أحمد ابو صالح بعد مضي تسعه أشهر ونيف على بدء ثورة الاحتجاجات الشعبية ضد الرئيس اليمني علي عبدالله صالح المطالبة إياه بمغادرة القصر الرئاسي والرحيل عن البلد الذي حكمه لأكثر من 33عام لابد من الاعتراف بدهاء وبراعة هذا الرجل وإبداء إعجاب شديد بتعامله مع مجريات إحداث الأزمة الناجمة عن تلك الثورة والتعاطي مع تطوراتها المتسارعة والمواقف وردود الأفعال الداخلية والخارجية المتوالية تجاهها. فالرئيس المغضوب عليه من أخوانه وكبار قبيلته ومعارضوه ومعظم شعبه الذي قال ذات يوم مضى (أذا حلقوا لأخيك بل لحيتك) تقبل أمر الثورة كواقع رغم تفاجئه بها بهكذا حجم وصمود تعامل معها في بداية الأمر على أساس أنها سحابة صيف عابرة ناتجة عن البخار المتصاعد من ارتفاع حرارة الشارعين التونسي والمصري واثقا من إمكانيته في القضاء عليها خلال وقت وجيز باستخدام أساليبه القديمة الذي أعتاد استخدامها في مناسبات عدة مضت ولكن جأت رياحها (الثورة) بمالا تشتهيه سفينة صالح المبحرة بأمان منذ ثلاثة عقود وثلاث سنوات ، فغليان البركان الثوري في تصاعد مستمر ورياحها تسير بسرعة جنونية باتجاه القصر واقتلاعه من كرسي الحكم وأتساع الرقعة الاحتجاجية يفوق التوقع والوصف.
وكما أسلفت جاءت الأحداث متسارعة ،أنشق الرجل القوي في حقبة حكمه ومعه فرقته المدرعة الموازية في تسليحها وجاهزيتها نصف الجيش اليمني وانشقت معه مناطق عسكرية وألوية عسكرية كثيرة مختلفة التخصصات والمهام وانهمرت استقالات النواب والوزراء والسفراء والمدراء على رأس صالح وحاشية حكمه كالمطر ،تخلى عنه حلفا قبليين استفادوا منه ومن فترة حكمه وخذله رجال مال وأعمال وعلما دين كان يعول عليهم كثيرا وخانه الكثير ممن وثق فيهم ،عندما هرول معظم من حوله إلى ساحة جامعة صنعاء (التغيير) معلنين انضمامهم للثورة ،وأصدروا بيانات الولاء للثورة وشبابها وأطلقوا الدعوات لصالح بضرورة الرضوخ لمطالب الشعب ونصحه بسرعة التنحي عن السلطة والرحيل الفوري عن البلاد هو وعائلته وأفراد سلطته وقيادة حزبه الحاكم (المؤتمر الشعبي العام).
أذا الأمور سارت بسرعة قياسية والأحداث تسارعت وتوالت بشكل جنوني والجميع أيقن بالحسم وانتهاء حقبة حكم صالح خلال أيام معدودة ،الجميع توقع ذلك إلا هو ،نعم هو علي عبدالله صالح الذي أجزم إنه الرجل الوحيد في العالم الذي كان يرى مايجري أمامه بعيون مختلفة عن عيون العالم أجمع ،صالح ضل على مدى الأشهر التسعة المنصرمة بما فيها الأشهر الثلاثة التي قضاها مريضا في السعودية بعد حادثة تفجير جامع دار الرئاسة بمن فيه (الرئيس صالح وكبار مسئولي الدولة) ممسكا بكل خيوط الأزمة بإحكام .
لم يغلق بابا واحد من أبواب الحوار والحل ،لم يرفض وساطة أو مقترحا أو مبادرة ،تعامل مع ذراعه الأيمن وصندوق أسراره الأسود المنشق عنه الجنرال علي محسن الأحمر بحكمة أسد غاضب ولكنه صبور متحينا الفرصة المناسبة للانتقام وقابل تحد وحماس أولاد الشيخ الأحمر بعقلانية منتظرا اللحظة المواتية لتلقينهم درس بالغ القسوة ،واجه استعجال معارضيه في اللقاء المشترك في الوصول إلى السلطة بهدوء وامتصاص لا يضاهى ،رفع في وجه الخليج وأمريكا والغرب كافة ورقة القاعدة والأخوان المسلمين، غازل مواطنوه في صنعاء وأخواتها برمش الجنوب ومطالب أبناءه بفك الارتباط .
قبل بالمبادرة الخليجية ورحب بقرار مجلس الأمن ،بقي قويا متماسكا واثقا متمتعا برباطة جاش يحسد عليها حتى في أسوى الظروف المتمثلة في أسوأها على الإطلاق محاولة اغتياله في جامع دار الرئاسة ،لم يبدو خائفا أو مرتبكا أو راضخا مستسلما ذات يوم من أيام الأزمة ، أستخدم القوة وضرب بيد أصلب من الحديد عندما أستشعر خطورة نوايا خصومة وعزمهم تجاوز خطه الأحمر والوصول إلى القصر الجمهوري ،نوم الجميع مغناطيسيا عندما أنتهج المرونة في الطرح في أحايين كثيرة وإيهامهم باستعداده التنحي اليوم قبل بكرة وتسليم السلطة ولكن إلى أيدي أمينة ،أنهكهم كثيرا وأدخلهم في دوامة البحث المضني عن هذه الأيدي الأمينة ،لم يهرب كزين العابدين بن علي كي لا يسجله التاريخ جبانا هاربا من المواجهة ولم يتنحى متعضا ومعتبرا مما حدث لنظيره المصري حسني مبارك بعد تنحيه بإرادته ،لم يقمع مناؤوه بشدة وقوة مفرطة حتى لا يجني نقمة ماتبقى من شعبه وجيشه وأمنه ويلقى المصير البشع الذي آل أليه رفيقه الزعيم الليبي معمر القذافي . حتى اللحظة لم يزل صالح رئيسا مستندا على شرعية انتخابه دستوريا عام 2006م قابعا في قصره الرئاسي ولم يزال خصومه ثوارا سلميون مفترشون الساحات في حالة إصرار وإرادة فولاذية أذهلت العالم عن بكرة أبيه ،حتى اليوم لم تبارح الآليات العسكرية مواقع الاستعداد للمواجهة الحاسمة أذا تطلب الأمر ذلك كما لم تزال بضع دبابات تقصف أحياء سكنية في تعز وتهدم منازل في أرحب،حتى الساعة مايزال مسلسل إبادة زنجبار وضواحيها مستمرا ومايزال تمدد وتواجد مايسمى بتنظيم القاعدة في مدن وقرى محافظات الجنوب متواصلا وبوتيرة عالية كما لم يزال قرار العقاب الجماعي على المحافظات الجنوبية بإغلاق طريق العلم -عدن سارياوماتزال أزمات الأمن والغذاء والكهربا والنفط والغاز والماء والتعليم والصحة في تصاعد مستمر . حتى قبل دقائق فقط مايزال صالح يتلاعب بخصومه عائليا ومعارضوه سياسيا ومطالبوه بالرحيل ميدانيا وإعلاميا وبالجميع ومايزال يتلاعب بنفسه وبمصيره أيضا فيا ترى كيف حدد هذا الرجل الذكي مصيره وكيف رسم هذا الداهية نهايته القادمة حتما؟