بعض الأقلام تعمل وللأسف على استثارة الماضي وتوظيفه للحيلولة دون مضي الجنوبيين على طريق تحقيق الحلم الذي استعاد وهجه بإعلان عدن التاريخي. وأود أن أقول هنا، ليس للرد على أولئك، وإنما للتعبير عن رأيي الشخصي، إن قيم التصالح والتسامح ما زالت راسخة وحية تجري في دمائنا، وأنه لا حياة للجنوب ولا مستقبل دون التمسك بتلك القيم النبيلة. ففي منتصف العقد الماضي التقت كوكبة كبيرة من الشخصيات الجنوبية من مختلف محافظات الجنوب في مقر جمعية أبناء ردفانبعدن، وصدر عن ذلك اللقاء بيان التصالح والتسامح والذي تعاهدوا على العمل به ونشره بين كل أبناء الجنوب. وعلى هدى التصالح والتسامح قامت في 2007 أول حركة احتجاجية للعسكريين من مختلف مناطق الجنوب؛ ثم تطورت وتوسعت حركات الاحتجاج لتصل إلى مختلف مدن وحواضر الجنوب. وقد ضرب الجنوبيون أمثلة رائعة في التفاعل الإيجابي والتضامن المنقطع النظير مع بعضهم البعض والتي تجسدت من خلال فعاليات كثيرة ومتعددة، لعل أهمها تنقل مهرجانات الحراك الدورية بين معظم عواصممحافظات الجنوب، وتقديم مختلف أشكال الدعم والمساندة الممكنة لأسر الشهداء وعلاج الجرحى، وخلاف ذلك. وهذا هو أبلغ تجسيد حي لقيم التصالح والتسامح. عندما تعرضت مناطق في ردفان والضالع وغيرهما للقمع الشديد من قبل نظام صنعاء، هب الجنوبيون كلهم لنصرتهم، سواء بالمقاتلين، وخاصة من المناطق المجاورة في أبين وشبوة، أو بقوافل الإغاثة الغذائية والطبية من مختلف مناطق الجنوب. أليس هذا تعبير صادق عن قيم التصالح والتسامح؟ عندما تعرضت لودر في 2011 لتلك الهجمات الشرسة من قبل القوى الظلامية، هب الجنوب كله لنصرة مقاومتها الباسلة، فجاء العشرات من المقاتلين الأبطال من الضالع وردفان والصبيحة ويافع والعوالق وغيرها، وغيرها من المناطق المجاورة، لشد أزر رفاقهم في لودر، والقتال معهم جنباً إلى جنب في الدفاع عن لودر وفك الحصار عنها، وهزيمة القوى المعادية؛ كما توالت قوافل الإغاثة الغذائية والطبية من حضرموت والمهرة وشبوة، كما من عدن ولحج والضالع، لأهلهم وإخوتهم في لودر والقرى المجاورة. أليس هذا مثال آخر للتعبير الصادق عن تلك القيم النبيلة للتصالح والتسامح؟ عندما بدأت الحرب المستمرة على الجنوب في مطلع العام 2015، وعلى عدن بشكل خاص، هب الجنوبيون عن بكرة أبيهم، الرجال والنساء، الكبار والصغار، هبوا جميعهم على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية والمناطقية، هبوا جميعاً ومعاً وفي آنٍ للدفاع عن عدنهم، عن عدن المغروسة في قلب كل واحد فيهم، عن عاصمة وطنهم وحاضرتهم الأولى ورمز هويتهم، تسابقوا للدفاع عن عدن ببنادقهم الشخصية، وحتى بالحجارة والعصي؛ تسابقوا على الموت، واستماتوا في الدفاع عن عدن فماتوا لكي تبقى عدن حرة ويبقى أهلها أحراراً. تمعنوا في أسماء الشهداء والجرحى الذين سقطوا في معارك الدفاع عن عدن، لتجدوا أنهم ينتمون إلى مختلف مناطق الجنوب وجغرافيته ومكوناته وانتماءاته المجتمعية والسياسية والفكرية. ألا يشكل هذا تجسيداً صادقاً وشاملاً لمبادئ وقيم التصالح والتسامح؟ ثم أن مليونية الرابع من مايو الذي صدر عنها إعلان عدن التاريخي قد حظيت بمشاركة واسعة من مختلف شرائح المجتمع ومكوناته ومن مختلف مناطق الجنوب. صحيح أن بعض المناطق كانت مشاركاتها غير واسعة، ربما لعوامل عدة كبعد المسافات وقلة الإمكانيات وقصر المدة، وخلاف ذلك، بالإضافة إلى ما تبثه وسائل إعلامية معينة مناهضة لحق الجنوب في الاستقلال. ثم إني أعتقد أن كل محافظة ستحظى بتمثيل مناسب في المجلس السياسي المزمع تشكيله. وقد سبق لي أن قلت في منشور سابق أنه ليس بهذه الطريقة تتشكل القيادات للقضايا الكبرى والمصيرية، إلاّ أن السياسة هي فن الممكن، وهذا هو الممكن؛ فدعونا نشكله ونرعاه ونحصنه من الاختراقات والمؤآمرات التي بدأت حتى قبل ولادته. كما أن هذه القيادة الجنوبية المنتظرة ليست موجهة ضد أحد، لا ضد قوى التحالف ولا حتى الشرعية، وستظل شريكة في الحرب ضد مليشيات صالح والحوثي، ولكنها وفي نفس الوقت ستعمل على قيادة الجنوب نحو تحقيق الحلم.