واضحٌ أن نظام صالح يسعى جاهدا إلى إشعال فتيل معركة أهلية تنذر بالدمار لليمن، وتدخله مرحلة جديدة من الصراع ضمن سلسلة الصراعات الطويلة التي يقوم عليها تأريخه المتأزم. وبالتالي فقدان الأمل الطويل بتأسيس الدولة المدنية الحديثة التي يريدها شباب الثورة. ومؤكدُ أيضا أن صالح لا يريد أن يخرج من السلطة بتاريخ مشرف، ومنجزات محظية، فالظاهر أن الرجل يريد أن يخرب كل ما بناه- وإن كان محدودا مقارنة بالفترة الزمنية الطويلة التي ظل فيها على كرسي السلطة- وإغراق اليمن وبالتالي إغراق الحكومة الجديدة في وحل من الحروب والمشاكل الاقتصادية والسياسية والأمنية والانهيار القيمي في المجتمع اليمني. نوايا صالح الخبيثة تبدو جلية وظاهرة من خلال تلك الممارسات التي شرع في استخدامها طوال الثلاثة الأشهر الماضية منذ بدء حركة الثورة الشبابية السلمية في أواسط فبراير الماضي، وكل ما تقدم به الزمن كلما كشف عن مدى خبثه وحقده لليمن وللأطراف المعارضة والمستقلة والأخرى التي انشقت عنه بعد جريمة جمعه الكرامة، ولذلك يريد أن يتبع نهج هدم المعبد على سكانه، وهو بذلك يريد أن يوصل رسالة لليمنيين مفادها " انظروا كيف أصبحت اليمن عندما طلبتم رحيلي، وكان الأجدر بكم أن تسكتوا كي لا أُخرب الديار على ساكنيها". خطابات صالح العنجهية الأخيرة كشفت عن مقدار تمسك صالح بالسلطة وزيف وافتراء المقولة التي تبرز قبول صالح بنقل السلطة بأطر سلمية ودستورية؛ فالرجل لا يعترف بإرادة شعب ويحقد على المعارضة ويرفض نقل السلطة إليها، وطالما هدد في أكثر من مرة فيما إذا سلم السلطة: "أنه سيتحول إلى معارضة وسيسقط الحكومة القادمة".
عقوبات ما قبل الرحيل يؤمن صالح إيمانا يقينا بأنه راحل لا محالة وبأقرب وقت؛ ولذلك يسعى جاهدا لكي يشفي غليله من المطالبين برحيله وفي مقدمتهم قادة المعارضة وقبيلة آل الأحمر التي انضمت للثورة، والجيش المنشق عنه بقيادة اللواء علي محسن الأحمر. قبل أن يفكر صالح بفرض عقوباته الجماعية على الشعب اليمني بما فيهم مناصريه، سعى الرجل جاهدا إلى الوصول إلى اتفاقية مبادرة تضمن عدم محاكمته مع كافة رموز نظامه الفاسد، وقدم للخليجيين – كما تؤكد بعض وسائل الإعلام- كشفا بأسماء المسؤولين الذين يدخلون معه في بند عدم المحاكمة بلغ عددهم أكثر من 500 شخصا. تقول المعارضة اليمنية بأن صالح يسعى جاهدا إلى فرض عقوبات جماعية على الشعب اليمني من خلال الإنقاطاعات المستمرة لمواد الوقود وانقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 20 ساعة في اليوم، ونشر المظاهر المسلحة في الشوارع والطرقات والأسواق، إضافة إلى استهداف المعتصمين في ساحات الحرية وترويعهم وقتلهم ولعل ما حدث مؤخرا في ساحة تعز عندما هاجمت قوات الحرس الجمهوري الساحة بالقوة الثقيلة وقتلت أكثر من 50 معتصما وأحرقت الخيام ولاحقت الشباب في الشوارع والأزقة؛ لعل تلك الجريمة النكراء خير دليل على أن صالح يريد أن يقدم نموذجا قذافيا له قبل رحيله ، لكي يشفي غليله باليمن وبمعارضيه ومن طالبوا برحيله. ولأن صالح حاقد على اليمن، ولا يريد أن يشاركه أحد في السلطة أو ينزع الحكم منه، فهو مستعد لخراب اليمن "حجر حجر" على غرار زميله القذافي "زنجه زنجه"، ولا يهمه مصلحة شعب أو وطن، طالما أنهم خرجوا يريدون الحرية ويطالبونه بالرحيل، ولذلك لعل لسان حاله يقول " فليذوقوا مذاق من يطلب الحرية، عند شخص لا يؤمن بها إن كانت لا تصب في مصلحته الشخصية". وبناء على كل ما سبق يعتقد صالح أن الأمور عندما تحتدم عليه، وتنهمر الضغوطات من كل جانب، سيذهب للتوقيع على المبادرة وبالتالي يخرج بسلام وضمانة من المحاسبة، وهو الأمر الذي أكدته منظمة العفو الدولية الأربعاء الماضي حيث قالت أن صالح سيتوصل إلى أتفاق لنقل السلطة إلى قادة المعارضة والتنحي في غضون 30 يوما، وهذا الاتفاق سيوفر له ولأركان حكمه حصانة يمكن أن تحول دون محاكمتهم على مقتل أكثر من 120 متظاهرا وغيرها من الانتهاكات التي ارتكبت أثناء الاحتجاجات الأخيرة والسنوات السابقة.
هل يحسم الجيش الأمر لصالح الثورة؟ يقول "جورج فريدمان" مؤسس ومدير مؤسسة ستراتفور البحثية الأمريكية في مقال له عن الثورة وحدود التحول في العالم الإسلامي: " بينما تشاهد المنطقة، تذكر أن لا تراقب المتظاهرين، ولكن راقب الرجال الذين يحملون السلاح- يقصد الجيش-، فإذا وقفوا إلى جانب الدولة فقد فشل المتظاهرون، وإذا تخلى البعض منهم فإن هناك فرصة للنصر". هذا الكلام يرجعنا إلى تطبيقه على واقع الحالة الثورية في اليمن. على الرغم من محاولة صالح لتحجيم القرار في المؤسسة العسكرية في اليمن، من خلال بناء مؤسسات الدولة العسكرية على شكل هرم يكون فيه رئيس الدولة راس الهرم، أما أضلاعه الثلاثة فهي أولا: الحرس الجمهوري والحرص الخاص، وثانيا: الأمن المركز، وثالثا: الأمن القومي، وكل تلك القوى تخضع لأبنائه وأبناء أخيه وأفراد من عشيرته، وهو بذلك يريد أن يلغي جزء كبير من الهيكل القديم للجيش المنشق عنه متمثلا بالفرقة الأولى مدرع بقيادة اللواء علي محسن الأحمر. تمركز القرار العسكري في يد الأسرة يجعل الكثير يتخوف من الخطوة القادمة التي قد تُقدم عليها الأسرة الحاكمة، خصوصا إذا تطورت الأوضاع، وبالتالي توريط الجيش في سفك دماء المعتصمين وترويعهم، وإبعاد أمل وجود مؤسسة ما يشعر معها المتظاهرون بأنه يمكنهم الاعتماد عليها. ولذلك كان هناك تخطيط مسبق من قبل قيادة الأجهزة الأمنية ( الحرس الخاص والأمن المركزي وبعض الألوية الموالية لصالح) للشروع بإطلاق النار على المتظاهرين وتكثيف العمليات تلك لأنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تردع المزيد من الشباب من الانضمام إلى المظاهرات. بالرجوع إلى فرضية "جورج فريدمان" آنفه الذكر؛ فانضمام اللواء علي محسن الأحمر إلى الثورة، شكل بعدا واضحا في مسار الثورة اليمنية، ومثل عامل تقدم بالنسبة للشباب في ساحات التغيير، أضف إلى ذلك أنه شكل حاجز حماية للشباب في ساحة التغيير في العاصمة صنعاء، ما جعلهم يشعرون بالأمان وازدادت أعدادهم يوما وراء أخر. بعد العملية العسكرية الضخمة التي استهدفت الرئيس في جامع القصر الجمهوري في الجمعة الماضية، والذي أصيب فيها حسب المعلومات الأولية عدد من المسؤولين الكبار، منهم رئيس البرلمان يحيى الراعي، ورئيس الوزراء علي محمد مجور، ورشاد العليمي نائب رئيس الوزراء، والأمين العام المساعد لحزب المؤتمر الحاكم صادق أبو راس. ويُعتقد أن صالح مصابا إصابة بالغة، بل بالغ الكثير من المراقبين بأنه قد توفي؛ بعد تلك العملية يبدو أن كل الاحتمالات تؤكد أن الجزء الأكبر من المؤسسة العسكرية سيكون لها الدور الكبير في الحسم الفوري والسريع لصالح الثورة والثوار. فاستهداف صالح في القصر الجمهوري في ظل التجهيزات الأمنية المشددة يمثل دليل قوي على إمكانية تفوق ثقل الجهات العسكرية المؤيدة للثورة، وإيمانها برحيله، حتى لو لم تُبد أي استعداد للوقوف مع شباب الثورة أو تعلن انضمامها للثورة. هذه العملية تضع شكوكا كبيرة في مدى ولاء الجيش لصالح وإمكانية تخليه عنه في حال تصاعدت الأوضاع، كما أن الأجهزة الأمنية التابعة لصالح لا تستطيع المضي في سياسة القتل إلى ما لا نهاية، فسقوط مزيد من القتلى لم يوقف الاحتجاجات كما رأينا في تعز عندما هاجمت قوات الحرس الجمهوري الساحة وأحرقت الخيام وأخلتها تماما، عندها تحولت تعز إلى ساحة تغيير بأكملها واستطاع الشباب أن يعيدوا بناء ساحة جديدة وما زالوا مستمرين في صمود كبير. إذا فما دامت الاحتجاجات متصاعدة فإن آلة القتل لن تكون فعالة في وقف المظاهرات خصوصا إذا ما اعتبرنا أن الجيش اليمني منقسم بين من يطالب صالح بالرحيل ويقف مع شباب الثورة وبين من يقف مع صالح ويسعى لتنفيذ أوامره في قمع المحتجين. غير ذلك يبقى أن هناك أمل لا زلنا نتشبث به، وهو وقوف المؤسسة العسكرية مع خيار الشعب وتلبية طموحاته، كما فعل من قبلهم الجيش التونسي والمصري. وليس مطلوبا أن تقف في صف الثورة بقدر ما تكون متحملة المسؤولية الكاملة أمام حماية الشعب والوطن، وبالتالي رفض أي أوامر عليا بقصف منطقة ما أو إخلاء اعتصام أخر. مطلوب من الجيش أن يقف أمام أي محاولة لزرع الفتنة وإشعال الحرب الأهلية، وعدم السماح للمظاهر المسلحة التي انتشرت مؤخرا بشكل جنوني في كل مكان في المدن المعمورة بالسكان. مهمة الجيش أن يحمي المتظاهرين، لا أن يقصف على مخيماتهم ويحرقها، ويلاحق المتظاهرين في الأزقة والشوارع، كما أن مهمتهم رفض أي محاولة للزج بهم في معركة غير منطقية ضد بعضهم البعض. صالح انتهت كل خياراته ولم يبقى له إلا خيار الجيش وليس الجيش كله، وطالما بقى الجيش حاملا رسالته الوطنية بإخلاص رافضا كل محاولاته إلى جر البلاد للخراب والدمار فبالتأكيد أن الحسم سيكون بأيديهم وسيفر صالح بأذياله البالية والخائبة وسيبقى الجيش محل احترام وتقدير أمام الشعب والعالم، وسيكون لهم فضل حسم الأمور ومهمة الحفاظ على الوضع خلال الفترة الانتقالية وما بعدها.. وليحفظ الله اليمن.