( 1 ) كانت في الحقيقة مطلّقة .. أطلق عليها الجميع رصاص التوجّس .. نظر المجتمع إليها كآثمة .. لكنها كانت بريئة مما يفترون .. تغيرت نبرات تعاملهم معها .. حتى أفسدوا نفسيتها .. لم يفهموها .. لم يستمعوا لشجونها وأحزانها .. كرهت كل شيء .. وفي ظلمة الليل جلست تبكي .. كانت تهزّ رأسها مغضبة .. من فرط البكاء والألم .. تلاشى جمالها الأخّاذ .. ذلك الجسد البضّ الرشيق .. بدى كهيكل الموت يلوذ خوفاً من الناس .. خلف عباءة سوداء .. ( 2 ) استولى على الأراضي .. لأنه يحب العقار حباً جمّاً .. جمع المساحات بكل طريقة .. استملكها بالحق والباطل .. ضمها إلى جيبه بالقوة .. بالترغيب .. بالترهيب .. بالتهديد .. بالعنف .. لم يوقفْه عن هدفه شيء .. كان يبدو على الدوام منهمكاً في اجترار ما تبقى مما لم تصل إليه يده الطويلة .. ضاق الناس ذرعاً بطغيانه المستطير .. صمتهم صار ثقيلاً .. لكنّ أعينهم ظهرت عليها شحنات من الغيظ والحنق .. تغطرس أكثر ولم يعبأ بنظراتهم .. مرت الأعوام تباعاً .. فارقته الغطرسة باعتلال صحته .. تبخّرت أمواله الكثيرة تحت بند الرعاية الصحية .. نبذه المجتمع .. فارقه أهل المصلحة والفتات .. تشتت أبناؤه في منعرجات الغواية والفشل .. وذات مساء كئيب أناخ على المدينة .. انتقل مع ما تبقى من أسرته .. إلى مسكن آخر .. في مكان بعيد .. ( 3 ) أدمنه خلال دراسته .. ولم يزَل والغاً في حياة الغش .. كان باله مكدوراً بما يكفي .. لكي يغش .. لا يريد أن يذاكر على الإطلاق .. لم يكن يحتمل ولو لدقيقة أن يقلب أوراق كتابه الجديد .. ضبطه المدرسون متلبساً .. لكنه كان يرى نفسه على حق .. لذا .. تحمل توبيخهم في صمتٍ .. ولم يتشاجر .. ألقى بهموم الحفظ في قصاصات صغيرة .. ملأت أدراج صفه الكئيب .. وبما أن الغش يحيل الحكيم إلى أحمق .. فقد كان غاية في الطيش والحُمق .. دارت عجلة الزمن .. ولم يزَل يستمرئ الغش والخداع .. ترقّى في مناصب المسئولية .. تولّى .. تمدد في الكراسي الوثيرة .. لكنّ الخبرَ الجيد أنه في النهاية طاااااح .. طاش عقله .. خمدت خلايا مخه .. واستوطن مستشفى المجانين .. رأيته ذات مرّة .. حملق فيّ ببلاهة .. وكان كل شيء حوله يغمره السكون .. ( 4 ) كان يستلقي ممداً على سريرٍ ناصعِ البياض .. بالرغم من طفولته البريئة .. خلا رأسه من شعر لامع .. شَحُبَ من المرض وجهه المليح .. تجعّدت وجنتاه .. هَزُلت يداه الصغيرتان .. وبدت عليه آثار معاول السرطان .. طلب أهله المساعدة والعون .. في البداية .. لم يلبِّ أحد .. لكنهم لبوا النداء بعد فوات الأوان .. كافح المسكين بقدر ما يستطيع .. لكنّ الداء كان شرساً لا يُغلَب .. تداعى للوراء فريسة السرطان .. ثم حلّق بعيداً .. بعيداً .. صعدت روحه إلى الأعلى .. تلاقت مع إخوانها تحت ظلال الجنان .. أمثالهم ممن لا زالوا على قيد الحياة .. يرمقون العالم بنظرة لوم وحنق .. وفي لمحة يصعدون كلما استبدّ بهم اليأس .. وكلما .. شعروا أنهم في سحابة من الظلام والفراغ .. ( 5 ) لم يكنْ يوماً حريصاً على استجداء عطف الناس وشفقتهم .. كان يسلك على الدوام دروباً ليتجنب أماكن لهوهم .. غير البريء !! جلسات ملأى بالقيل والقال .. دكك تضرب فيها الغيبة أطنابها .. لذا كان يسلك طرقاً منفردة ليتجنّب المرور بتلك السخافات والهراء .. لم يتعنّ بالوقوف للحديث المطوّل .. بل كان يمضي في طريقه لا يلوي على شيء كلما رأى الأعين تنظر إليه بحقدٍ وضغينة .. أمسك نفسه وضرب الأرض بعقبه في هياج .. هكذا هم الناس .. هو يعرفهم .. يعرف دخائل أنفسهم الغليظة .. ولأجل ذلك لم يعبأ بهم .. ولم تندّ عن شفتيه أية كلمة .. ( 6 ) حالما صار الشيب والضعف يعيثان في جسده فساداً .. تذكر زمن الأوائل .. رأى العادات الجميلة قد اندثرت .. الأخلاق تغيّرت .. وتنكر الناس لأخلاق أجدادهم .. نوبة من التفكير العميق تغمره كل حين .. تزيد في نفسه الشوق والحنين .. فَكّرَ " رغم وقتهم الصعب وأحوالهم الضاربة في الأمية والجهل .. إلا أن قلوبهم بيضاء " أردف في تفكيره " خلوا من الحقد .. فضّوا مغاليق قلوبهم .. أخرجو ما بداخلها من سواد قاتم" مضى في أفكاره دهراً .. وبعد أن نال قسطاً من ذكريات الماضي الجميل .. عاد إلى واقعه المؤلم .. رأى غبار التفرق والتشرذم والكره يزوبع في فضاءات الكون .. كان ثمة همٌّ بثقل الجبال يرزح في صدره المكلوم .. أخذ يمشي متثاقلاً .. خائر القوى .. شاحب الوجه .. عائداً إلى بيته البسيط .. لم يخرج منه إلا للصلاة والمناسبات المهمة .. لم تشغله بعدئذٍ حقارات الواقع .. وانشغل بوضع اللبنات الأولى .. لعالمه المقبل .. ( 7 ) تنقّل غادياً رائحاً بين ردهات الجمعيات الخيرية .. طلباً للإعانات .. كان عددها مهولاً .. ولأجل ذلك تعب كثيراً من طرق الأبواب .. والوقوف بصالات الانتظار .. جمعيات .. طالما أعطت المحتاج وغير المحتاج .. بل من هبّ ودبّ .. لكنها في كل الأحوال أعطتهم جميعاً سمكة .. ولم تعلمهم كيف يصطادون .. تفشّى الفقر عِوَضَ أن يتقلّص .. اتّكل المقتاتون .. خبَتْ جذوات أرواحهم .. ورغبوا عن الكدِّ والعمل .. سلال غذائية .. كبسات .. إفطارات .. أعطيات .. والقائمة طويلة .. عمّ التلاعب .. زاد النهبُ .. وطاااال الاستجداء .. ( 8 ) حالما تكلّم أسكته أبوه .. وبخته أمه أمام الضيوف .. أسقط كأسَ عصير .. نال صفعة دارت لها عصافير مخّه الصغير .. عاش طفولته الهائمة .. بين التوبيخ والسباب والشتائم .. لم تحظَ روحه الشفافة يوماً بالمحبة والسلام .. مضى موكب الزمن .. غيرَ أنه لم يأسُ جراحاته الغائرة .. نشأ فاقداً للثقة .. ضائعَ النفس .. خوّار لا شجاع .. استضعفه أترابه .. استأسد عليه الصغير والكبير .. عاش مغلوباً على أمره .. وضاعت حقوقه بين أشداق الذئاب .. في ذات ليلة صيف دافئة خفيفة الجلباب .. نهض من أفكاره في خفّة القط .. قرر أن ينهي مأساة حياته التي طالت .. بجانب مبنى كثير الطبقات .. رأى الناس جثة دامية .. احتشد جمع منهم .. صوروا المشهد بكاميرا جوالاتهم .. نالوا سبق نشر الخبر .. وتركوه جانباً .. عادوا إلى بيوتهم .. ووبّخوا أطفالهم .. مجدداً .. ( 9 ) أكَلَ وشَرِبَ في نهار رمضان .. لم يتوارَ عن أعين الناس .. جاهر بفعلته .. وتبعاً لذلك ولتماديه لقبوه ب ( كلب رمضان ) ... لكنّ الكلاب كانت خيراً منه .. كان شاباً قوياً فتياً .. لم يكن الصيام يمثل له تحدياً .. !! لم يغيّر بيئة المنكر .. لم يستمع لنصح الناصحين .. وتذكير المذكّرين حاول التغيير .. غير أن صحبة السوء أوقعته في حبائلها .. راوده بصيص الأمل .. لكنّ الصاحب ساحب .. رأى النور يشع في وجوه الصائمين .. إلا أن ظلمته أطبقت على قلبه الحزين .. دار من حيث وقف .. وعاد من حيث أتى .. مضت الحياة يوماً في إثر يوم .. اعتلّت صحته .. أصابه الوهن .. صحا من رقدته على صفير قطار الرحيل .. "هل سأعيش يوماً آخر ؟ " تساءل في نفسه .. أردف " أرجو أن يمتدّ بي العمر لأعوض ما فاتني من تقصير " .. انتهت حياته .. ولم يَنَل رجاءه الأخير .. ( 10 ) سأله : هل تعرف ( قصر الشوق ) ؟ .. أجاب : لا أعرف .. لكنني يمكن أن أدلك على ( مطعم الشوق ) .. !! بدت الدهشة على محياه وأردف : أنما أقصد أن أسألك عن الرواية المعروفة .. أجاب : لا أعرف أيضاً أيَّ رواية تعني .. فأنا لا أعرف إلا ( مطعم الشوق ) .. اتعذر السائل عن إزعاجه إياه .. علم أن أمة تؤثر المطاعم والبطون على غذاء العقل .. إنما هي أمة لم تعد .. أمة ( اقرأ ) .. ( 11 ) أحضر الزيت لتنظيف سلاحه .. كان يفخر ب ( كلاشينكوفه ) الثمين .. ابتاعه بمئات الآلاف من سوقٍ لبيع السلاح .. أحضره ليُريَ صديقَه جودته ومتانته .. جلسوا في غرفة الضيوف يتبادلون أطراف الحديث .. ناقشوا أشعار السلاح .. أنواعه .. طرق الحصول عليه .. وأثناء ما كانوا يتكلمون .. عبث الصديق بسلاحه قبل الشروع في تنظيفه .. كان يحمل في جوفه رصاصة الموت .. لكنهم لا يعلمون .. تمازحوا فيما بينهما وأخذوا يتضاحكون.. في غمرة المزاح وجّه الصديق إلى رأس صديقه فوّهة السلاح .. ثم .. ضغط الزناد .. تصاعدت رائحة البارود .. واختلطت برائحة الدماء .. تلطخت جدران الغرفة بأشياء تبعث على الرعب والجنون .. !! وقف الرجل مذهولاً لم يصدّق حقيقة ما حصل .. ولم يستوعب صعوبة الموقف .. " قبل ثوانٍ كان كل شيء على ما يرام " خاطب نفسه .. كان بالتأكيد على حق .. فالثواني كانت معدودة .. غير أنها أضحَت فيصلاً بين الموت والحياة .. ( 12 ) عاث في مزارع الناس فساداً .. ولم يرعوِ .. حتى لقبوه ب ( سارق البيدان ) .. خرط الشجيرات المثمرة .. عراها من محصولها القليل .. طالما انتظر الفلاحون نضوجها ليحسّنوا من ظروفهم .. سرق الخيرات .. متخفياً يتسلل وقت الظهيرة .. وعند ساعات الظلام .. أكل ما نهب .. وباع الفائض بقلبٍ متحجّر .. تمادى في أفعاله حينما رآهم يتغاضون عن ممارساته الرعناء .. سامحوه عسى ولعل أن تصيبه نفحة من هداية أو صلاح .. غير أنه لم يزددْ إلا سرقةً ونهباً واستخفافاً بمشاعر البسطاء .. بعد اليأس دَعَوا عليه بظهر الغيب .. رفعوا تظلماتهم فوق الغمام .. بأكفٍّ شقّقها الكفاح والنّصَب .. ذات يوم .. صعد اللص إلى أعلى الشجرة لإسقاط ثمارها .. كان في قمتها .. وفجأة ودون سابق إنذار .. انكسر غصنٌ متينٌ كان يقف عليه بشموخ .. هوى المسكين متردياً من علٍ .. ارتطم جسده بظهر الأرض بعنف شديد .. سالت دماؤه من بين شدقيه وتكسرت عظامه .. !! صار منذئذٍ يمشي بين الناس أعرجاً .. نال علامة مسجّلة .. تذكّره على الدوام بأخطائه التي تاب منها .. وآب ..