لا أدري ما الذي أتى بي إلى هذه البلدة الكئيبة المظلمة .. لا أدري لماذا ساقتني قدماي إليها ؟! هل هو القدر ؟! أم شيءُ آخر ؟! منذ أن قررت الترحال ، جُبتُ بلادً كثيرة ، لكن هذه تبدو مختلفة ! .. لا .. ليست مختلفة بل مخيفة ! .. مجرّدة .. خالية من أي روح ، يسكنها غولُ ضخم أسود ، يشبه الإخطبوط ، ذراعاه تنتشر في مناكبها ، به بضع وثلاثون عينا ، كلها تحدق بي أينما تحركت ، لكنه بدئ هادئاً مكتفياً بالتحديق . طرقت أول باب صادفني ، فوجدته مفتوحاً ، ناديت ، أجابني صمتُ مدقع ، دخلت إلى المنزل ، فوجئت بأفراد العائلة نائمين ، خرجت مسرعاً ، طرقت باب آخر ، دخلته بعد أن يأست من الإجابة ، ووجدت أصحابه نائمين ، وهو ما تكرر معي في بقية المنازل ، لاكتشف أن سكان هذه البلدة غارقين في سيبات عميق ، قررت قضاء ليلتي في منزل شيخاً يعيش وحيداً أو هكذا بدى لي من نومه وحده ، تملكني التعب من سفري الطويل ، غصت في النوم، استيقظت من النوم لأجد الشيخ يرحب بي في منزله وقد أعد لي الطعام ، سألته ونحن نأكل : _ لِمَ جميع أهل البلدة نائمون ؟! _ هنا لا أحد ينام .. الكل مستيقظون ! _ ولكني رأيت عكس ما تقول ! _ أخرج لتتأكد بنفسك ! استغربت ثقته فيما يقول ، تبادر ألي الشك ، فنهضت وفتحت الباب وخرجت ، فهالني ما رأيت ، إنها بلدة أخرى غير التي دخلت ، أرض حية ، تدب فيها حركة غير عادية ، السعادة عنوانها ، الضحكات تملأ سماءها ، أناسُ يمشون على الأرض ، وأناس يطيرون ؟! أجل يطيرون !! حتى المنازل صارت قصوراً ، قلت مشدوهاً : _ هل أنا في حلم ؟! ربت الشيخ على كتفي وقال : _ أنت كذلك ! ألتفتُ إليه وقلت حائراُ : _ ولكنني بالأمس رأيتكم جميعاً نائمين ! وبلدتكم ميتة يسكنها غولُ ضخم ! _ ما رأيته حقيقة ! هتفت به حائراً : _ هلّا فسرت لي أيها الشيخ ! أكادُ أُجنّ ! _ أدخل لأعد لك كوبً من الشاي ثم سأحكي لك كل شيء ! دخلنا إلى منزله الذي كان كما هو لم يتغير عكس بقية منازل البلدة التي باتت قصوراً ، ارتشفت رشفة من الشاي الذي أعدّه لي الشيخ ، ثم جلس مواجهاً لي وتحدث: _ قد يكون حديثي صادماً لك يا بني ! ولكنك الآن مستغرق في النوم مثلنا وتعيش في حلمنا ! _ لم أفهم ! _ ما شهدته من واقع بلدتنا قبل أن تخلد إلى النوم هو الحقيقة ! وما تراه الآن ليس سوى حلمُ بنيناه منذ أكثر من ثلاثين عاماً ! _ تقصد أنني نائمُ مثلكم الآن ؟! _ أجل ! _ وكل هذا مجرد حلم ! _ حلمٌ نسجناه هرباً من الواقع ! _ ولكن لماذا ؟! ما الذي دفعكم إلى الدخول في هذا السبات ؟! _ كابوسُ حلّ علينا ! _ ولكن الكوابيس تقضّ المضاجع ! _ ليس عندما تصبح واقعاً يقضّ الحياة ! _ أتعني ذلك الغول الرابض في بلدتكم ؟! _ أجل ! ذلك الغول يتغذي من نومنا ! وفي كل عام يكبر حجمه وتولد له عينُ جديدة ! _ ولِمَ لم تواجهوا كابوسكم قبل أن يكبر ويستفحل ! أشار الشيخ للخارج وقال : _ كما ترى ! لقد استحلّوا العيش في هذا الوهم وصدقوه ! _ وانت أيها الشيخ ؟! ألم تصدق هذا الحلم ؟! _ الاحلام يا بني تولد من رحم الواقع ! فتصبح حقيقة تُعاش ! أما غير هذا فهو وهم ! _ ألهذا السبب لم تبني قصراً مثلهم في هذا الوهم ! _ سأبنيه ولكن بساعدي وعرقي ! _ إذن كيف نوقظ قومك ونخلصهم من هذا الوهم ؟! _ أن ننهي ذلك الكابوس ! _ كيف ؟! _ بالامتناع عن النوم ! _ ولكن هذا مستحيل ! النوم سلطان ! _ سنتعاون أنا وأنت عليه ! أخبرني كيف ؟! _ سنتناوب بالنوم ! يومُ لك تبقى صاحياً فيه ويوماً لي ! حتى ننهي ذلك الكابوس! _ فكرة سديدة ! وبالفعل تناوبنا أنا والشيخ في مواجهة ذلك الكابوس أو الغول ، وحرصنا أن لا ندع له يوماً يستريح فيه ، نبقى مستيقظين أمامه وهو ما كان يضعفه ، إنه يستمد قوته من نومنا ، وبقاء أحدً يقظاً أمامه يضعف قوته ، وكان كل يوماً يمر تغمض له عين .. إلى أن أُغمِضت له آخر عين فتبخر وأختفى تماماً .. استيقظ جميع أهل البلدة منزعجين .. واستنكروا عليّ وعلى الشيخ ايقاظهم من حلمهم الذي ادمنوه ،فجعلونا كابوسهم الذي تخلصوا منه !