الثلاثاء 30 أكتوبر 2018م بعد صلاة العشاء كنت في حديث شيق عن الأدب مع الشيخ الداعية الأديب أبي بكر بلفقيه، والذي اكتشفت أن له باعا في كتابة القصة القصيرة وله علاقة بكتب الأدب وكتاب القصة في عدن منذ مطلع السبعينيات، وسأنشر ذلك في حلقة قادمة بإذن الله، وبينما كنا نتبادل الأدبيات قلت للشيخ أبي بكر ضاحكا : هذا المجلس يحتاج(سليماني) وسليماني تعني هنا شاي أحمر، فقال: انظر أمامك هؤلاء الأحباب معهم ثلاجة شاي وكأسات إضافية بإمكانك تطلب منه كأسين. ولأن حاجتي للشاي كانت ملحة فقد زحفت نحوهم وسلمت عليهم وقلت مبتسما : بكم تبيعون كأس الشاي؟ ففهموا حاجتنا للشاي وصبوا لنا كأسين، ولكن كانت نسبة السكر فيه قليلة جدا ويبدو أن تلك طريقتهم في صناعة الشاي، ناولت الشيخ أبا بكر كأسه، وجلست مع الأحباب وبدأت سمرتنا معهم. الأحباب جميعا من أفغانستان وكانوا يزيدون على العشرة معظمهم من (هيلمند) ويتكلمون لغة البشتو وفيهم شاب يتكلم عربية مكسرة وهو من تولى الترجمة بيننا. سألوني: هل خرجت تشكيل إلى أفغانستان أو هل تعرفها أو ماذا تعرف عنها؟ وهنا أصابني شيء من الوجد الذي يصيب مجاذيب الصوفية وقفزت إلى ذاكرتي(أفغانستان) التي استولت يوما على أحلامنا وعلقنا عليها آمالنا الكبيرة وعاشت عليها مشاعرنا وسعدت بها ردحا من الزمن. قلت : أعرف عن أفغانستان الكثير. قال المترجم : حدثنا ببعض ماتعرفه. فبدأت أتذكر تلك الأيام الجميلة فقلت : أفغانستان بلد الأبطال المجاهدين الشجعان الذين أرغموا أنف الدب الأحمر عاصمتها كابول، ومدينة العلم فيها قندهار بلدة الملا محمد عمر زعيم الطالبان، ومن مدنها مزار شريف وأهلها من الأزبك وهي بلدة الجنرال الشيوعي عبد الرشيد دوستم الذي اقتلعته طالبان، ومن مدنها هيرات وهيلمند وموسى قلعت، فلما قلت(موسى قلعت) قال شاب أحمر الوجه : أنا من مدينة موسى قلعت. ثم استطردت فقلت ومن مدنها جلال آباد،فلما نطقت جلال آباد تذكرت اليوم الذي سقطت فيه جلال آباد بيد المجاهدين وأصبح الطريق مفتوحا إلى كابول. قال المترجم : ماذا تعرف عن أهلها؟ قلت : معظم الشعب من جنس البشتون ومنهم سياف وحكمتيار والملا محمد عمر ومولانا جلال الدين حقاني ويتكلمون البشتو وفي الشمال الجنس الطاجيكي وهم يتكلمون الفارسية ومنهم برهان الدين رباني وأحمد شاه مسعود، وفي جهة أوزبكستان وخاصة في منطقة مزار شريف يقع جنس الأوزبك وهي بلدة الجنرال دوستم، وهناك الهزارة الذين يعتنقون المذهب الشيعي الأثني عشري. وقرأت عن الملك ظاهر شاه وأول رئيس للمجاهدين صبغة الله مجددي ويونس خالص وعرفنا يوسف قرضاي وغيرهم . كنت أكلمهم وهم يضحكون ويضربون أيديهم ويكلم بعضهم بعض بتعجب. قال المترجم : أنت تعرف أفغانستان أكثر منا ولابد أنك أما أن تكون خرجت تشكيل إلى جميع أفغانستان أو أنك كنت هناك أيام الجهاد. فلما ذكر الجهاد قال المترجم : هذا الشيخ الذي بجانبي كان من الذين شاركوا في جهاد الروس. فأخذت يده فقبلتها فرأيت أظافرة طويلة متسخة ، فأخرجت من جيب قميصي(مظفرة) اشتريتها بعد العصر بسبعين ربية وشعرت أن البائع غالى في ثمنها، فأمسكت أصابعه ورجوته أن يسمح لي أن أقلم أظافرة بنفسي وبصعوبة استطعت أن أقلم أصابع يديه وأساعده في جمع أظافرة من الأرض، وأراد أن يقبل يدي فانتزعتها من يده، كان الأحباب ينظرون إلي باستغراب فقلت لهم : هذه الأصابع التي قلمتها ليد كانت تمسك البندقية في الليالي الباردة دفاعا عن النساء والولدان والمستضعفين وأرجو أن يكون عملي هذا مما يرحمني الله به يوم القيامة. في هذه اللحظة جاء شيخ كبير فجلس بيننا ومددت يدي إليه لأصافحه ولكنه مد إلي يده اليسرى فصافحني بها، فسألته المترجم فقال : يده اليمنى معاقة بسبب قذيفة روسية، ثم كشف أحدهم عن كوفيته وقال : انظر أثر الشظايا في رأسه، فرأيت عدة حفر تشهد له بالجهاد وتشهد للروس بالجريمة، ثم أخبروني أن هذا الشيخ كان من قادة جبهات الجهاد أيام الزحف السوفيتي على البلاد، فلما خرج الروس ترك القتال وعاد إلى مسجده ولم يشارك في قتال بعدها. كانوا يتهامسون فيما بينهم فقال المترجم : يريد الأحباب أن يسموا منك تلاوة العشر السور، فقرأتها لهم وكأن على رؤوسهم الطير. فقال أحدهم : أحب أن تقرأ سورة الواقعة، فقرأت وهم ينصوت بخشوع، فقال الآخر : سورة الرحمن، فتلوت مطلعها. فقال المترجم : نريدك أن تخرج معنا إلى أفغانستان تشكيل لمدة سنة. فقلت : بلادكم بلاد حرب من عشرات السنين، فضجوا بالضحك وقالوا : نحن الآن في جهاد الدعوة إلى الله تعالى، والحرب الآن في بلادكم أنتم. رأيت أن السمرة طالت وبدأ الأحباب عن يميننا وشمالنا يخلدون إلى النوم. فانسللت منهم واستلقيت بجانب الشيخ أبي بكر الذي كان يغط في نوم عميق. ناصر الوليدي - رايوند - باكستان