أعلن ولي ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في 25 إبريل الماضي عن "رؤية المملكة العربية السعودية 2030"، والتي تتضمن برنامجًا اقتصاديًّا طموحًا يقوم على تهيئة المملكة لمرحلة ما بعد النفط. وتهدف هذه الرؤية إلى تقليص الاعتماد على النفط، وجذب الاستثمارات الخارجية، وتعزيز إيرادات الدولة غير النفطية من خلال عدد من الإجراءات، أبرزها إنشاء أكبر صندوق سيادي في العالم برأس مال تريليوني دولار، وذلك بعد خصخصة 5 في المائة من أسهم شركة "أرامكو". وتكتسب "رؤية المملكة" أهميتها من أنها تأتي في وقت تستعد فيه كافة الدول الخليجية لمرحلة ما بعد النفط، بعد أن أصبح انهيار أسعار النفط عالميًّا أمرًا بنيويًّا نتيجة ثورة النفط الصخري، ونمو الطاقة المتجددة، والتزامات محاربة التغير المناخي. كما أن كثيرًا من دول الخليج العربي بدأت خزائنها تعاني بسرعة أكثر مما كان متوقعًا بسبب تراجع أسعار النفط عالميًّا من 120 دولارًا للبرميل في يوليو 2014 إلى مستويات 40 دولارًا في الوقت الحالي. وهو الأمر الذي دفع صندوق النقد الدولي إلى إطلاق تحذيرات للحكومات الخليجية بضرورة إنجاز التنويع الاقتصادي في أقرب وقت ممكن لمعالجة الاختلالات الكبيرة في هياكل اقتصادياتها، نتيجة اعتمادها على النفط كمورد رئيسي لها. وأدى انهيار أسعار النفط عالميًّا إلى تسجيل بعض دول الخليج عجزًا في موازناتها لأول مرة، وبعضها لجأ للاقتراض، علاوة على السحب من الاحتياطيات الدولية، وهو ما دفعها إلى تبني برامج تقشفية في موازناتها العامة من خلال خفض الإنفاق، وإصلاح منظومة دعم الوقود، وتنفيذ سياسات اقتصادية مثل: برامج الخصخصة، وتحرير بعض القطاعات وفتحها أمام المستثمرين المحليين والأجانب. وفي هذا الإطار، لم يعد أمام الخليجيين مفر سوى الاستعداد والتخطيط والعمل على الانتقال الفعلي لمرحلة ما بعد النفط. فقبل أشهر قليلة من إطلاق الرؤية السعودية 2030، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة في يناير الماضي عن خطتها لعصر ما بعد النفط، والتي من شأنها تنويع الاقتصاد الوطني، وتحقيق توازن بين قطاعاته، بما يضمن استدامته للأجيال القادمة. وأعلن ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أن الإمارات بدأت استعداداتها المبكرة ل"وداع آخر قطرة نفط"، مشيرًا إلى التوجه نحو مصادر الطاقة المتجددة بخطة كبرى تناهز قيمتها 82 مليار دولار. وتطرح الرؤى الخليجية لاقتصاد ما بعد النفط تساؤلات من قبيل: هل تنجح المساعي الخليجية في إنهاء "حالة الإدمان النفطية"؟ وما هي أبرز التحديات التي تواجه هذه المساعي؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟. وستسعى السطور التالية للإجابة عليها. تحديات متعددة: تسعى "رؤية المملكة العربية السعودية 2030" إلى إحداث نقلة نوعية في كل مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال التحول من الاعتماد شبه الكامل على النفط (إدمان النفط) إلى اقتصاد يعتمد على الموارد البشرية والطبيعية المتجددة وغير المتجددة الأخرى (غير النفط)، وتنطلق من إمكانات تنموية كبيرة، يأتي في مقدمتها وجود الحرمين الشريفين، ووفرة الموارد الطبيعية المتنوعة، إلى جانب مجتمع فتي يشكل الشباب نسبة كبيرة بين أفراده. وقد حددت هذه الرؤية في وثيقتها الرئيسية نحو 24 هدفًا نهائيًّا ستعمل على تحقيقها خلال الأعوام الخمسة المقبلة، بالاعتماد على تنفيذ 13 برنامجًا يُشرف على تقدم عملها ومراقبة ومراجعة أدائها مجلس الشئون الاقتصادية والتنمية. وقد أعادت "رؤية المملكة العربية السعودية 2030" الجدل من جديد بشأن مدى استعداد اقتصاديات ومجتمعات دول الخليج العربي للتعامل مع مرحلة ما بعد النفط؛ حيث لم يُخفِ عددٌ من المراقبين شكوكهم حول قدرة السعودية على التخلص من "إدمان النفط" بحلول عام 2030، خاصة وأن الحكومة السعودية لا تزال تعتمد على النفط في توفير أكثر من 80 في المائة من إيراداتها المالية، مشيرين إلى أن مسألة التحول السعودي عن النفط ما هي إلا "وهم" و"سراب". ويقول هؤلاء إن "رؤية المملكة" سوف تواجِه العديد من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية الصعبة التي قد تعيق تنفيذها. فسياسيًّا، من المتوقع أن تلقى هذه الرؤية معارضة سياسية قوية من جانب قطاعات واسعة من النخبة وكبار المستثمرين السعوديين المستفيدين من بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه. فهذه الرؤية ستوثر سلبيًّا على المصالح الشخصية لهذه القطاعات، وهي مصالح تعتمد على الطاقة المدعومة من الحكومة وعلى الأيدي العاملة الرخيصة. كما يُخشى أيضًا من أن تُواجَه هذه الرؤية باعتراض من جانب بعض القوى المحافِظة لأنها ستهدد بعض أسس وتقاليد المجتمع السعودي، خاصةً فيما يتعلق بوضع المرأة، ونفوذ المؤسسة الدينية، نتيجة الانفتاح والتطور. كما قد تلقى هذه الرؤية أيضًا معارضةً من جانب شرائح عديدة من المجتمع السعودي، لأنها ستُقلص الدعم الموجه لهذه القطاعات، خاصةً في مجالات الوقود والكهرباء والمياه والصحة، في الوقت الذي يتوقع فيه القطاع الأوسع من عامة الشعب السعودي استمرار الدعم الحكومي والخدمات الحكومية ووظائف القطاع العام باعتبار ذلك "حصة شرعية لهم من الثروة الوطنية". واقتصاديًّا، يرى بعض المراقبين أن "رؤية السعودية 2030" متفائلة "أكثر من اللزوم" في قدرتها على زيادة صادرات المملكة غير النفطية من 16 في المائة إلى 50 في المائة، وحصة قطاعها الخاص في الاقتصاد من 39 في المائة إلى 65 في المائة، وحصة الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم من 20 في المائة إلى 35 في المائة من الناتج المحلي في غضون أربع سنوات؛ حيث يتوقف النجاح في تحقيق ذلك على مدى قدرة الحكومة السعودية، وهي محدودة حاليًّا، على جذب الاستثمارات الخارجية، وزيادة حجم استثمارات القطاع الخاص، وعلى إطلاق صناعات جديدة ذات قدرة تنافسية عالية في الأسواق الخارجية، وعلى توفير التمويل اللازم للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. كما تُعتبر هذه الرؤية أيضًا متفائلة في زيادة أعداد السياحة الدينية والترفيهية من 8 مليون إلى 30 مليون معتمر وزائر في عام 2030؛ إذ تتطلب زيادة السياحة الترفيهية في السعودية التطوّر في النمط الاجتماعي القائم، وتطوير البنية الترفيهية لتكون منافسة لدول الجوار (مصر، دبي، تركيا، الأردن، لبنان). ومن ناحية أخرى، تسعى الرؤية السعودية 2030 إلى زيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية من 163 مليار ريال حاليًّا إلى تريليون ريال بحلول 2030، وهو نمو يتجاوز ستة أضعاف مستوياتها في الوقت الحالي، وهو أمر غير واقعي خصوصًا في ظل التزام الدولة، وفقًا لما جاء في الرؤية نفسها، بعدم فرض "أي ضريبة على الدخل أو الثروة أو السلع الأساسية"، فكيف ستتمكن الحكومة السعودية من تدبير هذا القدر من الإيرادات بعيدًا عن فرض ضرائب جديدة؟. واجتماعيًّا، تعتبر "رؤية المملكة" طموحة للغاية في توقعاتها بخفض البطالة من 11,6 في المائة إلى 7 في المائة، من خلال إضافة مليون فرصة عمل في قطاع التجزئة، ورفع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل من 22 في المائة إلى 30 في المائة. وقانونيًّا، تتطلب الرؤية السعودية 2030 تحديث وتطوير القوانين التجارية لتصبح منسجمة مع القوانين والتشريعات الدولية، ومشجعة للمستثمرين وضامنة لحقوقهم. كما تقتضي هذه الرؤية أيضًا تحديث قوانين العمل والإقامة، وتخفيف البيروقراطية، وتأهيل وتدريب موظفي القطاع العام. توصيات للنجاح: في المحصلة، تواجه رؤى وخطط ما بعد النفط في دول الخليج بشكل عام، وفي المملكة العربية السعودية بشكل خاص، تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية متعددة، إلا أن ما يبعث على الارتياح والتفاؤل إبداء القائمين على هذه الرؤى استعدادًا لتقبل مناقشتها وتمحيصها ونقدها. صحيح أن عديدًا من أهداف الرؤى الخليجية لما بعد النفط يبدو صعب التحقيق، ولكن ليس هناك شيء مستحيل على الشعوب الحية، التي لديها ثقة بقدراتها وإمكاناتها. ويمكن لدول الخليج أن تتعافى من "إدمان النفط" إذا ما استطاعت تخطي التحديات المذكورة، وتبني الإصلاحات والسياسات والآليات الضرورية لتحقيق النجاح. وهذا يتطلب ما يلي: أولا: وضع خريطة طريق واضحة المعالم لكيفية تنفيذ الرؤية من جانب كافة الأجهزة التنفيذية في الدولة، على أن يكون ذلك وفق جدول زمني محدد، وتحت رقابة إعلامية ومجتمعية تحدد معايير ونسب الإنجاز والإخفاق. ثانيًا: دعم وتعزيز دور "مركز قياس الأداء للأجهزة الحكومية" الذي يُفترض فيه أن يحدد بوضوح الأجهزة التي تمكنت من تحقيق مؤشرات الأداء المطلوبة والأجهزة التي أخفقت ليعرف الجميع مكمن الخلل، ومحاسبة غير المؤهلين للتعامل مع الرؤية الجديدة، وكذلك المعرقلين للتطوير والتغيير. ثالثًا: تعزيز مؤشرات الشفافية والنزاهة للأجهزة التنفيذية، وربطها بالرؤية الجديدة بشكل واضح. رابعًا: القضاء على "البيروقراطية" العتيدة. خامسًا: توفير المعلومات الدقيقة؛ حيث تعاني منظومة المعلومات الاقتصادية والمالية والاجتماعية في كثير من دول الخليج كثيرًا من العيوب، كالنقص الواضح في كثير منها وفي شفافيتها، والشكوك المحيطة بدقتها، والميل نحو تحيزها.