هل ينجح هذا الجيل في تصميم نهاية تطيح بسلطة إقطاعيات متعددة الرؤوس تساوم بين بقائها وهلاك اليمنيين ؟ أم أنه خرج يتملق الماضي ويجدد البيعة ل( حاشد) ؟ من يقرر مصير البلاد الآن (الحداثيون) أم أؤلئك الذين لا يزالون يستحضرون مقاربات على شاكلة( الغزو الفكري) ويختزلون العالم الغربي ضمن كلمة (نصارى)؟ أريد القول ببساطة إلى أي مدى نحن فريسة ل "تجار الحروب"؟ كانت التصريحات النارية، واتهام الرئيس صالح لعلي محسن الأحمر – بعد انشقاقه عن الجيش- بافتعال الجولات الثلاث الأخيرة من حرب صعدة، قد هتكت بعض الأستار عن واحدة من أكثر أنواع الأنشطة التجارية سرية وخطورة. وليس من المنطق في شيء أن نستمر في رفع رايات سود لعهد أسود أو التصفيق لرجال الأشياء المخيفة، التي تدمر وتقسو، أو ذلك النوع من الرجال الذي نستطيع اختزال سيرته الذاتية بمجرد(قاتل) لا أكثر. الحرب لن تخدم أحدا، الحرب سيئة لأنها تصنع المزيد من القتلة، والمخيف أننا لم نتجاوز- بعد- انعكاسات الحروب العبثية الماضية، ما يعني بالضرورة أن حربا في هذا التوقيت ستكون بمثابة وضع جرعة قاتلة في جسد وطن مريض منهك أصلا. حتى كتابة هذه السطور، ما زلت مؤمنا بأن الطريقة التي ستنتقل بها السلطة هي التي ستحدد ملامح المستقبل. فإن هي انتقلت عن طريق العنف والفوضى، قد يعني ذلك (مرور سلس إلى الحفرة)، وإن هي انتقلت بشكل سلمي ومنظم وهادئ، فنحن قادمون على مستقبل واعد ومشرق ومتألق. (لا أقصد بالضرورة انتقالها من جناح إلى جناح داخل النظام نفسه، بل نقلها إلى الشعب مصدر السلطة ومالكها). أعترف بأنني لست ثائرا في ثورة يقيس حراسها مدى ثوريتك بنسبة عدائك للرئيس وعائلته، وأيضا بنسبة استخدامك لخطاب مسف ومبتذل في ما تقول أو تكتب عنه، وتوقفت عند نقطة رحيل شخص صالح كمعيار وحيد لمدى نجاحها. لكم الحق في أن تسجلوني هكذا: أنا صحفي أعتبر نفسي مستقلا مع انحيازي الشديد للتغيير العميق والمتدرج على جميع الأصعدة، ولست مستعدا لأصبح نسخة رديئة من الدكتور عبد الله الفقيه. وغرضي من هذه العبارة هو الإشارة إلى المأزق العميق الذي وجدت الثورات نفسها عالقة فيه بدون سابق إنذار. وربما المسألة لها علاقة بتدشين الحرب على "النفاق" الذي سبق نجاح الثورة، اللحظة التي دخل فيها الثوار دوامة لا نهائية من التشكيك في الآخر، وبالذات أصحاب الطرح (المدني)، وكانت النتيجة أن التهمت الثورة أبنائها, وانتهت إلى مرحلة تراجيدية فظيعة من مراحل النماذج الثورية الكلاسيكية، تلك المرحلة التي يطلق عليها المؤرخون "الرعب الثوري" أو "الإرهاب الثوري." علينا أن نمتلك الجرأة الكافية للاعتراف بأن الثورة استشهدت بعد بضعة أسابيع من ولادتها ككل الذين استشهدوا في سبيلها .. وأنها براء من كل المزادات السياسية التي تعقد اليوم باسمها، وكل الفظاعات التي يرتكبها اللصوص والمرابون تحت رفرفة قميصها الأحمر المنسوج من أشرف الأشلاء. لا جديد على أي مستوى. كل هذا الخراب كان متوقعاً وحادثاً قبل أن يحدث على هذا النحو السافر المعادي للثورة التي كادت تنسف كل قواعد اللعب التوافقي وتطيح بجميع اللاعبين في سلطة إقطاعيات متعددة الرؤوس، وكادت أن تنجح أيضا في تصميم نهاية عادلة بحق عصابة تساوم بين بقائها وبين هلاك اليمنيين وتدمير دولتهم. وانتهت إلى ما يشبه عملية قيصرية نقلت كل رجال النظام من سفينة الرئيس إلى سفينة الثورة، ليغرق الرئيس وحده. غالباً ما ينجز الحمق أبطالا بيروقراطيين, لقد تعمد (حميد) تصوير الشباب على أنهم مجرد قطيع يسوقه الرجل الحالم ذاته، وكأن عدسة ما لم تلتقط حضورهم الهائل على متكأ رصيف الشارع المحاذي لجامعة صنعاء. لم نخرج لنجدد البيعة لحاشد . لطالما أردنا البحث عن هوياتنا في حياة تتألم، فحولولنا إلى تمثيلية هادفة. وخرجنا بحثاً عن حياة بلا أسقف ولا مغالق؛ غير أنهم حشرونا في إطار شخصية ألفها متعهد ملصقات. ورطونا في الكراهية وانتظار العواقب.. ورطونا في التخلي عن رغباتنا المرتعشة على عتبات من نحب.. لا يدعك الكريهُ تحتفي بأشيائك، ثورتك، مدنيتك، وحتى مراهقتك. ذات يوم قال الدكتور ياسين سعيد نعمان ما معناه: أنه يجب إدراج حاجة هذا الجيل ضمن مشروع الإصلاح السياسي برمته.. ما أريده في هذا الموضوع هو أن نزاهة الدكتور ياسين وروحه المتفهمة لم تعودا كافيتين. نحتاج أن نقوم نحن بإدراج حاجة جيلنا كما نفهمها نحن لحظة إدراجها. تتباين الدوافع بيننا وبينهم، وتتباين طرق الإشارة للأشياء واستخدام الكلمات ووقع الكلمات ذاتها على الذهن. السياسة تدور حول تسوية متعذرة تماماً لأنها تسعى لتقريب مطالب الماضي ببعضها والحصول على ضمانات من ذلك النوع الذي يسعى إليه رجال يفكرون على الدوام في متاعب السكري . المقالات التي يكتبها محمود ياسين ونايف حسان ونجيب غلاب وصلاح الدكاك وآخرون عن الدولة المدنية هي في ذهنية الزنداني وصعتر ودحابة والانسي واليدومي وحسن زيد ومحمد قحطان (علمانية محفوفة بالمخاطر.) أقسم أن كثيرين من الذين يقررون مصير البلاد الآن يختصرون العالم الغربي ضمن كلمة (نصارى). العالم ينكمش. وهم يستحضرون مقاربات على شاكلة "الغزو الفكري"، و"الامبريالية"، لتفسير مفاهيم ونزعات ما بعد الحداثة إن أسوأ ما يمكن أن يتعرض له بلد هو: رهن مصيره بيد مجموعة لا تزال تكن ل(بن علوان) احتراما شديدا. وبالتالي فمن غير المعقول مطالبتهم بتملق هذا الجيل وحاجاته.. إذ كيف تطالب (بدائيين) بتملق (جيل) يشعرون بخطره ؟ ثمة حقل ثقافي محكم الطوق على ذاته هنا.. يبدأ من قبيلة بكل توحشها ويتوسطه إسلام سياسي مداهن لا يخفي في بعض الأحيان أنيابه الصفراء و ينتهي برجال الجيش من ذوي السمعة الملوثة. الثورة كانت تحاول في مرحلة من مراحلها المتقدمة القضاء على هذا المثلث لإقامة دولة مواطنة تختفي بها الطبقية أمام دستور لا تعترف إلا بالإنسان، الآن تعاني من كساح واضح بسبب انتقال هذا الثالوث المهيمن بجميع أضلعه ليس إليها وإنما لقيادتها، وشكل ما يشبه منعطفا إضافيا سيئا أمام مرحلة من المراحل. المخيف في الأمر، هو أن تبقى الأحزاب اليسارية - اشتراكية وقومية - تحت هيمنة الحزب الخليط - دين وقبيلة. فقد تجد الثورة نفسها - آخر المطاف - ثورة مغدورة تسير بخفة مراهقة إلى العصور الوسطى وليس إلى أي مكان آخر . أليس من الحمق أن هذه الثورة تدافع عن شيخ قبيلة يمتلك أسلحة تضاهي أسلحة الدولة بحجة أنه فقط انضم إلى الثورة.؟ بدلا من الدفاع عن حق اليمنيين في دولة مدنية حقيقية، يقيمها الشباب الليبرالي ذوو الفكر التحرري والتقدمي بعد تنحية العسكر القديم عن سدة المشهد، فتجربتهم كانت كافية وسيئة بما يكفي . كم يبدو من الصعب أحيانا التعاطف بطريقة ما مع رجل بوده لو يصبح في يوم ما سياسيا.. من غير أن تضطر ولو للحظة إلى التمويه في الدفاع عنه، أو الاحمرار خجلا من كونك تؤيد الشخص الخطأ المليء بالغموض والنقائص والمتناقضات. الثورة لم تحدد موقفا صرحيا من الدولة المدنية كهدف محوري، في اتجاه تأكيد ضرورة أن تفضي إليه، ولا أدري حقا أين ذهب حماسها لتعديلات تشريعية، دستورية وقانونية، تدعم الحضور الحقيقي للدولة المدنية بما يحول دون التأسلم السياسي، ويوقف النمو السرطاني لنقائض الدولة، وهذا نابع من إيماني بالدولة المدنية ودفاعي عنها، فلا مبرر، أبداً، لعقاب صحفي على فكره المدني، في ثورة بدأت (ليبرالية) غير أنها لم تكن ذكية بما يكفي لحماية خط الدفاع الأول لها، وهم مثقفوها المدافعون عنها. وربما دفاعها عن الماضي هو سر تراجعها المستمر عن الخطوات الحضارية التي دفعتها إلى الأمام، في الأيام الذهبية، لذلك ليس غريبا أن تُجمع الشرعيتين (الدستورية والثورية) على رأي سلبي شاع في أزمة الهزائم الكبرى "منع الاختلاط فقط". ضمن استخدام الدين بوصفه قناعا، وهذا هو أكثر أشكال التدين إسفافا وغباوة. أعلم تماما أن الاتفاق على "منع الاختلاط" هو الخبر الوحيد السار بالنسبة لكم من بين كل هذه الأخبار المفزعة.. أليس كذلك؟ إني أسأل فقط . [email protected]