فور عودتي من القاهرة حاملةً شهادة البكلاريوس في الطب البشري عملتُ في أحد المستشفيات الخاصة في عدن , لم تكن تجربةً ظريفةً أو من النوع الذي أريد أن أتذكره في مسيرتي الباقية , ليس لأني صُدمت بطبٍ غير الطب ( طب الفهلوة و اللامبالاة و التدني في المستوى الإنساني قبل العلمي ), و لكن لأن صدمتي كانت لا تُصدّق بمستوى الوعي الصحي المنعدم عند العامة , الوعي الذي يسمح لك كمواطن تحديد وجهتك على أقل تقدير أو إن كانت حالتك تستدعي الإسعاف الطارئ أو إذا كنت تعاني من شيء يمكن للطبيب أن يعالجه أصلًا أم لا . لا أريد أن أبدو مبالغة و أنا أخمّن نسبة ما نسميه نحن الأطباء اصطلاحًا ب ( إتش كايز , H case) , بحوالي 50 % من مجمل الحالات التي نراها يوميًا , ال H هنا تعود لكلمة هيستركال , أو هستيري , يعني الحالات التي لا يسببها شيء عضوي بل تنتج لسبب نفسي أو عصبي وهمي في الغالب , عمومًا و بدون إطالة ما أريد أن أقوله أنها نسبة هائلة تعكس خللًا صريحًا في التكوينة النفسية و الأخلاقية للمجتمع , و هذا هو بالضبط معرض حديثي اليوم .
هناك عقائد مترسخة في العقول لا أعرف بالضبط مصدرها أو متى تسرّبت بهذا الشكل الفج إلينا , و يضطرالأطباء فعليًا للتعامل معها بشكل كبير و مع ما تنتجه من جهل , أو لنقل مع الجهل الذي ينتجها , فالعلاقة بينهما متشابكة حقًا . إلى جانب أن الإنسان اليمني فقد ثقته بالطبيب اليمني بالكامل , و الطبيب في نظره فاشل حتى يثبت العكس ؛ فغالبًا لا يثبت العكس لأنه سيجد مَن يقنعه في الأخير أن ما يعانيه هو نتيجة " عين " أو " سحر " و يتجه بالتالي في رحلة مرهقة و محبطة ناحية " طب الدجل و العته " أو " طب التخريف الشعبي " ذلك في أحسن الأحوال , أو أنه سيجد هذا الذي يقنعه بذلك قبل أن يفكّر في زيارة الطبيب حتى , و يأتي صديقنا صاحب المعاناة إلينا في النهاية و هو في حالة متأخرة و متقدمة , أو إنه سيتوقف في المنتصف و ترن في رأسه الفكرة الرائجة " كله إلا من الله " , " خليها على الله " , أو " اللي لك من الله بتلاقيه ". لا يعتقد أحدٌ أني أحاول أن أنكر وجود العين أو السحر أو التقليل من أهمية التوكل على الله , أبدًا , كل ما أريده هو أن نضع حدًا فاصلًا هامًا بين ما يجب أن يتعامل معه الأطباء و بين ما يجب مواساته - بأي طريقة كانت- خارج أسوار المستشفيات , لا أريد أن يأتي إليّ العشريني ذو اللكنة الخليجية في الساعة الرابعة فجرًا ليخبرني أنه رمى عقب السيجارة إلى الخلف و أصابت الجني الذي تسبب له بأزمة الاختناق التي فُجعنا بها في الطوارئ , كما أني لا أريد لكل من تخاصمت مع زوجها أن تعتبر المستشفى مكانًا مناسبًا لكسب التعاطف أو أن التمارض وسيلة جيدة لحل المشاكل العائلية , و لا أريد للمستشفيات أن تفقد هيبتها كل يوم على يد المعاتيه الذين لا يتوانون عن استغفال الأطباء أو التهجم عليهم بحق و بدون حق لأجل جرعة المخدر التي يريدونها , أو لاعتقادهم بأن الأطباء يملكون عصًا سحرية لحل كل المعضلات, أو منع الناس من أن تموت , فالناس يموتون في كل العالم أيها الطيبون .
في اعتقادي سيحل كثيراً من مسببات العلاقة المتوترة التي تربط الأطباء في اليمن مع المرضى أن يدرك الناس حقوقهم تجاه أجسادهم قبل كل شيء ,من ثم أن يعرفوا حقوقهم القانونية تجاه تجاوزات الأطباء أو أخطائهم , أظن إن كانت لدينا رقابة قانونية للمارسات الطبية سيتنبه كثير من الأطباء الذين قد لا تشعرهم مسئولياتهم الإنسانية بضرورة التيقظ و اجتناب الجزاف فيما يتعلق بحياة الآخرين .
كما أنه في ودي أن يراعي الناس أقل حدود الوقاية , أن يتخلوا عن جرعات القات اليومية و يستبدلوا ثمنها بغداء مناسب , أن يراقب الآباء و الأمهات أبناءهم و ما يفعلونه في حيواتهم أو ما قد يكن بعضهم يتعاطاه , أن يلتزم المرضى بما يستوجبه مرضهم ,أن يتوقف الناس عن لعب دور الأطباء و يعرّضون أنفسهم و الأطباء لاستفزازات رهيبة ,.. فمثلًا لا نجد أي مريض في أي مكان العالم يأتي و هو مقتنع بالضبط مما يعانيه أو ما يلزم الطبيب أن يفعله له إلا في اليمن ,الناس هنا أطباء بالفطرة , شائع جدًا أن يدخل أحدهم و يخبرك أنه يعاني هبوطًا في الضغط أو السكر و أنه يتوجب عليك كطبيب أن تعلّق له قربة ,و قد يرشدك حتى إلى نوع الفحص الذي يلزمك عمله له , أو حتى يأتي أحدهم يشتكي لك بالنيابة عن مريضه أو مريضته و عليك أنت كطبيب خارق للعادة أن تشخصه الحالة عن بعد ,و تتمتم في تأسٍ كل مرّة : يا الله ما كل هذا العته !.
باستطاعة أي طبيب مارس المهنة في اليمن أن يجتر حواديت لا أول لها و لا آخر عن حجم المآسي التي نقابلها كأطباء في مجتمعٍ محشو بالخرافة والتنطّع و الخزعبلات و الماورائيات .. الخ كل ما استطيع أن أقوله و بصدق : كونوا مع أنفسكم , يكن الله معكم ..
صدق أبو العتاهية حين قال ( ترجو النجاة و لم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تمشي على اليبس )