ملاحظات عابرة من وحي الندوة القصصية على الرغم من قسوة الحرب والدمار والحصار الذي تعيشه عدن منذ 23 عاما الا أنها لم تستلم لمشيئة الشر و الأشرار، فهاهي تقتنص لحظات الهدوء العابرة لتعاود الحلم والأمل بالحياة التي تستحقها وتبوح بما يختلج في أعماقها من أشواق إبداعية مدنية ثقافية متقدة للانطلاق في فضاءات المستقبل الأجمل. إنها عدن حورية البحار وأميرة المدن القديمة والجديدة المسكونة بالنار الأبدية، التي لم ولن تخمد أبدا ، منذ أن صنعها الخالق الباري المصمم العظيم بهذه الهئية الطبيعية الباذخة السحر والجمال ، فمن يشبهك من ؟! . عدن عبقرية المكان وملحمة التاريخ، هي المدينة المتفردة بجمالها الأسطوري، فيها فقط يتعاشق البحر والبر والجبل بتناسق جميل؛ فشواطؤها ليس لها مثيل، وميناؤها كان وسيظل ثاني أهم موانئ الدنيا، كم هي المدن التي مررتم بها في بلاد الله الواسعة ؟! ولا مدينة تشبها من حيث التصميم والتشكيل والموقع والروح والفن، ولكن تظل الجغرافيا حضورها بوسائل شتىء، أما التاريخ فهو ذاكرة المكان والزمان! هنا والآن يعاود التاريخ المقاومة والحضور بكل ما يمتلكه من إرادة وقوة، وبتنويعات مختلف الألوان والأشكال، عصر اليوم حلقت فينيقية الحلم والأمل عدن بأجنحة الإبداع والأشواق والوجع، مع ناديها السردي الذي يحمل اسمها بجدارة واقتدار في ندوة أدبية قصصية إبداعية رائعة في مركز الرشيد للدراسات والتنوير بخور مكسر على شط بحر العرب حيث يحتدم الموج والعاصفة استمعنا الليلة الى أصوات نخبة من الأدباء والأديبات الشباب/بات/ الذين/ تن/ اتلوا علينا على مدى ثلاث ساعات ما جادت به قرائحهم ووجداناتهم من أعمال إبداعية سردية متنوعة. ولما كنت مع زميلي وصديقي العزيز د. عبدالحكيم باقيس رئيس نادي السرد -عدن شاهد حال ومسار هذه الندوة منذ ميلاد فكرتها ونموها وسيرورات وحرصي الشديد على إنضاجها حتى اكتمال مسارها إذ أبذل ما بوسعي من أجل نجاحها، رغم العثرات التي واجهتنا، فقد ترقبت موعد انعقادها بلهفة وشوق صادقين، وكنت اليوم في مقدمة الحاضرين، ذهبت رغم ما كنت أشعر به من تعب وإرهاق مدفوعا بحوافز شتى أهمها على الإطلاق الاحتفاء بهذا الحدث الأدبي الثقافي النوعي في مدينة أنهكتها الحرب والدمار والفساد والظلام. إذ لأول مرة يحدث في عدن حدث مثل هذا بالمكان والزمان والنوع والحضور وطبيعة المحتوى المغاير الصوت والللحن والنغم الذي فقدناه في عدن منذ زمن طويل للأسف الشديد. وكم أسعدني حينما رأيت القاعة تكتظ بالحضور من الأدباء والاديبات والأستاذة الكرام. هناك اسمعت الى باقة متنوعة من النصوص السردية القصيرة والمداخلات النقدية الجيدة. قرابة 14 نصاً ادبياً وأربع مداخلات نقدية. أدار الندوة الدكتور مسعود عمشوش استاذ الترجمة والنقد الأدبي في كلية الآداب متفردا. واستهلها الصديق الأديب الشاعر المثقف شوقي شفيق بقراءة قصة قصيرة بعنوان: البحر. ثم تلت الأديب الواعدة سماح بادبيان اقصوصتها المؤثرة بعنوان: على حافة الحياة، وبعدها غردت أديبة لحج المبدعة حكايتها الموجعة؛ ليتني لم أكبر. يعقبها المبدع الشاب النحيل ابو بكر الهاشمي في بائع الحمام المتجول. ثم تغرد الأديبة الشابة إيمان خالد، رسالة من البرزخ! ذكرتني بمسرحية الأبواب الموصدة للوجودي جان بول سارتر ومع أديبة كريتر اوسان جمال نستمع الى هاشتاج هاربة. ويطل القاص المبدع سعيدالمحثوثي بنصه السردي الجميل بعنوان: طموح. ومن كريتر تبوح الأديبة لبنى باحشوان، ب جدلية الشوق. ومع الأديبة المثقفة يبلغ السرد أوجه بقصة قداحة، قصة اشتقاقات بين رؤية أعمى ورواية أصم! ثم يمتعنا صالح العطفي بحكاية زبالة الحي الراقي. ويقف ماجد الشعيبي يتلو قصة الأموات الذين يتشبثون برقاب الأحياء! دون أن يعرف على ما اعتقد كتاب الثامن عشر من برومير لويس بونابرات ل كارل ماركس الذي وردت بها هذه الجملة. يعقبه المهندس المثقف والأديب الواعد ابراهيم الحكيمي بنص الصرخة. وكان مسك ختام الباقة السردية مع الإعلام والناشط المدني المبدع منصور نور. بقصة جنة، النابعة من تجربة شخصية مؤثرة. بعدها تم استدعاء المداخلات النقدية التي استهلتها الأكاديمية المثقفة أديبة البحري، بدقة منهجية ولغة بليغة ومعرفة واعية. بعدها صعد المنصة الزميل العزيز د. مسعد أحمد مسرور، استاذ النقد الأدبي المخضرم في كلية التربية شبوة، وكانت مداخلته القصيرة عميقة ونافدة في صميم النقد السردي عن مراس ودراية. وقبل أن أقول رأيي في الندوة عامة لا يسعني الا أن احيي الاستاذيين الرائعين دكتور محمد ابو رجب والدكتور طه ابو علي من فلسطين الحبيبة وخير ما فعل الدكتور طه بمداخلته النقدية المقتضبة في النصوص السردية وتذكيره بنساء فلسطين الصامدات في وجه الاحتلال الصهيوني الغاصب، فلهن وشعبهن المجد والشرف والحرية. ثم جاء دوري أنا المغرد من خارج السرب لاقول كلمتي فيما سمعته. بعد السلام والتحية قلت مايلي: حينما يحلق الموت فوق رؤوس الجميع الصرخة وحدها تجعلنا نحيا! تداعت الى ذهني هذه الخاطرة الوجودية التي كتبها البير كامو في كتابه الشهير الانسان المتمرد. وأضفت ؛ هذه الندوة القصصية العدنية التي تنعقد في قلب المِحنة والألم هي وجودية بامتياز. إذ لاحظت حضور كثيف في نصوص الأديبات للغة الوجودية ورموزها التي تدور حول الموت والقتل والقلق والاغتراب والضياع واللاجدوى والعبث والقهر والفقر والسجن والآخرة ..الخ معظمها كانت مفعمة بالروح والنبرة الوجودية الحميمة وهذا ما كان متوقع من أدباء وأديبات يعيشون واقع مجتمعهم الفاجع بمشاعرهم المرهفة، فكان استبطانهم/ هن/ لواقعهم/ هن/ نابع من حقيقة التجربة الذاتية ومداراتها الحزينة في عدن المثخنة بالجراح الغائرة، وهكذا يكون الأدب الملتزم للحياة هو صوت نبضها وبوح وجودها كما هي عليه بكل زخمها وصخبها واجاعها وأشواقها. وبذلك كان هيدجر محقاً حينما قال: اللغة هي لغة الوجود كما هي السحب لغة السماء! ربما كانت لبنى باحشوان تغرد جدلية الأشواق هذه بمعاني مختلفة ولكنها تبقى تعبيرا صادقا عن حالة الفقد والحرمان والقحط الإنساني المدني الذي بات يفتك بحورية البحار منذ عقود من الزمن. وحدها صابرين الحسني التي بدت وكأنها تغرد بعيدا عن سرب الحمام هذا، إذ كان انزياحها واضحا لغة ودلالة في حكاية القداحة المفعمة بالروح الفلسفية الساخرة كما عودتنا دائما. بينما جاءت نصوص الأدباء الذكور واولها سردية صديقنا العزيز شوقي شفيق في ما يشبه الحنين للزمن الجميل زمن الشباب والعيش في كنف مؤسسة وطنية جامعة أي دولة شديدة التنظيم المؤسسي الرسمي والهيبة والزي والمعنى، في ظل ما نعيشه شتات وتمزق وتذرر وفوضى عارمة الآن يعجز الفكر على تخييل امكان جمعه وتاليبه الى مساره الصحيح. وهكذا ظهر في سرديات الأدباء الذكور رموز الهيمنة الذكورية التقليدية: الشاحنة والجيش والتجنيد والخدمة والمعسكر والسلاح وبذلك غردت قصة بائع الحمام للهاشمي صوت الظلام والخوف والرجال والجند والمتفجرات والأدوات لعكس صورة صادقة للواقع الراهن. وفِي ذات السياق جاءت حكاية زبالة الحي الراقي، برموزها، الباص، والطريق والعيد والأب والأبناء لتعبر عن حالة الضياع التي يعشها الجيل الجديد. ولم يخرج ماجد الشعيبي عن السياق في ماتلاه من حكاية. وكانت قصة منصور نور جنة هي أوج هذه الانزياح الذكوري الجميل المنشغل باخطر تهديدات الحياة الراهنة، الإرهاب والمتفجرات والعنف الذي يجتاح كل مجالات حياتنا الراهنة التي تحمل بصمته وأثره الفادح كايقونة بالساق المبتورة. وربما كان ابراهيم الحكيمي يستشكل وجه آخر للمسألة الوجودية التي نعيشها في هذا الصعق العربي المسمم بالبوس والظلام والخوف والحرب والجريمة، انها الحرية المكتوبة على أجنحة العواصف! ولكن ما قيمة الحرية الصورية لطفل مراهق يتسكع بالشارع بحثنا عن ما يسد رمقه من الخبز والماء، فيما أسمته سماح برزخ الحياة. الآن سمعت دوي انفجار شديد على مقربة مني مما اضطرني للتوقف هنا. مع خالص الأعتذار للزملاء والزميلات الذين/تن/ لم تسعفني الذاكرة المضطربة بسبب قوة التفجر لذكر اسماهم. ودمتم بخير وسلام