منذ نشأته في العام 1949م وحتى الوقت الحاضر، كان الناتو عازماً على انتهاج سياسة معادية تجاه روسيا "إبقاء الروس خارجاً، والأميركيين داخلاً، وإسقاط الألمان" كانت تلك كلمات الأمين العام الأول لحلف شمال الأطلسي، اللورد إيزماي، عند شرح أهداف التحالف العسكري الجديد (كما كان في ذلك الوقت).. قد يكون هذا الكلام بسيطاً، لكن كلمات إيزماي تبدو ذات دلالة عميقة لما يحدث في العالم الذي نعيش فيه بعد أكثر من نصف قرن. الصراع التاريخي ولفهم الصراع بين الغرب وروسيا لابد من العودة إلى السياق التاريخي الذي أنشأ هذا العداء. عندما أعلن ميخائيل كيرولاريوس بطريرك القسطنطينية الانفصال عن سلطة الكنيسة الغربية ليصبح إمبراطوراً وبطريركاً مساوياً لبابا روما، مدعياً أن البابوية في روما تعاني من الضعف والفساد، ما أدى إلى انقسام الكنيسة المسيحية فيما سمي الانشقاق الكبير في العام 1054م. أيضاً كان لروسيا تاريخ ممتد مع الاعتداءات على جيرانها الأوروبيين، ومنذ أيام القيصر بطرس الأكبر الذي أرسى استراتيجية اتبعتها الحكومات المتعاقبة لتوسيع رقعة روسيا حتى تصل إلى البحر الأسود في الجنوب وبحر البلطيق في الشمال الغربي، والتطلع للاستيلاء على القسطنطينية - إن أمكن - لكون روسيا وريثة الإمبراطورية البيزنطية ودولة الكنيسة الأرثوذكسية وينبغي أن تكون لها زعامة النصارى الأرثوذكس في العالم. ولتحقيق تلك الغاية، تكررت اعتداءات روسيا على أوروبا ووصلت إلى السويد وبرلين وفرنسا وبولندا وأوكرانيا. وفي التاريخ الحديث، وعند إنشاء الاتحاد السوفيتي استولى على دول جواره بما فيها دول البلطيق، وشرق بولندا، ودول شرق أوروبا. وخلال الحرب العالمية الثانية وصلت اعتداءاتها إلى بولندا وفنلندا. في الواقع، كانت روسيا وخلال تاريخها أكثر استبدادية وتقلباً وقوة عظمى ثقيلة الوزن، مع وفرة في الأراضي والموارد والسكان، وجيش عملاق قوي بما يكفي لكسر شوكة فرنسا وتدمير جيش نابليون وتحطيم أحلامه في أن يكون امبراطوراً لكامل أوروبا. إنشاء الناتو بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يبد الاتحاد السوفيتي نوايا بفتح صفحة جديدة مع الغرب عند احتفاظه بالشطر الشرقي لألمانيا. وأدت سلسلة أحداث أخرى لأن تشعر أوروبا الغربية بالقلق الأمني والسياسي، وبحثت عن حل يستجيب لمخاوفها. نظرت إلى الشراكة مع الولاياتالمتحدة القوية اقتصادياً وعسكرياً كأمر حيوي لصد أطماع السوفيت والتأكيد بقدرتها على الوقوف ضد نهوض ألمانيا. أما الولاياتالمتحدة، فكان لديها قلق من احتمال أن يستجيب الحلفاء الغربيون لمخاوفهم الأمنية ويتفاوضوا مع السوفيت. ولمواجهة أي تحول للأحداث وللظهور كحامٍ للحلفاء الأوروبيين، انتهجت منحى أكثر تفاعلاً، وتبنت مشروع مارشال لتوفير مساعدات اقتصادية لأوروبا، ما أسهم في تعزيز فكرة المصالح المشتركة مع الأوروبيين. أيضاً، درس البيت الأبيض إمكانية تشكيل تحالف عسكري أوروبي -أميركي لتعزيز أمن أوروبا الغربية، ويلتزم بميثاق الأممالمتحدة، ويكون خارج مجلس الأمن، لمواجهة امتلاك الاتحاد السوفيتي لحق النقض، ما أثمر عن توقيع معاهدة تأسيس حلف شمال الأطلسي في واشنطن عام 1949. أصبح NATO أول تحالف عسكري في زمن السلم تنضم له واشنطن خارج نصف الكرة الغربي بهدف تعزيز التعاون والأمن الأوروبي. والأهم في ذلك، هو الضمان الأمني الأميركي المنصوص عليه في المادة رقم 5 (Article 5) من معاهدة تأسيس الحلف التي تنص على أن "الهجوم المسلح ضد أي عضو في حلف الناتو "سيعتبر هجوماً ضدهم جميعاً". تأثير هذه الاتفاقية هو إلزام أميركا بالدفاع عن أوروبا الغربية من خلال فكرة الدفاع الجماعي، ويضعها بأكملها تحت "المظلة النووية" الأميركية. تشكلت العقيدة العسكرية الأولى لحلف الناتو في شكل "رد انتقامي هائل" بهجوم نووي تقوم به الولاياتالمتحدة لردع الاتحاد السوفيتي. سياسة التوسع نحو الشرق بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك جمهورياته السابقة، سارعت دول أوروبا الغربية لضمها تحت مظلتها من خلال سياسة التوسع نحو الشرق التي تبناها حلف شمال الأطلسي. زعم الرئيس ميخائيل غورباتشوف - آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي- أن القادة الغربيين، خلال مفاوضات إعادة توحيد ألمانيا عام 1990، وعدوه (شفهياً) أن الناتو لن يتوسع إلى أوروبا الشرقية، وذلك ما ينكره الغرب معللاً بأن هذه المسألة ظهرت خلال المفاوضات التي أجراها غورباتشوف مع وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر. ولوضع الأمور في نصابها، تنظر روسيا إلى الجمهوريات السوفيتية السابقة في جوارها المباشر كحاجز بري بين أراضيها وأوروبا الغربية، ويعطي بوتين انطباعاً بالخيانة عندما صرح بأن غورباتشوف حصل على تأكيد شفهي من الولاياتالمتحدة بعدم توسع الناتو، إلا أنه لم يصر على وجود إعلان كتابي. وبالرغم من ذلك، منذ عام 1999 توسع الناتو باتجاه أوروبا الشرقية أربع مرات. بالمقابل، صد الغرب كل محاولات روسيا للتقرب إلى "عائلة الديمقراطيات الغربية"، وقدم الاتحاد الأوروبي لروسيا اتفاقاً مختلفاً عما تم منحه لدول أخرى في أوروبا الشرقية من خلال سياسة الجوار الأوروبية، ما عمق إحباطها من التعامل معها كشريك ثانوي بدلاً من شريك متساوٍ، ودفعها لإدراك أن المقاربة الأوروبية تجاهها تتشكل وفق معايير (مزدوجة) ولا يتم اعتبارها كشريك موثوق. جادل الغرب بأن روسيا تريد الحصول على حقوق الجوار المشترك دون الالتزام بقبول مبادئ السلوك الخاصة بالاتحاد الأوروبي. عودة القلق الأمني لأوروبا حانت الفرصة الروسية للثأر من الناتو ودول جوارها، وقامت بقطع الطريق أمام أوكرانيا عند اقترابها من التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الناتو، وغزت أراضيها في منطقة تعتبرها ذات أهمية حيوية لمصالحها. من جانب آخر، بدأ اهتمام الولاياتالمتحدة، خلال إدارة أوباما، يتجه بعيداً عن أوروبا، وتصاعدت انتقادات واشنطن حول المساهمات الأوروبية في ميزانية الحلف. انعكس الموقف الأميركي على رد فعل الناتو الذي تعاملت بياناته مع روسياوأوكرانيا على قدم المساواة، ودعا "كلا الطرفين" للسعي إلى حل سلمي والحوار، واكتفى بنشر قواته في المناطق المحاذية لروسيا. وفي واقع الأمر، لا يمكن للناتو العمل بدون قيادة الولاياتالمتحدة، ومع تجنب واشنطن بشكل متعمد الرد العسكري على العدوان الروسي، أرسل ذلك إشارات واضحة بأن واشنطن تفضل التنحي عن مواجهة موسكو لأجل أوكرانيا. القدرة العسكرية لروسيا كان لدى الاتحاد السوفيتي الآلاف من الرؤوس الحربية النووية، وقدرات عسكرية لا يستهان بها كقوة عالمية، ولم يكن "نمر من ورق". أصبحت روسيا هي الوريث الشرعي لذلك الكيان بعد تفككه. وبعد تغلب الرئيس فلاديمير بوتين على مشاكل روسيا الاقتصادية، أراد إعادة ظهورها كقوة بذات القدرات والوزن الثقيل، متجهاً لزيادة الإنفاق العسكري ليحتل الموقع الثالث بعد الصينوالولاياتالمتحدة. ويحاول بوتين تخويف جيرانه الأوروبيين باستعراض القوة العسكرية النووية والتقليدية لبلاده، لتذكيرهم بأن روسيا لاتزال قوية بما يكفي لبث الرعب والقلق على أمنهم. عزز ذلك مخاوف الدوائر السياسية والمحللين الغربيين، ودفعت دراسة لمؤسسة راند في عام 2016 للقول إن القوات الروسية يمكنها أن تغزو دول البلطيق وتسيطر عليها في غضون أسبوع تقريباً، وسيواجه الناتو صعوبة في مجاراتها بنفس السرعة. هذا السرد غذى الهستيريا المتصاعدة بشأن القدرات العسكرية الروسية، وكما أوصى تقرير راند، نشر حلف الناتو القوات في دول البلطيق. الواقع السياسي الأوروبي تعاني الدول الأوروبية العديد من التحديات الداخلية، منها تباطؤ نمو كثير من اقتصاداتها، وارتفاع حجم الدين على كثير من مؤسساتها السياسية، التحديات حول قضايا الهجرة، مخاطر حدوث هجمات إرهابية. والأهم من ذلك ما تعانيه عدد منها من مواطن الضعف السياسية الداخلية وصعود الأحزاب الشعوبية واليمين المتطرف، وتصاعد المخاوف من إمكانية استغلال روسيا لقضايا الأقليات الروسية في دول البلطيق. وخلال العقد الماضي، شهد الاتحاد الأوروبي تحولًا تدريجيًا في سلطة اتخاذ القرارات من المؤسسات الفيدرالية للاتحاد الأوروبي إلى الحكومات الوطنية، فالدول الأعضاء وبشكل منفرد تمارس انتقائية في الامتثال للمعايير الأوروبية بحسب مصالحها الاقتصادية والأمنية. والأهم من ذلك، أن العلاقات داخل الناتو بين أميركا وحلفائها ليست على ما يرام، وتصاعد الخطاب الأميركي بالابتعاد أكثر عن الحلف. مستقبل العلاقات بين الغرب وروسيا في خضم تلك التحليلات والتحركات، من المفيد الرجوع خطوة إلى الوراء وقراءة شيء جوهري في هذا السياق. وفي الواقع، فإن الكره ليس نتاجاً طبيعياً ولتوليده والاستمرار على ذلك النهج كان من المهم الاستثمار طويلاً في خلق الفرص لإعادة إشعاله من كلا الجانبين. يبرر المحللون توسيع حلف الناتو بأن التجارب السابقة علمتهم بأن المعتدين يجب إيقافهم مبكراً، ولذا يجب مواجهة روسيا ومطالبتها بضمانات أمنية. لكن بالرغم من مرور ما يقارب السبعين عاماً على إنشاء الناتو لمواجهة صعود ألمانيا، وصد القوة السوفيتية، إلا أن ألمانيا تمكنت من النهوض كأكبر اقتصاد بين جيرانها الأوربيين، واستطاعت روسيا من خلال قوة تغذيها ثروة الطاقة و"بوتين" من تنشيط اقتصادها وأعادت إصلاح جيشها. وعلى غرار الحرب الباردة، تعود المواجهة بين روسيا بوتين والغرب إلى الواجهة مجدداً. ومنذ احتلال القرم، أدرك الغرب بأنه فشل في تقييم روسيا بصورة صحيحة، لذلك شجعت الكثير من مراكز الأبحاث الأمنية والسياسية في الدول الغربية الدراسات حول الشؤون الروسية بهدف تحليل وتقييم قدراتها العسكرية والسياسية وإلى أي مدى يمكنها أن تهدد أمن أوروبا، في مساعٍ لطرح مقاربات أكثر قدرة على التنبؤ بالقوة الروسية، والرئيس فلاديمير بوتين الخصم العنيد الذي أعاد إثارة المخاوف الأوروبية من عودة التهديد الروسي. تبقى الحقيقة؛ سيستمر النهج الغربي في التعامل مع روسيا مدفوعاً بالريبة، وذلك ما يتعارض مع نظرة روسيا لتاريخها ومكانتها الحالية، وستظل العلاقات المستقبلية بين الطرفين خاضعة لظاهرة 'Russophobia' أو العداء المتأصل الذي يسود تصور العالم الغربي لروسيا.