فشلت القومجية العربية واثبتت عمليا انها عبارة عن ثورة كلام فلسفي منمق انتهى بانتهاء المنمقين.. أكلنا تفاح (حوثي) معظم فترات تسلط القومجيين العرب وجرفت الاجيال فيضانات الكلام ومازال القليل منا يزبد قومجية كلما لاحت له فرصة لكن الاكيد ان الجيل الجديد لا ياكل كلام مثلما اكلنا نحن .
مازلت اتذكر كيف استقبل سعيد الشحتور في مطار عدن عائدا من ايران برفقة المهندس حيدر العطاس بعد حادثة الطائرة السعودية التي اختطفها الشحتور ، وفي اليوم التالي استقبله الرئيس علي ناصر ومنحه عدة اوسمة ورتبة عسكرية فخرية جزاء ماقام به من عمل (بطولي) ضد الرجعية والامبريالة المتخلفة وتم تسويق الموضوع كلاميا على انه نصر مؤزر للجنوب وتبع ذلك استعراض عسكري وزيارات المسؤولين للمعسكرات ورفع الجاهزية القتالية وبث الاغاني الثورية واستعراض حرب الوديعة والتذكير بان الشهيد شلال والشحتور من منجم الابطال والاسود والنمور والفهود ، والقصد انهم نفخوا في فضاء الوهم بالنصر الساحق والماحق الذي احدثه الشحتور بالرجعية واوصلوه السماء نفخا وكان ناقص يعطوه علبه (بخاخ الوان ) يكتب اسمه جنب الشمس . بينما القصة كلها كانت على شحنة دجاج مجمد تأخرت اجراءاتها في ميناء جدة واتلفت وكان خطف الطائرة للمطالبة بالتعويض، زايدوا بالقضية وحملوها اكثر مما تحتمل ولم يهتموا للضرر الذي لحق المغتربين هناك حتى اضطر معظمهم الى تغيير لقب كازمي او عولقي خوفا من المساءلة وحكامنا في نشوة النصر الذي حققه الشحتور على الامبريالية وشيئا فشيئا انتهى الامر بالشحتور منسيا في قرية الجُبر مسقط راسه حتى ذكّرنا هو بنفسه عندما اعلن التمرد على دولة الاحتلال ودعا الى الكفاح المسلح من المحفد بينما كان معظم القومجيين حقّنا يأكلوا تفاح ( امريكي ) في عواصم الامبريالية والرجعية المتخلفة !!. كثيرة هي سقطاتنا او شطحاتنا الغبية، وليست عقبة نقيل الخلاء عنا ببعيد ، لكنني لست هنا للحدث عن هذا الامر المحبط للاسف بقدر حرصي على الانتقال الى المستقل خفافا وقد تخلصنا من مثالب الماضي وكل الهباب الذي هبّبناه ضد انفسنا والاخرين .
نعم فشلنا في الجنوب بفشل التجربة (التقدمية) والتي تآكلت من الداخل بفعل الصراع على السلطة وموجات العنف بين الرفاق وانهارت هذه المنظومة الكلامية بانهيار الاتحاد السوفييتي (بالذوبان) في دولة الوحدة مع اليمن الشقيق ، وبالمثل تآكلت دولة الوحدة وفشلت بعد ان تحولت الى احتلال للجنوب بالقوة العسكرية واخضع في 94م بالحرب التي اقصت الطرف المهزوم واخرجته من المعادلة ، ثم بهذه الحرب العبثية 2015م ارادت هذه القوى الشمالية المتجبرة ان تقصي من تبقى من جنوبيين في صفها من شركاء الحرب الاولى رغم مايمتلكونه من مشروعية دستورية وقانونية وبالتالي فقد فرضت هذه الحرب واقعا اخر وانتجت جنوبا محررا لا يمننة فيه ، اي ان هذه الفترة شبيهة الى حد كبير بفترة الاستقلال الاول 67م وهي فترة اختيار وتحديد مسار واتخاذ قرار ، وبما ان الرفاق في الجبهة القومية قد قرروا وحدهم السير باتجاه اليمننة وكان الهدف من ذلك سلطوي في المقام الاول وليس لاعتبارات وطنية حتمية بالضرورة وهو اقصاء وابعاد الخصوم السياسيين من مختلف الفعاليات وممن يدعون لقيام دولة الجنوب العربي بادعائهم ان هذا مطلب بريطاني وان من يدعو له هو عميل للاستعمار ومن يسير في فلكه من دول الاقليم وكان لهذا الطرح العاطفي قبول شعبي نتيجة للزخم الناصري الطاغي على ماسواه وهكذا انهزم المعارضون امام تيار المزايدين بالقومية العربية وفذلكات اصحاب اليسار من جهابذة التنظير والجدل وناقلي الايديولوجيا عبر القارات .نعم انتصرت ثورة الكلام وتجاهلت التاريخ حتى لا اقول شوهته ، فكان ان افرد فصيل وحيد بالسلطة وسرعان ما أكل نفسه وانتهى الى ما انتهى اليه وكانت النتيجة بالمجمل نصف قرن من الانتكاسات والخيبات والعزلة. من الطبيعي الان ان نقف وقفة صادقة مع انفسنا ومراجعة حقيقية للتاريخ وما حل به من تشوهات واخطاء ، وبنظرة شاخصة في المرآة ولينظر كل منا الى عينيه ويعتذر لماضيه ويعترف بخطئه وفشله وانها قد حانت اللحظة التاريخية لعودة الامور الى نصابها وتحديد بدايات جديدة غير التي جرفنا فيها تيار القومجية واوصلتنا الى هكذا مواصيل .
وان بقي سطر في آخر المقال سيكون للتذكير حتى لا يتكرر الفشل بان التدافع رغما عن ارادة شعب الجنوب وتضحياته ودماء شهدائه وجرحاه هي ضربا من الفنتازيا السلطوية القديمة وانه لم يعد مجديا ولا مقبولا استخدام اسلحة التخوين والعمالة والارتزاق وان انطلت علينا في الماضي فانها اليوم اصبحت ادانة شعبية لمستخدميها بالوقوف ضد الثورة الجنوبية وافراغ اهدافها الوطنية او حرفها عن مسارها الذي انطلقت من اجله ، ويفترض بكل القيادات (التاريخية والشرعية)ان تتعاطى مع الواقع الجديد باعتباره لحظة تاريخية جديدة صنعها جيل جديد ممن صقلتهم الجبهات والمتارس وان هذه اللحظة الفارقة ليست امتدادا لمرحلة من تاريخهم ولا مواصلة لمسيرتهم التي انتهت بالذوبان في وحدة العام 90 ، وانما هي ارادة شعب يمارس حقه الطبيعي في الاختيار بعد ان تحقق النصر بعون الله ومساندة الاشقاء في التحالف ليعيد الاعتبار للتاريخ والجغرافيا!!.