قد يبدو من الوهلة الأولى ومن العنوان أنني سأسترسل في الحديث عن " قرد إفتراضي" بقصد الإشارة من باب الغمز واللمز للوصف المتداول عندنا تجاه أي شخص يتمتع بسلوكيات أو تصدر عنه تصرفات تكون أقرب إلى القرود منها إلى البشر سواء من حيث الشقاوة والمرح أو من حيث قدرته على التدمير والعبث ونشر الفوضى، وفي أحيان كثيرة يكون هذا الشخص أو/ الأشخاص من أقرب الناس إلينا أو من المتواجدين معنا وحوالينا في محيطنا الاجتماعي والمهني، ولكن كلا، ليس الأمر كذلك، فإن حديثي وقصتي هنا عن قرد حقيقي " بشحمه ولحمه" اقتنيته ذات يوم عندما كنت طفلة صغيرة في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وكان أسمه " صالح الربح"، وإليكم القصة، كل أصدقائي ومعارفي وجيراني ممن عرفوني منذ طفولتي وحتى الآن، يعلمون مدى حبي وتعلقي بالحيوانات والطيور وشغفي الكبير في اقتنائها وتربيتها بل وبيطرتها أيضاً، وخصوصاُ الكلاب. فكان أن اقتنيت وربيت الكلاب والأرانب والقنافذ والسلاحف البرية والهامستر والغنم والقطط والدجاج والبوم والببغاء والحمام والعصافير و قرد واحد فقط! وقد واجهتني في سبيل تربيتها والحفاظ عليها قصص طريفة وبعضاً منها مؤلمة يطول تعدادها وسردها، وكلما أكبر تكبر انشغالاتي وهمومي ويتناقص وقتي وشغفي مما اضطرني إلى التخلي عن هواياتي شيئاً فشيئاً إلى أن وصلت للحد الأدنى، حيث أحتفظ حالياً بعشرات من العصافير وعدة سلاحف برية! في أحد الأيام السعيدة، فاجأني العم جرادة ، وهو الشاعر الكبير الراحل محمد سعيد جرادة صديق والدي وجليس ديوانه/ مقيله اليومي، بأن أحضر لي قرد صغير السن لطيف الهيئة كهدية منه وقال بأن إسمه "صالح الربح" ، ولم تسعني الدنيا من الفرحة، وبعد مفاوضات مضنية تمكن العم جرادة ووالدي من إقناع والدتي، والتي عندها فوبيا شديدة تجاه الحيوانات وخصوصاً الكلاب والقرود، وتم تجهيز مكان مناسب للقرد في حديقة المنزل، حيث تم تقييده بحبل الى شجرة كبيرة تقع في في بداية المدخل الخارجي لبيتنا، وهكذا أستقر صالح الربح ببيته الجديد وسعدت أنا وأخوتي وبقية أصدقائنا من أطفال الجيران بهذا الضيف الشقي المرح المبهج، ومرت الأيام وتوطدت خلالها العلاقة والصداقة مع هذا الضيف المميز الذي أصبح تحت رعايتي المباشرة وسيطرتي الكاملة، وكم لعبنا معه و أضحكنا بتصرفاته القرداتية المرحة كتقليده للحركات أو عند أكله لبذور اللب – الزعقة - وتقشيرها بطريقة فريدة أو عند قيامه بكل حنان بنكش ونعيشه شعورنا وتنقيتها من " القمل المفترض" كما تفعل الأمهات! وغيرها من التصرفات الباعثة لأجواء المرح والبهجة بيننا. كذلك حظى "صالح الربح" باهتمام المارة والزوار ومداعبتهم، ولاسيما أن بيوتنا في حي السفارات وكل أحياء مدينة خورمسكر في تلك الفترة كانت مكشوفة للمارة وأسوارها الحجرية المحيطة بحدائق معظم البيوت لاتتعدى المتر إرتفاعاً من الأرض، لقد كان قرداً مدللاً سعيدا ينعم باهتمام ورعاية من الجميع، ونحن كذلك كنا أطفالاً " قرود بشرية " أشد سعادة به! في عصر ذات يوم غير سعيد بالمرة، أفلت قردي من قيده، ولم ندري به إلا وقد تخطى حدود الحديقة والأشجار وأخترق باب المنزل الداخلي ودخل يسرح ويمرح من غرفة إلى أخرى، يتشبت بهذه الستارة ويقطعها ثم يقفز إلى مروحة السقف ويتدلى منها، ثم يجري خلف هذا ويتوقف عن ذاك، ثم يقفز إلى أعلى الدولاب وينزل منه وهكذا، وطبعاً علا الصراخ في بيتنا، صراخ والدتي طبعاً، وكأن صالح الربح كان يغيظها تحديداً، فيجرى ورائها ثم يقف ويعود وينظر لي ثم يذهب إلى مكان آخر وهكذا يعيد الكرة مرة تلو أخرى وكأن به مس من جنون، من لطف الله أن أمي تمكنت من الدخول لأحدى الغرف وأقفلت الباب عليها واستمرت بالصراخ وطلب الاستغاثة إلى أن حضر والدي وتولى تهدئتها كما توليت أنا مسئولية تهدئة قردي والسيطرة عليه وأعادته إلى موقعه، هكذا في أقل من ساعة عرفت معنى قدرة القرود على التدمير والفوضى وإثارة الرعب! بطفولتي البريئة اعتقدت أن الأمر أنتهى، قرد شقي وأفلت من قيده وكان غرضه اللعب والمرح معنا ليس إلا، وأن والدتي بذعرها وصراخها هي من تسببت في توتره وجريه هنا وهناك مما أدى لكل تلك الفوضى والدمار، ولكن الأمر لم ينتهي كما رغبت وأعتقدت، لازلت أتذكر والدي وهو يحاول عبثاً أن يهدئ من روع أمي وغضبها من القرد وتصرفاته، وهي رأسها وألف سيف تحمل والدي والعم جراده السبب في وجوده وأن عليهم إخراجه كما جابوه " أبداً لن يكون... يا أني يا هو بالبيت" أي أما أن تبقي هي بالبيت أو يبقى القرد، وطبعاً بقت هي وكان على قردي العزيز المغادرة! وقضيت الليل وأنا أبكي ووالدي يطيب خاطري ويقنعني بأن غدا سنأخذ القرد إلى مكان أحسن سأراه واقتنع به بنفسي! في صباح اليوم التالي، تحركنا بالسيارة برفقة أخوتي ومعنا قردنا العزيز إلى بستان الكمسري في الشيخ عثمان، وطول الطريق كان قردي يجلس هادئاً مطمئناً فوق ركبتي وأنا ممسكة به وأداعبه وأمسح بيدى على رأسه ويديه كتوديع آخير. وصلنا الكمسري، وكان حينها بستان حقيقي بكل ماتحمله الكلمة من معنى بطريقته الداخلية النظيفة المنظمة المرصوفة و بأشجاره الكبيرة المتلاصقة الوارفة الظلال ، وهناك بجانب شجرة كبيرة أوقف والدي السيارة وطلب منا توديع القرد وإفلاته من يدي، فقلت له: ولو خاف ورجع؟ قال: لن يفعل لأن هذه الأشجار بيته وبيئته وسيجد أصحابه القرود ويلعب معاهم أحسن من عندنا، فكررت عليه: وإن لم يعجبه وعاد لنا؟ رد والدي فوراً: في هذه الحالة سنأخذه ونعيده للبيت معنا، حينها طمأنتني إجابته، فأنا أثق بوالدي كثيراً لأنه إن وعد صدق. ودعنا قردنا العزيز، وفعلا بمجرد خروجي من السيارة وإطلاقه من يدي جرى مهرولاً نحو الشجرة وتوقف تم ألتفت إلينا وتردد قليلاُ و كأنه في حيرة من أمره، تم استدار وتابع هرولته نحو الشجرة وتسلقها بسرعة واختفى عن أنظارنا، بالضبط كما يحدث في الأفلام التي رأيتها لاحقاً عن قصص القرود المستأنسة، وكانت تلك آخر مرة رأيت قردي فيها! ومن باب التأكد والمصداقية، بقينا ساعة أو أكثر في نفس الموقع ولم يظهر القرد، ثم عدنا في يوم آخر بنا على طلبي و إلحاحي ولم نجده أيضاً، حينها فقط تأكدت واقتنعت بأن قردي حر طليق وسعيد في بيته الطبيعي وبين أقرانه القرود. وأستطيع أن أدرك الآن أن والدي حينها تنفس الصعداء، فماذا عساه فاعلاً فيما لو أن صالح الربح كان قد تأنسن زيادة عن اللزوم بفعل وجوده معنا وتخلى عن فطرته وقرر العودة معي مفضلاً الحياة في حي السفارات بدلاً عن بستان الكمسري؟ كيف كان والدي سيتصرف تجاه أمي وتجاهي وأي جانب سيختار؟ الحمدالله أن قردي العزيز لم يقاوم فطرته وحسم أمره وقرر البقاء قرداً طليقاً يتسلق الأشجار في بستان الكمسري ولم يضع والدي في محك الاختيار بين أحد أمرين أحلاهما مر كما يقال! لا أزل حتى اليوم كلما أمر بجانب بستان الكمسري أتذكر هذه الحادثة وأسأل نفسي ياترى من أية بوابه أدخلنا والدي وأين المكان الذي توقفنا فيه لينطلق ذلك القرد الشقي نحو شجرته/ بيته المفترض! وأبتسم وأتذكر والدي وأدعو له، لقد كان أباً حقيقياً بكل ماتحمله الكلمة من معنى، رحيماً عطوفاً حنوناً لايكسر خاطرنا أو خاطر كائن من كان، رحمة الله تغشاك يأبي. أفتقدك كثيراً فقد كنت نعم الوالد ونعم النصير!