إن ما شهدته وتشهده عدن من حوادث إجرامية وأعمال همجية يرقى إل مستوى جرائم بحق الإنسانية، إن لم تكن هي كذلك بالفعل، وهذه بعض الحيثيات: أولاً، عندما تنقطع الكهرباء عن مدينة عدن "المحررة" لساعات طويلة متصلة، ما الذي يحصل لأصحاب الأمراض المزمنة كأمراض القلب والضغط والسكري، والأمراض الصدرية، والمرقدين في المستشفيات في غرف العناية المركزة، والأطفال حديثي الولادة، والمسنين والعجزة والمقعدين والبدينين (السمان)، وغيرهم وغيرهم ؟ إنهم يموتون تدريجياً. أليست هذه جريمة بحق الإنسانية؟ ومن الفاعل، هل نقيدها ضد مجهول؟ بالتأكيد لا. إن الفاعل أو الفاعلين معروفون؛ إنهم أولئك الذين يقومون بتخريب بعض محطات ومولدات الكهرباء بصورة متعمدة، والذين يسرقون وقود التشغيل مما يؤدي إلى توقف غيرها، والذين يقومون بتوقيف أخرى صالحة عن العمل عنوة وطمعاً في توفير كميات أكبر من المحروقات المسروقة. ثم أن التحسن الذي طرأ خلال الأيام القليلة الماضية لن يستمر طويلاً؛ فقد كانت الكهرباء قبل عدة أشهر لا تنقطع إلا لساعة واحدة أو ساعتين في اليوم ثم تراجعت حتى وصلت إلى الوضع المعروف.
ثانياً، عندما تنقطع المياه لساعات طويلة عن بعض الأحياء، ولأيام وأسابيع عن أحياء أخرى، ولأشهر عن غيرها، أو لا تصل نهائياً لبعض المناطق المرتفعة، عندما تنقطع المياه هكذا وعنوة في أحيان كثيرة وبصورة متعمدة، إما بتعطيل محطات الضخ أو سرقة محروقات التشغيل، أو كلاهما معاً، وحرمان أعداد واسعة من السكان من الماء أساس الحياة، سواء بصورة متقطعة أو دائمة، وما يسببه كل ذلك من متاعب كبيرة ومعاناة وتأثير سلبي على صحة المواطنين، أليست هذه جريمة ضد الإنسانية؟ ثم إذا ما عرفنا أن الماء لا يصل إلى الأدوار العليا، بما فيها حتى الأدوار الأولى أحياناً، إلا بآلات الرفع (الدينموهات)، فإن هناك ما يشبه الاتفاق الضمني غير المكتوب بين هيئتي المياه والكهرباء يقضي بقطع الكهرباء عن الأحياء التي يفتح إليها الماء، وقطع المياه عن الأحياء التي توصل لها الكهرباء في وقت متزامن، وبالتالي لا يستفيد من المياه إلا عدد محدود جداً من المواطنين، وخاصة أولئك الذين يملكون مولدات كهربائية قادرة على تشغيل آلات الرفع، وهذا التقتير في الماء يعني تشغيل المضخات لفترات أقل وتوفير كميات أكبر من الوقود المسروق؛ أليست هذه جريمة أخرى بحق الإنسانية؟
ثالثاً، عندما يقوم البعض بسد مجاري الصرف الصحي، أو تعطيل وحتى سرقة مكائن إعادة الضخ أو توقيف تشغيلها بقطع الكهرباء عنها، كل هذه الأعمال تؤدي إلى طفح مستمر للصرف الصحي وإغراق العديد من الشوارع ما يؤدي إلى انتشار الكثير من الأوبئة والأمراض الخطيرة كحمى الضنك والملاريا والأمراض المعوية والجلدية والتي حصدت وما زالت تحصد أرواح الكثيرين؛ أليست هذه جريمة بحق الإنسانية؟
رابعاً، عندا تنتشر الزبائل والقاذورات في مجمل، إن لم يكن كل شوارع وأحياء المدينة وبصورة مستمرة ومتزايدة، وعندما تختلط هذه المخلفات بمياه الصرف الصحي الراكدة، وكذلك مياه الأمطار بعد أن تم سد مجاري تصريفها، ولنا أن نتصور كيف يكون الوضع، وما يسببه ذلك من مضاعفة انتشار الأمراض الخطيرة والقاتلة، على الرغم من توفير الكثير من صناديق القمامة وعدد من عربات جمعها ونقلها من قبل جمعية الهلال الأحمر الإماراتي، إلا أن الوضع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ولا يستبعد أن يكون ذلك بصورة متعمدة ومدفوعة؛ ألا ترقى هذه الأعمال إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية؟
خامساً، عندما يتكدس المئات من المواطنين من النساء والرجال، معظمهم من كبار السن والمتقاعدين وأصحاب المرتبات الضئيلة والإعانات الزهيدة أمام مكاتب البريد لساعات طويلة متصلة، ولأيام وأسابيع متوالية وتحت هجير الشمس المحرقة بأمل الحصول على معاشاتهم، فيعودون بعد طول العناء والتعب بخفي حنين، وعندما يأخذ بعض الصرافين المبالغ التي يسحبونها من البنك إلى بيوتهم ولا يصرفونها إلا عن طريق وسطاء ومقابل عمولات للصراف والوسطاء، ولا يسمح لأصحاب المعاشات والإعانات الزهيدة بالدخول إلى هذه الدوائر الملتوية للصرف، وعندما يتساقط بعض المسنين على الطرقات أو أمام مكاتب البريد من شدة الإعياء أو الموت أحياناً، أليست هذه جرائم ضد الإنسانية؟
سادساً، عندما يموت بعض المرضى في بعض المستشفيات الحكومية نتيجة لانعدام بعض الأدوية المطلوبة أو الأجهزة والمستلزمات الطبية الضرورية، أو انعدام العناية الطبية أحياناً، بينما يستولي النافذون على أطنان من هذه الأدوية والتجهيزات الطبية المقدمة ضمن جهود الإغاثة الدولية ويبيعونها في السوق السوداء، تماماً مثلما فعلت حكومة "الكفاءات" حين باعت عشرات الأطنان من المواد الإغاثية والغذائية حتى قبل وصولها، إما في عرض البحر أو في موانئ دول الجوار، هذا في وقت كانت فيه آلاف الأسر تعاني من العوز وقلة الزاد، ما يؤدي بالضرورة إلى وفاة العديد من المرضى لانعدام الدواء، ومن أمراض سوء التغذية؛ ألا تشكل هذه جرائم ضد الإنسانية؟
سابعاً، عندما يبقى الموظفون والعمال بدون مرتبات لعدة أشهر ويقال لهم اذهبوا إلى صنعاء لاستلام معاشاتكم، هذا في وقت كانت فيه المعارك ما تزال مستعرة في بعض أحياء عدن وعلى أطرافها وعلى طول المناطق الممتدة حتى الحدود بين الشطرين، مع ما ينطوي عليه السفر إلى صنعاء من مخاطر، حيث كان يقتل الكثيرون بصورة متعمدة أو غير متعمدة، أو بنيران صديقة أحياناً، علماً أن معظم سكان عدن خاصة، والجنوب عامة، يعتمدون على الراتب كمصدر وحيد للدخل؛ هذا في الوقت الذي كانت فيه "الشرعية"، رئاسة وحكومة، يتقاسمون مئات الملايين، وتوزع غيرها على القيادات القبلية والدينية والعسكرية والزعامات السياسية والحزبية والمجتمعية وحملة المباخر والمنشدين وغيرهم، والذين تقاطروا على الرياض بالمئات (وجلهم، إن لم يكن كلهم من الشمال)، والذين ما أن قبض بعضهم "المعلوم" حتى عادوا لممارسة نشاطهم المألوف، منهم قياديون في حزب صالح كالقربي وزير خارجيته الأسبق والشخصية الثانية في وفده لمفاوضات الكويت، وكذلك نفقات إعاشة وإقامة هذا الجيش العرمرم في فنادق الدرجة الأولى؛ وصرف الملايين على عقد المؤتمرات واللقاءات واستقبال الوفود "الشعبية"، كل هذا في الوقت الذي كانت فيه آلاف الأسر في عدن والجنوب لا تملك ما يمكنها من شراء الحاجات الأساسية للعيش؛ أناس يكتنزون الملايين ويعانون من التخمة، ومواطنون يعانون من سوء التغذية وما يترتب عليها من أمراض قاتلة، وحتى الموت جوعاً أحياناً؛ أليست هذه جرائم ضد الإنسانية؟