رسم خروج الإنجليز من عدن بالتدليس منعطفا حادا في التاريخ الإنساني وفي الميدان السياسي والإجتماعي والإداري الداخلي للمدينة. وباتت المشاكل التي تحدق بها تتحول إلى كوارث تخرج من رحم أحزاب وقوى سياسية وقبائل ليست لها بوصلة أخلاقية. وصارت أحوال أبناء عدن بائسة ومدينتهم منهوبة، خَرِبة، مدمرة، شديدة التلوث وممسوخة، بعدما كانت مدينة حضارية راقية مزدهرة تخرج من نواصيها تجارة عظيمة. إن الأحزاب والقوى السياسية القائمة هشة، حمقى، انتهازية ولها سلوك ديكتاتوري متهور ومخز. وجميعها لا تربطها صلة بمدينة عدن. وهذا يفسر وحشيتها وفشلها الذريع في الحياة السياسية وفي تجربة الحكم. وباتت هناك ضرورة ملحة أن يتغير وجه السلطة في عدن، والحق أن الأمر الواقع لا يتغير إلى الأفضل إلا بالعمل السياسي، والذي يتطلب إنشاء تنظيم سياسي يكون وسيطا بين أبناء عدن والنظام الحاكم في البلاد. ويشكل الوضع الحالي محطة مناسبة لإعادة ترتيب الأمور فيها بطرق أكثر ملائمة، والوسيلة الفعالة التي تسمح بلوغ ذلك هي الديمقراطية. ومن أذرع الديمقراطية الرصينة الحياة الحزبية السليمة. والأحزاب السياسية عبارة عن كيانات مجتمعية تقوم بدور مهم للغاية في الحياة السياسية، إضافة إلى وظائفها الأخرى في المجتمع. وهي التعبير عن مجموعة أو قطاع كبير من المجتمع ورؤيتهم لكل شئونهم العامة وتنظيم إرادتهم وبلورتها والمساهمة في حل مشكلاتهم. وفي كل المجتمعات تؤسس الأحزاب عادة من عدد من الأشخاص الذين يؤمنون ببعض الأفكار السياسية على انتصارها وتحقيقها وذلك بجمع أكبر عدد ممكن من المواطنين حولها والسعي إلى الوصول إلى السلطة أو على الأقل التأثير على قرارات السلطة الحاكمة. وإنتصارا للذاكرة، وجدت في عدن قبل الإستقلال الزائف حركة سياسية ونقابية نشطة، وسارع تضافر القوى الوطنية وبروز قيادات وطنية، وظهور نخب مثقفة في تشكيل جبهات وأحزاب، وتأسست الجمعية العدنية عام 1950م كأول إطار سياسي في عدن. وجماعة النهضة عام 1952م، وتأسس أيضا المؤتمر العمالي (25 نقابة) والذي شكل حزب الشعب الإشتراكي برئاسة عبد الله الأصنج، الذي تحول إلى منظمة التحرير، وتكونت منها جبهة تحرير جنوباليمن. وفي نهاية الخمسينات وأوائل الستينات تأسس حزب المؤتمر الشعبي الدستوري برئاسة محمد علي لقمان، والاتحاد الشعبي الديمقراطي برئاسة عبد الله باديب، والحزب الوطني الإتحادي برئاسة حسن علي بيومي، وحزب المؤتمر الدستوري، وحزب الإستقلال وحركة البعث العربي (الطليعة). وكافة هذه القوى السياسية قَرَنَت بين النضال السياسي الواعي والفاعل وبين النضال المادي العملي، مثل الإضرابات والعصيان المدني والمظاهرات، وأتجه بعضها إلى النضال المسلح ايضا.
وطورت برامجها في إتجاه المطلب الأرقى وهو إستقلال عدن وكانت من أنشط الحركات الثورية والعمالية في العالم ثوريا وقوميا، وكانت قاعدة الإنتماء اليها على أساس الهوية الوطنية اليمنية. وقد كان أبناء عدن يُختارون وحدهم لتمثيلها في المجلس التشريعي في الداخل وبمهام تمثيلها في الخارج، ولا يذهب وزنهم السياسي إلى باقي المقيمين في المدينة. والشاهد، عندما قام محمد علي لقمان رئيس حزب المؤتمر الشعبي الدستوري وعضو المجلس التشريعي بعدن، في سبتمبر 1962م بزيارة إلى مقر الأممالمتحدة في نيويورك، وتحدث أمام لجنة السبعة عشر حينما باشرت مناقشة قضية عدن، وطالب بتصفية القاعدة العسكرية البريطانية، وإعطاء عدن حق تقرير المصير. وباتت هناك ضرورة ملحة أن يتغير وجه السلطة في عدن. وآن الأوان لكي يسيطر أبناء عدن على حياتهم والتحكم بمصيرهم، ويديروا شئون مدينتهم بأنفسهم، وأن يخطوا طريقهم بما يروه مناسبا لهم ويشكل الوضع الحالي محطة مناسبة لإعادة ترتيب الأمور فيها بطرق أكثر ملائمة، والأمور أصبحت أفضل في "الساحة الإفتراضية" التي أصبحت مؤثرة بشدة. وقد شهدنا في مصر كيف تستطيع مجموعة من الشباب أن تصنع الحشود بالملايين من خلال صفحات الفيس بوك وتويتر، وإنشاء وتدشين أحزابا على الإنترنت وعندما أصبح لديهم العدد الكافي أستطاعوا بمجهودهم الذاتي وبتكاليف بسيطة إخراج هذه الكيانات على أرض الواقع كقوة تفرض نفسها ويكون لها صوت مسموع وظهير شعبي جارف. وتستطيع الكوادر العدنية الشبابية, هُن وهُم, المتعلمة والمثقفة الحرة, أن تنشئ تنظيما للمشاركة السياسية والإجتماعية النشطة ، يكون هو المدخل السياسي والفكري والعملي للتعبير عن أبناء عدن ويدافع عن حقوقهم, يزيل احتكار الحقيقة وإحتكار المشروعية وإحتكار الوطنية من القوى السياسية الفاسدة القائمة, ويكون أداة لحكم وإدارة المدينة, يضع كل النقاط والإتجاهات والتطورات والأفكار ومصالح أبناء عدن والوطن كله أمامه وهو يتخذ القرار, يزيد من التماسك الإجتماعي ويحافظ على التقاليد والثقافة العدنية المتميزة, ويصبح عنصرا حاسما ليستعيد العدانية مدينتهم وحقوقهم السياسية والمدنية والإنسانية, ووضع عدن في المرتفعات التي تضيئها الشمس.