عدن حالها اليوم لا يسر, هذه المدينة الواعدة المسالمة التي احتضنت الجميع يوم غادروا مناطقهم لشظف العيش وقسوة المناخ، ففتحت لهم ذراعيها ليعيشوا على مقوماتها ويشاركوا سكانها وأبناءها الاصلاء والكرماء . تعالوا لنرى الصورة من قريب, فهذه المدينة التي كان بالإمكان التجول في شوارعها بدقائق قليلة, لا يستطيع المرئ أن يطوفها اليوم في أيام لتوسع أحيائها، عدن كانت خدماتها تعمل على مدار الساعة، تحول بها الحال إلى مدينة موحشة لا يستطيع الواحد منا إيجاد صيدلية مفتوحة إلا بصعوبة.
هذه المدينة التي كان أبناؤها يعبرون عن مطالبهم من خلال الحجة والبرهان, ومن خلال إتباع الإجراءات والنظم صارت اليوم تفاجئ بأن بعض مدارسها مغلقة تحت طائل الوعيد والتهديد وطرق بعض أحيائها لا تستطيع النفاذ منها, هذه المدينة التي عاش فيها الجميع بمختلف انتماءاتهم الجغرافية والسياسية بنوع من الهدوء المقبول, صرت لا تجد فيها إلا السياجات التي تكاد أن تكون مغلقة أمام الأخر! وتكاد تفتقد الأمان وأن تنتقل من حي إلى سواه !! فما الذي حدث ؟؟ وما الذي جرى ؟؟ وماذا أصابها ؟؟.
هل ما جرى وحدث هو سبب الحالة العامة في البلد أم بسبب الضغوطات المختلفة التي يعيشها أبناؤها وأحبابها ؟؟ أم أن دخلاء أرادوا أن يصفوا حساباتهم فيها ومعها ؟. ونقول أن الذي حدث هو تراكم الأخطاء في حق هذه المدينة وعندما نقول للجميع أن كلاً يتحمل بقدر مسئوليته وحجمه والمقام ليس مقام تحديد جهات, فمن يحبون هذه المدينة يعلمون أن جهات بعينها حاولت خلال الأربعين العام الماضية أن تسيْ إلى هذه المدينة من خلال عوامل عدة يتصدر هذه العوامل الجهل وعدم الكفاءة وقلة الخبرة وتصدر المقربين وغيرها من عوامل الهدم التي لا تجتمع على مدينة إلا ودمرتها ثم أتت النظريات الحزبية المقيتة لتزيد الأمر سوءً فأشتغل البعض في هذه المدينة بنفس حزبي أعمى وبدلاً من أن يجعل من الحزبية محضناً لإخراج الأكفأ والأقدر وجعلها سلم لصوص لمن أراد أن يلحق بهذه المدينة الخراب, وصحيح أنه خلال السنين الماضية بذلت أموال كثيرة لإنعاش هذه المدينة ولكن هذه الأموال جملت المظهر لا المخبر واليوم تعاني من ضعف المخبر كثيراً في مثل هذه اللحظات الحرجة التي نبحث فيها عن المخلصين الشرفاء الأكفاء الذين هم أساس أي إنقاذ لأي نهضة وبناء .
ولهذا ظلت علاقة الناس بهذه المدينة كقيمة حضارية تتدهور خلال السنين الماضية واختفت من شوارعها رموز الثقافة الحقيقية ليحل محلها أشكال خاوية لمسميات تعكس حالة الوهن التي تسود المدينة وأحيائها وبدلاً من أن يكون لهذه المدينة مرجعياتها الحقيقية الذين يتمتعون بالكفاءة والمقدرة ، فقد آلت الأمور إلى فريق أرهق الجميع وأوصلنا إلى ما نحن فيه !! وكما قلنا لعل قائل يقول إن ما يجري اليوم لا يخص عدن ولكنه حدث عام يجتاح اليمن والمنطقة، ونقول نعم، ولكن في مثل هذه الأحداث تبرز مزايا المدن وأبنائها ويتجلى معدن الناس الواعيين والمتعلمين وتعبر مؤسسات المجتمع عن جاهزيتها وتألقها وما نراه اليوم يبعث على التساؤل والبحث عمن كان سبباً فيما وصلنا إليه ؟.
نقول أن مجمل الصراعات التي كانت في اليمن تحملت هذه المدينة منذ الاستقلال وإلى الآن جزءً مهماً منها مما أدى أن تكون معظم سياساتنا وإجراءاتنا تتم في أجواء الصراع وبالتالي كان الصراع مبتدأها وفي أحوال أخرى موضوعها ولهذا لم تكن النتائج بمعزل عن المدخلات فلم تنتج هذه الصراعات إلا مزيداً من التدهور وعدم الاستقرار ... أقول إن الشكل المشوه لمدينة عدن اليوم يجب أن يكون حاضراً لنا حتى لا يتكرر هذا الفشل مرة أخرى .
أن المدينة يجب أن تكون مكوناً أساسياً في شخصية من سكنها وأين لم يوجد هذا المكون فأن من يسكن في هذه المدينة بدون هذا الإحساس يقلقها ويؤذيها وفي أحايين قد يدمرها لا بد ونحن في هذه اللحظات المفصلية أن نراجع قناعتنا ونعيد قراءة واقعنا ونعمل من خلال قواسم مشتركة تعزيز مكانة المدينة وجوهرها الحضاري كعامل أمان واستقرار .
إن العشوائية التي خربت حياتنا في مجالات السياسية والاقتصاد والثقافة قد تغلغلت إلى أحياء المدينة وشوارعها وحاصرت كل القيم الإيجابية في حياتنا وإذا بنا نفاجئ أننا مكبلون في لحظات الخطر لا نستطيع أن نتحرك .
وعليه لابد لمثقفي هذه المدينة في كل القطاعات من معلمين وأطباء ومهندسين ونساء وجمعيات وأحزاب وموجهين وغيرهم من أعلام المدينة أن يكون لها صوتها الجامع ورايتها المتميزة التي تجمع الناس من كل المشارب للحفاظ على هذه المدينة ومراعاة حقوقها علينا .
علينا جميعاً أن نكبر على عوامل الضعف من قرويات ضيقة وأحزاب لا تعرف كيف توجه منتسبيها ومثلها التحالفات الضيقة، علينا عدم السماح للبعض بالعبث في شوارع هذه المدينة بالطريقة العصبية المقرفة التي لا تعبر عن فهم سياسي ولا عن تميز أخلاقي ولا برنامج واقعي، لابد أن نقف جميعاً ضد إغلاق المدارس بالقوة، لابد أن نقف كلنا بدون استثناء ضد قطع الطرق وتخريبها، لابد أن ينحاز المثقفون من كل المشارب لحماية مظهر المدينة وسهولة الحركة فيها، لابد أن تكون عدن نموذجاً متميزاً ونحن ننشد التغيير السلمي ونعلم الناس أن العصيان المدني لا يطبق بالعنف لأنه لا ينتج إلا العنف.
أيها المثقفون أيها الموقنون أيها المخلصون أيها المحبون لهذه المدينة أين نحن من عدن وأين عدن منا ؟؟ إن لم نتحرك اليوم وفي هذه الحظات سيفوتنا الكثير وسيظل مستقبلنا يقرره المتصارعون كما اعتادوا ذلك في ماضيهم وستظل عدن تنزف حتى موعد آخر . *نائب برلماني وشخصية إجتماعية من عدن