لا أستطيع أن أحدد كم من الزمن قد مضى منذ أول مرة رأيت واستمعت فيها إلى الفنان عبود زين (الخواجة). كان ذلك، على ما أذكر، في حفل زواج (مخدرة) في أحد أحياء مدينة الحوطة/ لحج، أحيتها فرقة الوهط الموسيقية، وكان أحد الفنانين المشاركين فيها طفل صغير لم يتجاوز عمره الثلاثة عشر عاماً. أتذكر أنه بعد أن أنهى هذا الطفل (الفنان) وصلته الغنائية، التفت إلي الأستاذ الفاضل حسين عبد الهادي ليسألني عن رأيي فيه، فأجبته: واعد، إن شاء الله. كنت وغيري، قبلها، نسمع عن هذا الطفل الموهبة الذي ظهر في قرية الوهط ... هذه القرية التي- على حد تعبير الأستاذ القدير نجيب يابلي- تميزت عن غيرها من مدن وقرى البلاد بإنجاب عدد من النوابغ والمبدعين يفوق حجمها كقرية أو مدينة صغيرة. نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، أحمد زين السقاف، أبوبكر السقاف، عمر الجاوي ومحمد صالح حمدون.
وتمر الأيام ويكبر هذا الطفل، وتكبر معه موهبته، ونسمع عن تألقه وصعود نجمه في سماء الغناء وكذلك عن تزايد معجبيه حتى بات يزاحم فنانين آخرين على المرتبة الثانية من حيث عدد حفلات الزواج ( المخادر) التي يحييها كل منهم. ذلك-طبعاًً- بعد فارس الأغنية أللحجية وغريد تبن، خالد الذكر، الفنان فيصل علوي- رحمة الله عليه.
لقد تمتع الفنان عبود بصوت شجي وجميل، ذي نكهة طربية خاصة تميزه عن غيره من المطربين. هذه الميزات الصوتية مكنته، وفي وقت مبكر، من إجادة ألوان الغناء المعروفة: الصنعاني، اليافعي، اللحجي والحضرمي، وبالتالي مقدرته على تقديم ما تشتهيه أذواق مستمعيه من هذه الألوان الغنائية.
وحين اضطرته الظروف إلى الهجرة، بسبب سياسة التهميش والتطفيش التي انتهجتها سلطات الاحتلال اليمني في التعامل مع أبناء الجنوب في مختلف المواقع والمجالات، تمكن الفنان عبود من جعل تلك الهجرة بداية انطلاقة جديدة في مساره الفني. حيث كان لتوفر الإمكانات في بيئته الجديدة- مثل الآلات الموسيقية الحديثة والمتطورة، والعازفين الماهرين، وكذلك الموزعين الموسيقيين- أثره الواضح في تطوير أدائه وألحان أغانيه، وأدى بالتالي إلى انتشار أغانيه وتوسع قاعدة معجبيه في داخل الوطن و خارجه.
وإذا كان للهجرة هذا الأثر الطيب على مشوار عبود الفني فإنها لم تنسه وطنه ولم تلهه عن متابعة معاناته... وكيف له أن ينساه وقد رآه وجحافل الغزاة يحتلون أرضه ويجعلون من منشآته ومرافقه فيداً لهم وغنيمة حرب .كما لم تسلم ثرواته من أياديهم العابثة ,فاقتسموها بينهم وأقصوا وهمشوا أبناء الأرض وأصحاب الثروة من الجنوبيين.
لقد حمل الفنان عبود هم الجنوب في قلبه وعقله وانتصر لقضيته, وكان انحيازه الكامل إلى جانب أهله الجنوبيين وحقهم في استعادة دولتهم المغتصبة نابعاً من إحساسه بمدى الظلم الذي يعانون منه والواقع المرير الذي يرزحون تحته خاصة من بعد حرب صيف 94 الظالمة. إن الدور الهام والبارز الذي لعبته أغاني عبود الوطنية في مسيرة الحراك الجنوبي وتوسيع قاعدته –لاسيما بين أوساط الشباب- لا يمكن تجاهله. إذ لا يكاد يخلو جوال شاب جنوبي في الحراك أومن أنصاره من تلك الأغاني. كما أنه والحراك صارا متلازمين فحين يذكر الحراك يذكر عبود, ولا تقوم مسيرة أو يعقد مهرجان إلا وعبود يصدح فيها بأغانيه تلك التي تلهب حماس الجماهير وتوجج غضبهم على من أحتل أرضهم . وعليه، فقد أدركت سلطات الاحتلال المكانة التي يحتلها عبود في قلوب جماهير الحراك, كما أزعجتها أغانيه وأرقت أزلامه, ولذلك فإنه ليس من المستغرب ألا يُسمح لعبود بزيارة وطنه ورؤية أهله أو أن يُمنع سماع أو تداول أغانيه. بل وبلغ الأمر إلى حد تهديد حياته في مهجره البعيد – بعد أن رأت بأن سياسة الترهيب والترغيب لن تجدي معه- لقد وصلت، أيضا، درجة حقد النظام وأجهزته القمعية على الفنان عبود وأغانيه ومعجبيه من جماهير الحراك الجنوبي إلى درجة تجريم أي مواطن (جنوبي) يستمع إلى أغاني عبود في العلن أو حتى يحتفظ بصورة له في جيوب ملابسه أو جواله. إذ كثيراً ما يتعرض هذا المواطن إلى الضرب المبرح ومصادرة الجوال. كما تعرض شباب لإطلاق الرصاص الحي عليهم لا لشئ إلا لأن أغاني عبود كانت تنبعث من مسجلات دراجاتهم النارية أو سياراتهم. ولذلك فقد أفسحت جماهير الحراك مكانة لعبود في قلوبهم أولاً، وبين رموز ثورتهم السلمية وقياداتهم الميدانيين، ثانياً. كما أنه ليس من الغريب أن تختلف قوى الحراك الجنوبي على مكانة أحد قياداتها, غير أنها –في ظني – لن تختلف على عبود كرمز لا ينافس في محبته ومكانته. إنها كاريزمية الفنان تلك التي حققها واستحقها عبود عن جدارة. لقد صاغ عبود أغانيه الوطنية من ذوب إحساسه .بمعاناة أهله في الجنوب وكذلك من زخم الحراك المتصاعد الذي تخلق في رحم تلك المعاناة ... هذه المعاناة التي تمثلها شعراء الحراك من مختلف المناطق الجنوبية وتناولوها في أشعار بسيطة، جميلة وقوية, فأنتج ذلك التزاوج طرباً جميلاً... وطنياً وثورياً في المقام الأول، صادقاً في تعبيره عن معاناة شعب الجنوب وقوياً في رفضه للاحتلال ومحفزاً للجنوبيين على الثورة عليه. ولقد واكبت أغاني عبود الوطنية مسيرة الحراك السلمي الجنوبي وعبرت عن قيم هذه الثورة المتمثلة في التصالح والتسامح التي جعلها الجنوبيون قاعدة ومنطلقاً لحراكهم السلمي الرافض للواقع، ولتناسى أخطاء ومآسي الماضي, وعملت على كشف جرائمه وفضح مخططاته الخبيثة تجاه الجنوب والجنوبيين. كما أنها تحث الجنوبيين على التلاحم والتوحد في مواجهة التحدي الصّعب الذي يقف أمامهم والمتمثل في انتزاع الاستقلال واستعادة الدولة الجنوبية . هذا وإن أبرز ما يميز أغاني عبود الوطنية هي الكلمات البسيطة والألحان الجميلة وكذلك التوزيع الموسيقى الرّائع, الأمر الذي ساعد على تقبلها وسهل انتشارها. إن الفنان عبود يعد مثلاً يُضرب في الالتزام لقضايا الوطن التي آمن بها وتحمل من اجلها كل عناء ,والتي ،أيضاً، كرس لها ما يستطيعه من جهد ومال, فاستحق بذلك تلك المحبة التي جاشت بها قلوب الجنوبيين. فهنيئاً لعبود ذلك الحب العظيم، وهنيئاً للجنوبيين هذا الفنان الرائع والوفي.