللحوج أن يبقى في منتصف الدرج الصاعد إلى الدور الثاني ليأمنهم من أي قادم.
كانوا يصعدون الدرج على أطراف أصابعهم حذر أن يشعر بهم القناص فيتغدى بهم قبل أن يتعشوا به. عندما وصلوا إلى الدور الثاني وشرعوا بصعود درج الدور الثالث أشار البكري على فتى ثان من اللحوج أن يبقى في منعطف الدرج في المنتصف بين الدورين الثاني والثالث, وأشار إليه أن يؤمنهم إن خرج أي عدو من أي شقة. لم يكن هناك في العمارة من رماة غير القناص فيما يعلمون, لكنهم احتاطوا للأمر.
وصلوا الدور الثالث. كانت هناك شقتان إحداهما على اليسار وكان بابها مغلق, والثانية على اليمن وكان بابها مواربا ومن داخل الشقة تناهى إلى سمعهم صوت هاتف جوال يصدح بأغنية فؤاد الكبسي "صنعا بكت والحي .. والحيمتين حزينة ... يالي للي يلي أله" . عرفوا أن الملعون يقبع في هذه الشقة. قال البكري في نفسه: "ابن الكلب ذوِّيق ومكيف وليس بدار أين الموت ! ". تهيأ محمود ليركل الباب بقوة, فأشار البكري عليه أن يتوقف, وعلى الفور انحنى فضل اللحجي الفتى المحنك لينظر تحت الباب, وأشار إلى البكري فنزل لينظر فرأى علبة فول. أدرك البكري أن الرجل قد وضعها للتنبيه. وقال في نفسه: "آه من المجوس الملاعين يتفننون في وضع نظام إنذار مبكر من مواد بدائية لتلافي المباغتة. الملاعين ! يتوقعون قدومنا إليهم فوضعوا حراساً وعُلباً. أي مغامرة منا بدفع الباب ستنبيه القناص البارع ولن يبقي علينا أو يذر, لكن الوقت كالسيف ويوشك أن يقطعنا إن لم نتصرف".
. لم يلبث فضل اللحجي مليا حتى أشار إلى البكري بالتمهل, ونظر من حوله فرأى عودا مليئا بالطلاء - لعله مما استخدمه الدهانون - فاحضره. أدخل العود بخفة من تحت الباب وأزاح العلبة, وفتح الباب دون أن يحدث أي جلبة. حينها أوشكت قلوبهم أن تبلغ الحناجر من الخفقان. أي خطأ بسيط سينبه القناص, وبعدها سيفجر رؤوسهم. دخلوا على صالة وأشار البكري لمحمود أن يؤمن باقي الشقة, بينما اتجه وفضل إلى الغرفة التي يأتي منها الغناء. وبسرعة وثبوا إليها. كان في بال البكري حين وثب أن يفعل مثل تلك المشاهد السينمائية فيشهر السلاح في وجه القناص ويقول: أي حركة سأضرب بالمليان, والقناص سيستسلم.
حين دخلوا, كان القناص جالسا بجانب الجدار الأيمن معتليا على دكة, وإذا بفتى كان قاعدا على الأرض بجانب الباب يتنبه لهم سريعا, ويهوي بيده ليتناول بندقيته, وكان وجهه ينظر إلى البكري بنظرات حقد نارية, لكن البكري بلمح البصر باشره بثلاث طلقات سريعة على صدره من مسافة أقل من مترين, وعلى الإثر باشر فضل اللحجي القناص الذي كان ما يزال متكئا ومستمتعا بالقات, باشره بثلاث طلقات في قذاله. فأما الفتى فقد توتر جسده لوهلة, ثم ما لبث أن سقط منكفئا على وجهه, ومخارج الطلقات قد بدت من ظهره, والدم يشخب من صدره على الأرض صانعًا بركة, وأما القناص فقد تناثرت أجزاء من مخه غلى الجدار, وانكبَّ على وجهه إلى المتراس الذي اتخذه له. شقت الرصاصات قذاله فصار كوردة دموية ضخمة, وأخذ الدم يسيل منه ويصنع بركة دموية أخرى. كانت لحظة عصيبة ! لولا أن البكري كان ممسكا بسلاحي ويده على الزناد لكان الفتى الناري العينين قد سبقه وقتله وفضل.
جاء محمود في إثر سماع الرصاص وأخذ والبكري يتفحصا الغرفة التي كان القناص يرسل منها الموت. أقام القناص في المنتصف منها تقريبا جداراً من الطوب الإسمنتي يرتفع إلى قرب السقف, ويمتد من الجدار الأيمن إلى قرب الجدار الأيسر, تاركاً فتحة ضيقة للولوج إلى النصف الأخر من الغرفة المطلة نافذتها على مواقع المقاومة, وقد صنع القناص كُوّة للرمي بحجم طوبة أو تزيد في الجانب الأيمن من الجدار أمام الدكة التي كان يقبع فيها. كانت الكوة تطل مباشرة على النافذة التي في الأمام. لم يكتف القناص بذلك بل دعم الجدار بأكياس الخيش المملوءة بالتراب صانعا مترسا ممتازاً لصد الرصاص والشظايا. كانت البندقية في وضع الاستعداد لرمي أي هدف يظهر في مجال الرمي. كانت موضوعة على أكياس التراب ومسنودة من الأمام بطوبة, وتصل إلى حافة الكوة لكنها لا تدخل فيها. لعله بذلك يمنع من ظهور دخانها وكشف موقعه. خلف البندقية كانت خرقة مفتوحة وقد خرج منها أغصان طويلة سمينة وغضة لقات فائق النضج والحلاوة. "الملاعين كانوا يعلفونهم أفخم أنواع القات ! لولم تتلوث بدم القناص النجس لأخذتها".
دفع محمود القناص إلى الأرض, وأطل من الكوة, وأخذ ينظر فإذا به يشاهد عمارتهم بوضوح, ويشاهد الثقوب التي كانوا يرمون منها. " آه يا ابن الكلب ! كنت في موقع متحكم. الآن كشفنا سرك ".
لم يكن القناص يصنع غير الجلوس جُلَّ يومه أمام الكوة, والاستمتاع بالقات في أوقات التخزينة وبسماع الغناء, فإن لاح له أحد باشره بطلقة ترديه قتيلا, ولعله كان يتداول القنص هو والفتى الناري العينين. عرفوا لماذا كان يقنصهم ولا يرونه أو يرون دخاناً لبندقيته, ولا يظهر له أي حركة. كانوا يرون النافذة ولم يتنبهوا, للجدر الفاصل والكوة التي كان يرصدهم منها, ويوجه نيرانه القاتلة.
نظر البكري في ساعته فكانت الرابعة وخمس وثلاثين دقيقة. فقال لفضل ومحمود :
- الحمد لله ! نفذنا المهمة بنجاح ولم نتأخر كثيرا. وأمامنا 25 دقيقة حتى الخامسة. يمكننا الانسحاب والوصول في ربع ساعة إن لم يصادفنا أحد. لننسحب بسرعة.
كان محمود وفضل يريدان أخذ سلاح القناصين, وكانوا مثقلين بحمولتهم من السلاح الشخصي: بندقية وثمانية مخازن معبأة بالرصاص وقنبلتان يدويتان, فقال لهما البكري:
- اتركوها! لن نقدر أن نحمل سلاحا إضافيا. سنعود جريا لمسافة طويلة. سنعجز في الطريق بسبب الاثقال.
حين خرجوا كان الجوال لا يزال يصدح, لكنه هذه المرة ليس بأغان عاطفية بل بزامل حوثي يقول:
ما مثلنا بين القبايل من رمى ما نرمي القلب والا الجمجمة
الأرض تحميها وتسقيها الدما ومن تعداها شربنا من دمه
حين سمعوه نظروا إلى بعضهم نظرات ذات مغزى, فارتسمت على شفاههم وقسماتهم بسمات من أدرك ما في ضمير صاحبه.
نزلوا من المبنى, ثم تأكدوا من خلوا الطريق, ثم أشار البكري إلى محمود واثنين من اللحوج أن ينطلقوا, فخرجوا جريا واحدا بعد الآخر, وتركوا بينهم مسافة تصل إلى عشرة متار. وبقي البكري وفضل بالانتظار يغطون انسحابهم إن ظهر أحد من الحوافش. حين وصلوا الفتحة التي بين العمارتين التي جاءوا منها أخذوا دورهم في التغطية بينما لحق بهم البكري وفضل جريا. شكلوا رتلا أحاديا يفصل بين كل واحد منهم ما يقارب العشرة أمتار. وسلكوا حين عادوا المسلك الذي جاءوا منه. لكنهم كانوا يجرون جري الشارد من الموت حتى وصلوا إلى قواعدهم سالمين.

عدن 30/3/2016م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.