وأنت تقف على زاويةٍ من مربعها الشاسع حتماً ستجدُ أنك مجبرٌ على سرد ولو بعضاً مما تحمل في خزائنها من مستجدات وأحداث تطرى على واقعها العجيب. هذه المدينة التي ما إن أحمل قلمي للكتابة عنها إلا وأخاف أن أضيع في زحمة التفاصيل الممتدة من تاريخ وسلالات وأرقام يصعب تجاوزها ويستحيل حصرها.
ولي حق الاعتراف .. أنني أجهل كثيراً مما حملته هذه المدينة ماضياً من تضحياتٍ وحاضراً من معاناة.
لكن .. وجب أن تحضّر الأقلام بعضاً من كلماتها في قدوم ذكرىً تستحق..
ذكرى الرابع عشر من أكتوبر ذكرى الثورة المجيدة.
والحشود تتجه بأعلامها الخفاقة حاملةً في أرواحها نداء الوطن المكلوم بالأوجاع،
نداء ذلك العامل البسيط الذي لم يجد راتبه ليسدَّ حاجة من يعول..
نداء الأم الحزينة على شهيدها في حرب القادمين لثأرات الحسين.. نداء الطفل المحروم من حقه في التعليم والرعاية والتأمين..
نداء الحقوق الغائبة مذ عشرات السنين لتتراكمَ في هذا الوقت الصعيب.
هنا على مرأى منهم والشمس تعزف خيوط الذكرى وماضي الانتصار ساءلت نفسي: هل هؤلاء اليوم يقفون فعلاً احتفالاً بذكرى الاستقلال؟ أم أنه وجع حقبة مظلمة يرون فيها أن حقهم لم يزل مسلوباً مذ خروج آخر جندي بريطاني وينادونا بحق تقرير مصيرهم ؟؟
إذاً.. لماذا ونحن نرى هذا الحب لأرض الجنوب لماذا لا يتجسد لتغيير واقعٍ يسوده البؤس وحياة الشقاء ..
وكل فردٍ منهم بمقدوره أن يكون جزءاً من تغييرٍ يقود نحو مستقبلٍ يطمح له الجميع بمقدوره أن يتلمس حاجة من حوله بقدر، ويأخذ بأيديهم ليكونوا جزءاً من مجتمعٍ فعال وقادرٍ على العطاء والشراكة والاكتفاء الذاتي.
الله.. ما أجمل تلك الخطوات الواثقة وهي تقف وفي قراره نفسها أن الغد سيكون جديراً بانتظاره مادام أن مسار البناء والغد المأمول فيه هو مساره وليس لدُعاة الكراهية والصراعات الذين لا يبحثون إلا على غنيمة يقتاتون عليها باسم الشعوب ومطالبها المشروعة.
إنني وإذ ألقي بنظرة ما قبل الوداع قبل أن أترك زاويتي لآخر، أرسل عبقَ التفاؤل وشذى الأمل أن الغد يستحق أن نتباهى بكوننا من لحمة موطنه وطن البناء والحب والتكاتف لا وطن التعصب والكراهية والأحقاد.
كل طفلٍ هنا .. امرأة .. شيخٍ كبير يستحق وبعد سنوات التضحيات - لهم ولسابقيهم - في هذه الأرض أن يعيشوا مكرمين منعّمين بحقوقهم التي لم تزل في غيابة بحثهم عنها يقيناً ..
هو قرارهم ودعوى قضيتهم وليس لسلطةٍ في الأرض حق الاعتراض عليه متى كان صوت الإرادة هو الصوت المدوي للكيان الواحد .. للنسيج الواحد .. والأرض الواحدة .