كانت (الكلمة) جسرا إفتراضيا نحو مغايرة السائد الآسن بطبعه بعد الوحدة. فالحرية هدف لم يكن التدافع نحوه لتسجيل المكوث في خانة الأسبقية فقط، ولا التنطع أمام الآخرين لتقرير إنجاز الشكل المتوحد على أنه ضربة لازب وإيقونة العصر. ليمتد بعد ذلك رأس التنين؛ بل رؤوسه التي تنفث النار؛ لتنفثه فعلا في وجه (وجوه) المحاصرين خلف السور العظيم المنجز كسور الصين.لم تغير الأفعى جلدها من باب المداراة حتى، أو الامتثال للغريرة البيولوجية، كانت حذقة بالمجاراة الشكلية المجردة، داسة السم في الدسم باستحضار التأريخانية المشوهة دونا عن إحداثيات عميقة تؤسس للنفس مدارها (الجمعي) المتزن في مجرة التطور. ولذلك عاشت الديمقراطية (برمتها) وفي الصميم حرية الكلمة محنة حقيقية، ويبرهن أذواء وأقيال الدولة الرعوية على مقدرة عجيبة في تغييب اللحظة الفارقة وإفراغها من مبناها ومعناها الحقيقي، فاتحين فوهات سوداء في صدر الجديد التاريخي تعود به القهقرى، مستنهضين قرونا من التارات والاحقاد لتصبح الجنوب غنيمة وفيدا وأرضا مفتوحة، إستعصت زمنا وقاومت زمنا ولكنها في آخر المطاف تلحق بالتهائم واليمن الأسفل قسرا، ونستشعر بفداحة السقوط المريع كل يوم تحت مستوى التاريخ المعاصر (ابوبكر السقاف). كان (المنجز) يجز على حجرة صماء في محاولة من الجزار أن يتقمص دورا ثنائيا مخاتلا؛ بالقول ونقيضه في آن، ولم يكن ليمر ذلك دون إدراك من العقل الجمعي في الجنوب؛ إنه في نظرهم:
كلام الشيطان بلسانين
اِذْ يكذب كالصدق كما يشكو من هذه الشياطين المشعوذة التي تخاطبنا بمعنيين إثنين معا
تحفظ كلمة الوعد للادنى منا
وتنقضها لرجائنا (شكسبير، مكبث) للتو بعد الحرب الظالمة؛ ولما تذهب من رؤوس السكارى نشوتهم بالنصر الزائف، فتحت صحيفة"الأيام" ربيعا مبكرا لعودة الروح التي أريد لها أن تنكسر. والغريب أنها كانت تعي خطورة ما تفعل من فعل الممانعة التاريخية من داخل عدن. فالتاريخ لا يتكرر بوجهه القديم الا ما يكون في دوائره الحلزونية من إبتعاث للتراجيديا الإنسانية في صورها الميلودرامية، ولذلك لا مقارنة البتة مع "الأيام" الأولى في عنفوانها الوطني والقومي بمهارة مؤسسها الاستاذ محمد علي باشراحيل، يوم كان التأصيل في مملكة صاحبة الجلالة (الصحافة) لا يمر دون خرط القتاد من مزالق الإدارة البريطانية في عدن قبل أن يُغيب صوتها بفعل سلطة الاستقلال الوطني.كانت "الأيام" من الوعي أن تدرك: (أن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة من ضرب الحسام اليماني) فالقادمون من وعثاء التاريخ زاخرون بمركبات النقص تجاه (عدن)، مما يجعل القائم على "الأيام" كالقابض على جمرة من جهنم.
ولما كان (محمد علي باشراحيل) في حينه إزاء إدارة مدنية (إستعمارية) وفي التقاطع معها، فإن نجله (هشام) يجعل من "الأيام" بطورها الثاني وسيلة إنطاق المظلومين الساكتين في الجنوب، ببسالة روح المقاوم الذي يخلق من الممكنات البسيطة منافذ نور يستضاء بها في عتمة ليل جنرالات الفيد في عدن. الحق ان الرجل لم يكن بالرجل المحايد بين ظالم ومظلوم؛ ومن ثم صحيفته، بل إنحاز لشعب مكلوم من هول الفاجعة، وكأبيه؛ لم يتزحزح عن المهنية العالية في تقديم (الخبر) بحرفانية الصانع الماهر الذي يرقى بصحيفته إلى مصاف المدرسة الأولى في صناعة (الخبر) في فضاء الصحافة اليمنية.
كان الرجل ببساطة؛ ومعه فريق متمرس، يمضي بمشروعه الإعلامي الرائد ضمن وشيجة متينة مع القارئ وبه داخل اليمن وخارجها، مما جعل الاعلام الرسمي أشبه بمحارب متهالك يتبارى مع طواحين الهواء كما فعل (دون كيخوت) ذات مرة عند (سرفانتس) رغم الضخ المالي الكبير.تتشابه المرحلتين؛ يوم أن اكتسحت "الأيام" الأولى شارع الصحافة في عدن على عهد الباشراحيل الاب، بشهادة حية نسمعها من الفنان الكبير الاستاذ محمد مرشد ناجي، الذي يعطي توصيفا عميقا لشخصية الباشراحيل الاب، أما "الصحيفة" وقد غدت مؤسسة إعلامية متطورة تدخل من الإعلامي إلى الإجتماعي ثم السياسي بديناميكية (هشام) وفريق عمله الرائع، في الطور الثاني.
لم ينقشع بعد رماد حرب 1994م الظالمة يوم أن كتب أبوبكر السقاف سلسلة مقالاته الجريئة عن إستباحة الجنوب وجناية الوحدة الاندماجية، يفقد السقاف إحدى عينيه على ايدي عصابات أمن السلطة، بينما تتحصن "الأيام" بمحبة الجماهير وكاريزما "هشام" الاسطورية التي تفرض وجودها المؤثر في الفضاء الإجتماعي والسياسي، وتصبح "الدار" كدار ابي سفيان من دخلها كان آمنا.ومنذ البداية تشبه "الأيام" كمؤسسة صحفية أهلية؛ إلى حد ما، مشاريع علي ومصطفى أمين الناجحة بما في ذلك الاعتداد بالذات والبحث عن المبتكر والجديد وتوظيف السبق الصحفي والكاريوكاتير والخبر، وخلق قنوات من العلاقات مع مصادر الأخبار والتوغل في دهاليز السياسة وصناعها، وكواليس الفن ورواده.
إنهما هنا و"الأيام" على ذات معيار الاعتدال والمهنية العالية واحترام عقل القارئ ومشاعره.ومع ان الأب المؤسس كان أكثر ميلا إلى قومية عبدالناصر وكتابات هيكل، فإن ميل (هشام) لا يجنح كثيرا للهيكلية الصحفية (اذا جاز التعبير) ويلتقي مع التوأمين على نفس جريرة أشهر كتاب "الأيام" صاحب العمود الاشهر (كركر جمل) الأستاذ الكبير عبده حسين أحمد، المحب لعلي ومصطفى أمين.
لكن "الأيام" تمردت منذ البداية على طريقة علي ومصطفى أمين الصحفية بعد الثورة المصرية 1952م بما يرضى سلطة الضباط، بتأصيل "الأيام" خطى (الخبر) الصحفي و(الصورة) المزعجة بطبيعة الحال بل الفاضحة للنظام، مع كل ما تلتهب به صفحات الرأي من أسلوب الكتابة بالجمر الذي إبتدعه كاتب كبير مثل المفكر العربي أبوبكر السقاف، وارتسم في الذهنية القارئة والمتابعة بالكتابة ال (كاريوكتيرية) الساخرة ل (برناردشو) قادم، ليس من إيرلندا وانما من الشيخ عثمان، الاستاذ نجيب محمد اليابلي.كان نجيب يدرك بحدس الحيوان البري المتيقظ – وهي خاصية لا يمتلكها إلا أديب فنان، أن المستهدف عدن بتاريخها ورجالاتها وحاراتها ومعالمها وآثارها، فأحيى في النفوس تواريخ حية من ذكريات وحكايات الانسان والمكان في عدن. اما المايسترو الجبار (هشام) فإنه باللمسات الساحرة على الخبر وتوظيفه والصورة ودلالاتها الناطقة، ناهيك عن "افتتاحياته" المتباعدة، توظيفات مهنية في لا حيادية إعلامية عندما يتعلق الامر بالهوية والوطن.كان (هشام) انسكلوبيديا متحركة ناطقة بالفعل الإجتماعي الميال بطبعه إلى التفاهم والتسامح والحوار، لا بأس ان يضم الفرقاء إلى طاولته وإلى مآدبه الحاتمية التي لا تنتهي، فليس لديه للناس خانات ومقاييس حتى اولئك الذين هم خدم برتبة وزير عند الجنرال الكبير. وقد يفعل ما قد كان سيفعله (الحطيئة) الجاهلي في قصديته الذائعة (ضيف ولا قِرى) إذا تعلق الامر بالعلاقات الإنسانية ومكارم الاخلاق والضيافة. وتجلت مقولة (الحطيئة) نفسه:
من يفعلٍ الخيرَ لا يعدم جوازيهِ لا يذهب العرفُ بين اللهِ والناسِ عندما تحول الموت (المخطط) له ل (هشام) باتقان آل كابوني، إلى موت عليهم أمام بيته في صنعاء ببسالة فدائي من عصر الفرسان السجين ظلما البطل أحمد عمر العبادي المرقشي. ثم كانت المفاجأة أن يتحول الجنوبيون في صنعاء من مختلف المشارب الفكرية والسياسية والأصول القبلية والفئات العمرية وعلى مدى أسابيع عديدة إلى دروع بشرية تحمي (هشام) وأفراد أسرته من هجوم محتمل.
ولم يشذ عن هذه القاعدة الا الشاذون فعلا وهم نفر قليل على كل حال.توحد الجنوبيون لأول مرة في مواجهة ترقى لمصاف الشهادة في معركة الدفاع عن (هشام) الحقيقة الوطنية الناصعة التي تتحرك على قدمين .وعندما عاد (هشام) إلى عدن كان قد تحول إلى رمز وطني كبير، وتصبح (الدار) قبلة لمئات الالاف من محبي "الأيام" الذين برهنوا على محبتهم للجريدة وأصحابها وفي المقدمة (هشام).ومع ان موجة الحقد الاسود لم تفلح في اقتحام البيت الآمن "الأيام" في عدن، إلا ان الاصدار الصحفي للصحيفة الساحرة قد توقف بعد ان أصبحت الصحيفة هدفا لنقاط التفتيش.. ومحاكم التفتيش. ظل الرمز محاصرا في "داره" الذي امّه كل أحرار البلاد ومثقفيها وقادة الحراك الجنوبي السلمي والصحفيون والادباء والمفكرون وقادة الاحزاب.وعندما اعد (النمرود) محرقته الثانية كان البيت الآمن المكتض بالاطفال والنساء والعاملين في "الأيام" ورواد المنتدى يتعرضون لموت حقيقي.. بينما كانت الإرادة الآلهية تحمي (هشام) وآله الكثر ليخرج من تحت الجمر حيا كما خرج الخليل إبراهيم عليه السلام من النار سالما.