القسام توقع قوة صهيونية بين قتيل وجريح بكمين مركب في خانيونس    15 غارة للعدوان على الجوف ومأرب    الأرصاد تتوقع أمطاراً رعدية بالمناطق الساحلية والجبلية وطقساً حاراً بالمناطق الصحراوية    تفاصيل جديدة لمقتل شاب دافع عن أرضه بالحسوة برصاص من داخل مسجد    من أين تأتي قوة الحوثيين؟    بيع شهادات في جامعة عدن: الفاسد يُكافأ بمنصب رفيع (وثيقة)    شركات الطيران العالمية تلغي رحلاتها إلى كيان العدو بعد تحذيرات اليمن    نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور عبدالله العليمي يعزي في استشهاد عمر عبده فرحان    رسميًا.. بايرن ميونخ بطلًا للبوندسليجا    تشيلسي يضرب ليفربول ويتمسك بأمل الأبطال    تدشين برنامج ترسيخ قيم النزاهة لطلاب الدورات الصيفية بمديرية الوحدة بأمانة العاصمة    بدء تنفيذ قرار فرض حظر على الملاحة الجوية لمطارات الكيان    فشل المنظومات الاعتراضية الأمريكية والإسرائيلية وهروب ثلاثة ملايين صهيوني إلى الملاجئ    ورطة إسرائيل.. "أرو" و"ثاد" فشلا في اعتراض صاروخ الحوثيين    تدمير المؤسسة العسكرية الجنوبية مفتاح عودة صنعاء لحكم الجنوب    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    وزير الصحة ومنظمات دولية يتفقدون مستشفى إسناد للطب النفسي    قدسية نصوص الشريعة    فيما مصير علي عشال ما يزال مجهولا .. مجهولون يختطفون عمه من وسط عدن    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    تطور القدرات العسكرية والتصنيع الحربي    في ذكرى الصرخة في وجه المستكبرين: "الشعار سلاح وموقف"    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    الاجتماع ال 19 للجمعية العامة يستعرض انجازات العام 2024م ومسيرة العطاء والتطور النوعي للشركة: «يمن موبايل» تحافظ على مركزها المالي وتوزع أعلى الارباح على المساهمين بنسبة 40 بالمائة    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    ملفات على طاولة بن بريك.. "الاقتصاد والخدمات واستعادة الدولة" هل يخترق جدار الأزمات؟    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    مرض الفشل الكلوي (3)    العشاري: احراق محتويات مكتب المعهد العالي للتوجيه والارشاد بصنعاء توجه إلغائي عنصري    التحذير من شراء الأراضي الواقعة ضمن حمى المواقع الأثرية    دوي انفجارات في صنعاء بالتزامن مع تحليق للطيران    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    وسط إغلاق شامل للمحطات.. الحوثيون يفرضون تقنينًا جديدًا للوقود    صنعاء .. طوابير سيارات واسطوانات أما محطات الوقود وشركتا النفط والغاز توضحان    نصيحة لبن بريك سالم: لا تقترب من ملف الكهرباء ولا نصوص الدستور    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    وزير الدفاع الإسرائيلي: من يضربنا سنضربه سبعة أضعاف    «كاك بنك» يدشن خدمة التحصيل والسداد الإلكتروني للإيرادات الضريبية عبر تطبيق "كاك بنكي"    ريال مدريد يحقق فوزًا ثمينًا على سيلتا فيغو    وفاة طفلتين غرقا بعد أن جرفتهما سيول الأمطار في صنعاء    الدكتور أحمد المغربي .. من غزة إلى بلجيكا.. طبيب تشكّل وعيه في الانتفاضة، يروي قصة الحرب والمنفى    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    92 ألف طالب وطالبة يتقدمون لاختبارات الثانوية العامة في المحافظات المحررة    يفتقد لكل المرافق الخدمية ..السعودية تتعمد اذلال اليمنيين في الوديعة    لاعب في الدوري الإنجليزي يوقف المباراة بسبب إصابة الحكم    السعودية تستضيف كأس آسيا تحت 17 عاماً للنسخ الثلاث المقبلة 2026، 2027 و2028.    الأهلي السعودي يتوج بطلاً لكأس النخبة الآسيوية الأولى    مع المعبقي وبن بريك.. عظم الله اجرك يا وطن    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    - حكومة صنعاء تحذير من شراء الأراضي بمناطق معينة وإجراءات صارمة بحق المخالفين! اقرا ماهي المناطق ؟    "ألغام غرفة الأخبار".. كتاب إعلامي "مثير" للصحفي آلجي حسين    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    مانشستر سيتي يقترب من حسم التأهل لدوري أبطال أوروبا    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة بن عبدات في مدينة الغرفة بوادي حضرموت " 1924 – 1945م "
نشر في عدن الغد يوم 05 - 03 - 2018

يختلف الباحثون والمؤرخون في تحديد هوية وطبيعة الحركة التي قادها عمر عبيد بن عبدات الكثيري في مدينة الغرفة الواقعة وسط وادي حضرموت وعلى بعد عشرة كيلومترات من سيؤن، والتي سيطرت على المدينة من 1924م وحتى 1945م بعد ان اجهضت الحركة بالقوة واعيدت المدينة الى سيطرة السلطنة الكثيرية.

لقد كانت حركة بن عبدات فعل ثوري حقيقي متكامل الاركان، تضافرت فيه المواقف الوطنية المعادية للسيطرة الاستعمارية مع الرؤية الاجتماعية المنحازة للفقراء، و دفعهم وتشجيعهم على التعليم، ومواجهة الفقر بسياسة اقتصادية فعالة اساسها تشجيع وحماية المنتجات الحرفية المحلية، وتوسيع دائرة المشاركة والائتلاف الوطني عبر اشراك العناصر المتنورة والمثقفة في المواقع القيادية، كل ذلك يترافق مع بناء قوة امنية من ابناء المدينة والقبائل الحليفة المحيطة بها تتولى حماية المدينة وامن وسكينة سكانها.

كل هذه الاجراءات والخطوات التي اتبعها بن عبدات وثم المواقف التي اتخذها في مواجهة المخططات الاستعمارية ورفضه الاستسلام لها بل ومواجهتها بالسلاح وتقديم التضحيات الغالية اذا لزم الامر، تدحض الافتراءات التي ساقها بعض المؤرخين للتنقيص من صدق وسلامة التوجهات الوطنية لبن عبدات بالقول انها نابعة من طموحات ذاتية لفرض نفسه سلطانآ ثالثآ على حضرموت تحت المظلة والتبعية للمخططات الاستعمارية البريطانية. وهولاء يتجاهلون ( عمدآ ) المواجهات المسلحة التي خاضها بن عبدات ضد محاولات فرض الاستسلام عليه، في حين كان بإمكانه الدخول في لعبة المناورات السياسية التي لا تنتهي والخروج بمكاسب شخصية ستقدمها له بريطانيا بكل ترحيب نظير ضمان تبعيته لمخططاتها.

لقد كانت لبن عبدات رؤى وطنية لمستقبل الغرفة اقلقت الاستعمار والحكام الاقطاعيين ودفعتهم لإستخدام القوة المفرطة لقمع حركته المتمترسة بمدينة صغيرة كالغرفة التي لم تتردد القوى الاستعمارية والاقطاعية قصفها بالمدفعية الثقيلة في كل المواجهات التي حدثت تقريبآ، فيما استخدم الطيران الحربي بكثافة ثلاث مرات على الاقل، وهذا دليل على انزعاج ومخاوف لدى هذه القوى من قوة المثل الذي يقدمه بن عبدات والخوف من انتشاره وتأثيره على قطاع اوسع من السكان، لذلك كان التحرك العنيف للجمه وانهائه.

بدأت احداث هذه الملحمة الوطنية الرائعة عام 1924م عندما عاد عمر عبيد بن عبدات الكثيري وهو من قبيلة أل عمر الشنفرية الى ارض اجداده قادمأ من ارض المهجر " إندونيسيا " حيث صنعت اسرته ثروة كبيرة جعلتها في مصاف الاسر الحضرمية المهاجرة الاكثر ثراء، فهاله ما رآه من احوال مدينة الغرفة التي كانت مهملة تمزقها صراعات قوى من خارجها ويعاني اهلها الامرين من غياب السلطة الكثيرية وانعدام الامن، ومن تطاول الاقوياء على الضعفاء وحقوقهم وعجز السكان عن حماية انفسهم من صراعات بين القبائل من خارجها جعلوا من المدينة ميدانآ لتصفيتها، فقرر ان يأخذ زمام الامر بيده، وتجمع حوله الكثير من الفئات والمناصرين الذين رأوا في سيطرته على الغرفة مخرجأ من المعاناة الكبيرة التي يعانيها مواطنوها.

فكان اول عمل قام به هو تحصين المدينة ببناء سور منيع تحميه مجموعة من القلاع والحصون المعززة بالحراسات المسلحة لتأمين اطراف المدينة ومداخلها، فيما فرض الامن داخل المدينة وضرب على ايدي العابثين بالنظام والمتطاولين على املاك الناس، ومنع افراد القبائل من حمل السلاح داخل المدينة فيما عدا حمل الجنابي فقط اما البنادق فقد لزم عليهم تركها لدى حراس البوابتين الرئيسيتين اثناء التواجد داخل المدينة.

وقد اعتمد بن عبدات في انشاء قوة مسلحة على امكانياته الذاتية في شراء السلاح وعلى دعم وتأييد سكان الغرفة في تقديم متطوعين. والاعتماد الاكبر كان على العبيد المعتوقين من قبله وعلى قبائل الحموم المعروفين بعدائهم الشديد للسلطنة القعيطية وعدم ولائهم الكامل للسلطنة الكثيرية، وعلى بعض الافراد من قبائل الصيعر ونهد ومنطقة حجر.

ومن الاجراءات التي زادت من شعبيته تخصيص اموال لدعم المشاريع الخيرية وتقديم المساعدات المنتظمة للفقراء والمساكين والارامل والعجزة والمحتاجين من سكان الغرفة، وتشجيع التعليم لكل ابناء المواطنين دون تمييز من خلال انشاء مدرسة على نفقته الخاصة مع تقديم المساعدات المالية واللوازم المدرسية للتلاميذ الفقراء. كما عمل كذلك على تنشيط وتنظيم الحركة التجارية في مدينة الغرفة حيث سك لهذا الغرض عملة فضية للتداول بين الناس في العمليات التجارية، وحافظ على على حرية الحركة التجارية في المدينة، وشجع الانتاج الحرفي، ومنع فرض القيود والضرائب على المنتوجات المحلية او البضائع المجلوبة الى الغرفة لأغراض التجارة. وبهذه الاجراءات استعادت الغرفة مركزها التجاري المرموق في الوادي بحكم موقعها الوسط بين شبام وسيئون، واصبحت القوافل التجارية الكبيرة المحملة بالبضائع ترد اليها من مختلف مناطق حضرموت. ( انظر: محمد سعيد داؤود – وثائق الندوة العلمية حول تاريخ المقاومة الشعبية في حضرموت- كلية التربية المكلا- 25/26 فبراير1989م ).

ودعمآ للاستقرار في المدينة دعا بن عبدات الفخائذ الكثيرية المجاورة للغرفة الى مساعدته في حفظ الامن والنظام في المدينة وما حولها وسعى الى وضع حد للصراعات فيما بينها، لكن تلك الجهود لم تثمر إلا بصورة جزئية، حيث قدم محمد عامر بن منيباري الكثيري ذو الميول الاصلاحية الدعم والتأييد لإبن عبدات في صراعه مع خصومه. كما مالت الى جانب بن عبدات ايضآ فخيذتان كثيريتان هما: آل كده وآل عبدالعزيز. واستطاع بن عبدات ان يكسب الى صفه محمد بن شعبان الواقعة منازله الى الشرق من الغرفة على مقربة من حصون آل الفاس واصبحت مواقع متقدمة لصد الاعتداءات والهجمات على الغرفة.

وبفضل السياسات الاصلاحية الواضحة التي انتهجها بن عبدات اصبحت الغرفة موقع استقطاب للعناصر الوطنية المتنورة ذات الافكار التحررية المناوئة للاقطاع بشقيه الاجتماعي والديني المدعوم من الاستعمار. من تلك العناصر على سبيل المثال: المفتي محمد عبيد بن عمر عبود والقاضي محفوظ سعيد بن ثابت المصلي. كما قام بن عبدات ببناء علاقات وثيقة مع عدد من رجال الادب والفكر والثقافة المؤيدين لنهجه الاصلاحي في وادي حضرموت والمكلا وعدن من ابرزهم: الشاعر عوض باوزير بالغيل وابوبكر عبدالله بارحيم بالمكلا والشيخ صالح علي بارحيم والمحامي محمد علي لقمان والشيخ محمد بن سالم البيحاني بعدن... وغيرهم.

واطل عام 1939م وبريطانيا تعيش نذر الحرب العالمية الثانية وتسابق الزمن لترتيب شؤون مستعمرتها في الجنوب. حيث ضغطت على السلاطين والشيوخ لتوقيع معاهدات الاستشارة التي تجعل من الضابط السياسي البريطاني المقيم حاكمآ فعليآ. فقد وقع السلطان جعفر بن منصور الكثيري على معاهدة الاستشارة التي جعلت من الضابط السياسي انجرامز مستشارآ مقيمآ للسلطنتين القعيطية والكثيرية بالاضافة الى وظيفته كمعتمد بريطاني لمحمية عدن الشرقية.

وشعر انجرامز ان الوقت صار مناسبآ لوضع حد لما اسماه " تمرد بن عبدات " واستغلال ماتصوره حالة عدم التوازن التي تعيشها الحركة بسبب وفاة ممول الحركة وراعيها صالح عبيد بن عبدات في اندونيسيا في فبراير 1939م ثم تلاه وفاة قائد الحركة عمرعبيد بن عبدات في الغرفة في يونيو من نفس العام، وحلول ابن اخيه عبيد صالح عبيد بن عبدات الذي قدم من ارض المهجر لقيادة الحركة بدلآ عن عمه. واختار انجرامس ان يبدأ بضرب المواقع الرئيسية لقبائل الحموم المؤيدة لبن عبدات في الحصن المنيع للمقدم علي بن حبريش في غيل بن يمين.

ففي 15 نوفمبر 1939م قامت وحدات من جيش المكلا النظامي بقيادة انجرامز شخصيآ بمهاجمة غيل بن يمين حيث اندلعت معركة عنيفة شاركت فيها الطائرات البريطانية بقصف مواقع الحموم بوحشية مما ادى الى اندحارها. فتوجه انجرامز بعدها مباشرة نحو الغرفة حيث قاد بنفسه اول هجوم عسكري واسع عليها مستخدمآ في ذلك وحدات من جيش المكلا النظامي تمركزت في حصون آل الفاس الواقعة الى الشرق من مدينة الغرفة. لكن بفضل تلاحم السكان والمدافعين وشجاعتهم في التصدي للهجوم إندحرت القوات المعتدية، فحولت القيادة البريطانية اتجاه الهجوم على الغرفة عبر طريق " مدوده " الا ان انصار بن عبدات تمكنوا من صد الهجوم بل والقوا القبض على قائد القوة المهاجمة البريطاني الذي اطلق سراحه بن عبدات بعد ذلك. ( محمد سعيد داؤود – مرجع سابق )

وظلت المواجهة السياسية على اشدها حيث وقف بن عبدات على راس المعارضين لمشروع انجرامز إرغام قبائل حضرموت تمديد اتفاقية الهدنة بينها لمدة عشر سنوات ( 1940 – 1950 ) لكي تتفرغ الدولة البريطانية لإنشغالات الحرب الكونية التي تخوضها. فوجد انجرامز ان تلك فرصة سانحة لجعل بن عبدات عبرة لكل من تسول له نفسه تحدي الارادة البريطانية في المنطقة فقامت الطائرات البريطانية بقصف مدينة الغرفة لمدة ثلاثة ايام، لكن المقاومة الباسلة وتصدي بدو الحموم المتمركزين على اعالي الجبال والقلاع الواقعة على المرتفعات منعت الطائرات من التصويب الدقيق على اهدافها.

وتمسك بن عبدات بموقفه المعارض رغم التلويح بالقوة العسكرية في مواجهة ما اعتبرته السلطات البريطانية تمردآ. فوجه انجرامز تحذيرآ الى سكان مدينة الغرفة بوجوب إخلاء المنازل والحصون والابتعاد عن المنطقة التي ستتعرض للقصف الجوي المباشر بدءآ من فجر الاربعاء 24 إبريل 1940م. لكن هذا التحذير لم يلق استجابة تذكر فنفذت السلطات البريطانية تهديداتها ضد بن عبدات حيث قامت تسع طائرات "فنسنت" قاذفة للقنابل بقصف الغرفة واحدثت بها دمارآ كبيرآ وترافق القصف مع محاولة فرق من جيش المكلا النظامي إقتحام المدينة الا انها فشلت واضطرت الى التراجع تحت ضربات المدافعين عن المدينة.

بعد إخفاق هذه المحاولة عرض انجرامز على بن عبدات مشروع هدنه بينهما لمدة ثلاثة اشهر يتم خلالها بحث حل المشاكل بينهما بالطرق السلمية، ووافق بن عبدات على المقترح شريطة ان تلتزم به جميع الاطراف ( أي خصوم بن عبدات وهم السلاطين و الفخائذ الكثيرية الاخرى ) فتم التوقيع على هذه الهدنة في 23 مايو 1940م.

وباصرار بن عبدات على مواقفه ورفضه للمطالب البريطانية، شرعت السلطات الاستعمارية بتنفيذ سياسة حصار شامل ضد الغرفة عبر فرض رسوم جمركية على البضائع والمواد الغذائية التي كانت تنقلها الجمال الى المدينة وكذلك من خلال حجز التحويلات المالية المرسلة عبر بنوك عدن الى بن عبدات من املاكه في جزر الهند الشرقية. وامتد الحصار الاقتصادي ليشمل كذلك قبائل الحموم حيث اتفقت الحكومتان القعيطية والكثيرية على مقاطعة قبائل الحموم ومنعهم من الدخول الى المناطق الشنفرية والقعيطية او المرور بها مع حرمانهم من كافة المنافع واهدار دمهم ومعاقبة كل من يتعاون معهم.

وقد حقق بن عبدات عدد من النجاحات والاختراقات للحصار الذي وضعت تحته الغرفة وحلفائها فقد تمكن بالاعتماد على البرجوازية التجارية الحضرمية النامية وخاصة تجار شبام و القطن وعلى رأسهم التاجر عبدالله عبيد بامطرف واخوانه الذين قاموا بارسال كميات كبيرة من المواد الغذائية والبضائع التي نقلت في الليالي المظلمة بواسطة الجمال الى الغرفة. كذلك قدم تجار شبام لإبن عبدات مبالغ مالية كبيرة مقابل حصولهم على تحويلات مالية باستلام هذه المبالغ من وكلائه باندونيسيا وسنغفورة. وقام باعادة بناء البوابة الرئيسية للمدينة واصلاح جدران السور والحصون والمنازل التي تهدمت من جراء القصف الجوي البريطاني. وكان لكل هذه الخطوات تأثير ايجابي على معنويات المقاومين والمواطنين والمناصرين لإبن عبدات.

لقد شعرت السلطات الاستعمارية انها تواجه نمطآ غير مألوف من التمرد، لذلك قررت ان تلجأ الى وسائل استثنائية في اخماده والقضاء عليه قبل ان يستفحل ويمتد تأثيره الى مناطق اخرى. وبدأت الخطوات العملية في 13 نوفمبر 1944م باصدار الحاكم العام في عدن السير برنارد رايلي الاوامر لقائد القوات الجوية البريطانية بقمع وانهاء " تمرد بن عبدات ". وفي 20 يناير 1945م استكملت خطة الهجوم على مدينة الغرفة وتم تحديد القوات المكلفة بانجاز المهمة التي تتحدد في : الاستيلاء على الغرفة وتجريد المقاتلين من السلاح وإخلاء جميع انواع الاسلحة وازالة السور الخارجي مع اقامة نقطة عسكرية لجيش المكلا النظامي. -- إلقاء القبض على عبيد صالح عبيد بن عبدات والبحث عنه في حال تمكنه من الهرب. - الاستيلاء على الدور التي يمتلكها بن عبدات في وادي حضرموت وشمال مدينة الغرفة وازالتها.

وفق الخطة الموضوعة وجه السير فنسنت جلينداي الذي حل محل انجرامز كمستشار، انذارآ اخيرآ لعبيد صالح بن عبدات في 23 يناير 1945م تضمن ما يلي:
- الاستسلام تحت الضمانة البريطانية دون قيد او شرط مقابل السماح له بحرية العيش في مستعمرة عدن وتقديم التعويض المالي المناسب. - فتح ابواب الغرفة وتسليم الاسلحة والذخيرة.
- مدة الانذار سبعة ايام من تاريخ استلامه .. وفي حالة عدم الاذعان ستستخدم القوات العسكرية لفرضه.

وفي 11 فبراير 1945م نقلت القوات العسكرية المكلفة بتنفيذ اوامر اقتحام الغرفة وتتكون من سريتين تابعتين لكتائب جيش محمية عدن الغربية ( جيش الليوي ) مع ثلة من جيش الهند التابع لولاية حيدر اباد، مجهزة بالمدرعات والسيارات العسكرية والمدافع الثقيلة، تحت قيادة الكولونيل دي . جي . إيجرتون من قوة حيدر اباد لانسرز. وبعد سلسلة من المناورات والتحركات العسكرية بدأت القوات الحكومية في فجر يوم 6 مارس 1945م الهجوم العسكري على الغرفة، وبالرغم من اقتحام المدرعات لأبواب المدينة وعجز البنادق عن ايقافها او تعطيلها استمرت المقاومة، وتحت القصف المدفعي للمدينة من كل الجهات وبتغطية من المدرعات استطاعت القوات الحكومية السيطرة على المدينة واستسلم عبيد صالح بن عبدات. وفي اجتماع قصير بين عبيد صالح بن عبدات وجلينداي تقرر ترحيل بن عبدات الى عدن بالطائرة ومنها نفته بريطانيا الى اندونيسيا حيث وافته المنية في جاكرتا عام 1963م.

هذه هي صورة الاحداث في تفصيلها العام كما اجتهد الدكتور محمد سعيد داؤود في تجميعها وتقديمها لأول مرة في الندوة التي نظمت في كلية التربية في حضرموت عام 1989م، لكن بين هذه الوقفات العامة الكثير من التفاصيل المذهلة التي تؤشر على فرادة وتميز هذه الحركة والعقل السياسي الذي ادارها مما يفسر كل هذا العنف الذي لجأ اليه المستعمر لوقفها وانهائها. لقد جاء عمر عبيد بن عبدات من اندونيسيا حيث عاش سنوات اغترابه وهي بيئة مشبعة بالصراع السياسي وتتجاذبها قوى وافكار سياسية متنوعة تأثر بها هذا المغترب وتجلت له بأبعادها ومعانيها عندما وجد نفسه وجهآ لوجه مع الواقع لحظة الاختيار. لذلك كانت مواقفه متميزه وخياراته ذكية لم يألفها المستعمر وحملت في داخلها نوايا لايمكنه ان يقبلها لذلك كان الحسم بتلك القوة وذلك البطش.

ونحن نقف اليوم على مشارف الذكرى المئوية لهذه الحركة ( 2024م ) نظل في حاجة الى دراستها بصورة اعمق وان نتعلم ان لا نقبل كل ما يقدم لنا من تفسير لأحداث جسام في تاريخنا من ذوي المآرب والغايات التي تهدف الى النيل من نضالاتنا الوطنية وتفسيرها بانها مجرد مواقف ذاتية هدفها تحقيق مصالح آنية وذلك خدمة للتوجهات المشبوهة التي تهدف الى تزييف وعينا الوطني وحرفه باتجاه خدمة مصالح ومطامع الغير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.