ذهبت لزيارة الحارة التى ترعرعت فيها ونشأت ، *( زيارة عيد )* ، الحارة التي اتيتها طفلا من الريف ، الحارة التي لي فيها ذكريات العمر ، ذهبت لزيارتها وزيارة اهلها في مدينة عدن القديمة *( كريتر )* ، ولكن هالني ما رايت ، لقد رايت المجاري تطفح ، ورايت اكوم الزبالة المبعثرة هنا وهناك ، ورايت الناس يمشون في نهر الشارع فلم يعد يوجد شئ اسمه رصيف المشاة *( الفوت بات على قولتنا ايام زمان )* ، فاغلب الارصفة تم البناء عليها حتى ان بعضهم اخذ يبني في نهر الشارع . شارع حارتنا الذي كان يتسع عرضيا لثلاث سيارات اصبح اليوم لايتسع الا لسيارة واحدة ، وتكون مشكلة لو صادفتك سيارة من الاتجاه الاخر فما على احدى السيارتين الا ان تعود للخلف ( ريوس ) . شارع حارتنا الذي كان في يوم من الايام في الزمن الغابر ( زمن الطفولة والصباء ) نظيف جدا ، ويصعب ان تجد فيه حجرا صغيرا واحدا او علبة سجائر فارغة او حتى عقبا من اعقاب السجائر ، اصبح اليوم اشبه بمكب للنفايات . شارع حارتنا الذي كان يمتلك شبكتين لتصريف المياه احدهما لتصريف مياه الامطار والاخرى لتصريف مياه الصرف الصحي ، جرى لهاتين الشبكتين تدمير ممنهج ومتدرج في عهد الوحدة المبركة لكي تصبح مدينة عدن قرية او دون ذلك ، لكي تكون شبيهة بصنعاء ، ومافيش حد احسن من حد ، واصبح اليوم الشارع نفسه مجرى لمياه الامطار والسيول ومياه الصرف الصحي ، ومرتع لبرك المياه العادمة والآسنة ، والروائح الكريهة ، خليط من هذا وذاك تقشعر له الابدان والنفوس ، ويضيق صدر المرء عندما يشاهد المخلفات الآدمية وهي تتهادى وتنساب في وسط الشارع في منظر بشع ومقزز ، لقد تألمت من رؤية ذلك المنظر . وفجاءة وانا في تلك الحالة تذكرت خالتي *( الهندية )* وهذا هو لقبها الذي كنا نناديها به ، ونحن اطفال في المدرسة الابتدائية لقد كانت عطوفه علينا جدا وكانت توقف السيارات لنا لكي نعبر الشارع بامان . خالتي *الهندية* كانت المشرف المسؤل عن تنظيف شارع حارتنا والشوارع المتفرعة منه ، وكان تحت مسؤليتها اكثر من 20 منظف ومنظفة ( مكنس ومكنسة ) ، ولم تكن خالتي *الهندية* تكتفي بالاشراف على العمال بل كانت تشاركهم العمل وكانت تكنس معهم وتنظف الشارع وتعطي نصائحها وخبرتها للمستجدين في العمل ، وكان دوامهم يبداء من الساعة الخامسة قبيل الفجر ، وليس امامهم الا ساعتين لتنظيف الشارع وتفرعاته ، اذ ان عليهم الانتهاء من عملهم في الشوارع قبل الساعة السابعة صباحا ، وهو الوقت الذي يبداء فيه الدوام الرسمي للموظفين في الدوائر الحكومية والعامة والخاصة . خالتي *الهندية* كانت مثال للانضباط والاستقامة والامانة في العمل ، وكانت عفيفة النفس نظيفة اليد ، لا تقبل على نفسها ابدا ان تستلم نقودا او مالا من احد ، حتى لو كان على سبيل الهدية مماجعلها تحضى باحترام وتقدير شديدين من سكان الحارة وكانت لها هيبة كبيرة لدى الاخرين وكانت لديها آنفة واعتزاز بنفسها وعملها . *عفة النفس تلك ونظافة اليد التي كانت تمتلكها خالتي الهندية بالامس ، لو تم توزيعها اليوم على اعضاء الحكومة والمسئولين لكفتهم وزيادة .* كان الشحارية ( اصحاب البقالات ) والمقهوية ( اصحاب المقاهي ) هم اكثر الناس يخشون خالتي *الهندية* اذا لامجال لديها ولامساوة في مسالة نظافة الشارع ، ولانهم اقل التزاما بهذا الشان ممايعرضهم للغرامة والاغلاق لعدة ايام . لقد ماتت خالتي *الهندية* وهي واقفة مثل الاشجار الباسقة ورحلت الى العالم الاخر في صمت . *الله يرحمك ياخالة ، لقد كانت حارتنا وشوارعها عنوانا للنظافة في عهدك ياخالة* .. اننا اليوم احوج مانكون اليك والى امثالك فقد جسدت افعالك حب الوطن والوطنية الحقة الصادقة في انصع صورها . نسال الله ان يبشبش الطوبة التي تحت راس خالتي *الهندية* ، وان يرحمها ويجعل قبرها روضة من رياض الجنة ، وان يسكن حلالها الفردوس الاعلى في الجنة . *قولوا آمين* .