هل أراد، وعبر طرحها، خلاصا من إطارات بالية علقت فيها المجتمعات المعنيّة طويلا، فأراد بذلك خلق مفهوم ثوري يخلص المجتمعات من قيود كثيرة ويدفع قاطرتها قدما؟ أم أراد السوء فكان القصد وراء الطرح انسلاخا هداما، وحرمانا من جوهر وأساس مهم يمكن البناء عليه نحو مستقبل أفضل؟ في عام 1986 م أصدرت وزارة التربية السورية تعميما لكل العاملين في قطاع التعليم بمنع الضرب في المدارس، واستمرت سلسلة القرارات، مع استمرار عدم العمل بها، تصدر كل عام أكثر حزما حتى العام 2004 عندما صدر أكثرها فعالية، إذ تضمّن عقوبات شديدة على مرتكبي الفعل. في العام 2006 كان لي لقاء مع أحد مدرّسي التربية القومية وهو أيضا مدير لمدرسة ثانوية في ريف دمشق وكان ذائع الصيت في المنطقة بسبب قسوته مع التلاميذ، ولما سألته لماذا يستخدم أسلوبا هداما أثبت عدم نجاعته مع تلاميذه كالضرب، فاجأتني إجابته بطريقة تنم عن ثقافة لم أنتظرها من شخص له صيت من هذا النوع إذ قال: الضرب أسلوب فاشل يدل على فشل من يمارسه، يؤلمني استخدامه بقدر ما يؤلم من يتعرض له لأنه دليل على فشلي كمربّي قبل كل شيء، عندما تفشل كل الأساليب الأخرى بدءا من احترام الطالب لشخصي كمربي وانتهاء بعدم استطاعتي أيضا كمربّي فرض شخصيتي بالطرق الصحيحة ألجأ للضرب ولحظة لجوئي له هي لحظة إعلان فشلي المتكرر. وبغض النظر عن باقي تفاصيل الحديث مع هذا الأستاذ في حينها، فإن اللجوء إلى الانسلاخ عن الهوية العربية أو عن هوية المنطقة المحيطة أيّا كانت، واللجوء إلى هويات بديلة كالفينيقية والآرامية والسريانية أو الفرعونية أو البربرية وغيرها من أقوام كان لها باع طويل مع الحضارة سكنت المنطقة يوما وطحنتها عجلة التاريخ بدورانها الأزلي ما هو إلا تعبير عن الفشل وهروب صارخ من الواقع. كثيرة هي صفحات التواصل الاجتماعي المندرجة تحت مسميات كالأمة السورية والفرعونية وغيرها الكثير من الصفحات التي تنادي بقوميات ضيقة تأخذ حدود جغرافيات مستحدثة بعد الحرب العالمية الأولى أو مندثرة منذ ما قبلها ورواد هذه المنابر كما أصحابها أنفسهم موجودون تحت احتمال كونهم أحفاد أحد قادة الفتوحات العربية للشام أو العراق أو المغرب أو أحفاد أحد المهاجرين العرب إليها. وفيما سبق انجرار طفيف لجدال عقيم وبلا جدوى بالانتماء لشعب أو هوية لا تلعب أي دور فاعل على الساحة الدولية اليوم. العالم اليوم وفي ظل سرعة تبادل المعلومات المهول الذي نعيشه والانكشاف على الآخر، يبدو بأبجح صوره، وتبرز فيه تساؤلات جوهرية عن جدوى ثورات وحركات إنسانية برزت وتبلورت مطلع القرن العشرين وحددت قوانين عالمنا وقواه اليوم كمبادئ الثورة الفرنسية، و فصل الدين عن الدولة الأوروبية، والعلمانية، ومواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان، وأفكار رائدة لشخوص عاشت وأثرت في التسعينات كجون لينون وبوب مارلي، وحركات السلام المتأثرة بهم والموازية لهم، إذ يبدو التناقض بأوضح صوره بين توجهات حكومات الشعوب الرائدة اليوم والمتبنيّة من حيث المبدأ لكثير من الأفكار الإنسانية نظريا، وبين التطبيقات العملية لها، كأوروبا التي تعيش اليوم رفاهها من طعام وطاقة إفريقيا ودول العالم الثالث، أو إجمالا التناقض الذي لا لبس فيه في مواقف حكومات الدول المتقدمة القائمة على تأمين رفاه شعوبها المبني على استغلال الشعوب الأخرى وبين قوانين حقوق الإنسان والقوانين المدنية التي تتبناها نفس الحكومات. يستحضرني بشدة هنا القرار الأمريكي المشابه في مضمونه لتوجهات دول كثيرة في أوروبا تبنت القرار بصمت وبدون بهرجة إعلامية، هذا القرار الذي يتضمن منع الدخول لمواطني دول فقيرة أو دول تطحنها الفوضى كاليمن وليبيا والصومال وسوريا ولم يشمل دولا كالسعودية وأفغانستان وباكستان أو غيرها، هو ربما ترجمة لمثل شامي يقول " عندك قرش بتسوى قرش". وإن القرار لتعبير عن توجه القرار العالمي الذي لا يفرق بين عربي اليمن وسوري سوريا، طبعا على فرض صحة استخدام التعبير، لكنه يستثني عرب السعودية وآسيوي باكستان الذين يملكون سلاحا نوويا وعلاقات استراتيجية ومخابراتية متينة مع الولاياتالمتحدة. إذا ما جدوى الانتماء لأي من القوميات عربية كانت أم غيرها وهي جميعها متأخرة عن الركب اليوم؟ وبعيدا عن دراسة الجدوى هل يفيد فعلا الانسلاخ عن القومية العربية في تحقيق النهضة؟ ألا تجني إسبانيا "المسيحية" اليوم ملايين الدولارات سنويا من السياحة في آثار الدولة الإسلامية البائدة وقد كانت دولة "احتلال"؟ في أوروبا ترمم أبراج وعمارات تعود إلى القرون الوسطى أو ما بعدها، وتسيج وتحفظ كمناطق أثرية، بينما في الشرق الأوسط تعني كلمة أثار ثلاثة أو خمسة الاف سنة مضت! أما بقايا القرون الوسطى فمازالت الناس تسكنها حتى اليوم! الأجدر بنا كسكان المنطقة جمع واستثمار إرثنا التاريخي الغني كله، وحفظه وتذكره كمحصول حضاري وليس كمدعاة فخر أو سبب وجودي. أما أسلوب التباكي على الماضي وبناء مقومات الوجود اليوم عليه فهو أسلوب رث وفاشل لا يسمن من جوع. لا يستطيع شعب أن يعيش وحده، أما دعوات الفرقة الطائفية والعرقية والقومية فهي دعوات تندرج تحت نفس السياق الهدام. سر الخلاص يكمن في تقبل الآخر واختلافه وإفساح الحيز من الفراغ الذي يحتاجه كيانه للوجود. سر الخلاص أيضا في التركيز على ما يجمع الشعوب لا على ما يفرقها، فكلنا نبحث عن العيش الكريم والازدهار الاقتصادي والاستقرار، ومصير الشعوب إذا ما قبلت اختلافاتها الدينية والتوجهاتية كان ولا يزال واحدا.