يعتقد السطحيون أن الحوثيين يبعثون رسائل من خلال جرائمهم بحق أعوانهم، أو أن صراع الأجنحة الدموي قد بدأ، وقلد السطحيون بعضهم بعضا في تأكيد أن الحوثي يرتكب جرائم السحل والتنكيل بأعوانه، لأنه لا يثق بهم بعد كانوا جنودا أفراد قبائلهم لخدمة مشروع الحوثي، أو أنه يعاقب كل من يفكر بالتمرد عليه، وهنا يبدو الحوثيون وقد سبقوا هؤلاء في التفكير والتخطيط كثيرا. وصل الحوثيون إلى مرحلة يعتقدون أنهم امتلكوا فيها كل النفوذ والقوة اللذين يمكنانهم من تطهير المجتمع من كل أشكاله التنظيمية، ومن ذلك القبيلة، ومن كل النخب القيادية، بما فيهم المشائخ الذين قاتلوا معهم وساندوهم في حربهم وانقلابهم. لم يكن المجتمع اليمني قبل صعود الجائحة الحوثية يعيش حالة مثالية أو نموذجية؛ كان مجتمعا منقسما يعيش نزاعات متعددة، وفي مستويات متوازية ومتقاطعة، وعمل نظام صالح على إغراقه في الأزمات والصراعات كوسيلة لإدارته والسيطرة عليه. استفادت جماعة الحوثي من ميراث صالح، ومن خلال التحالف معه، ومن ثم الاستيلاء على مؤسساته وأجهزته؛ تعلمت الكثير من وسائله وأضافت لها ما لقنها إياه نظام الخميني في إيران، وما توارثته من أجدادها الذين حكموا اليمن قرونا طويلة، وبدلا عن إدارة المجتمع بالصراعات؛ تذهب الجماعة إلى تجريف المجتمع من كل مظاهر التنوع والتنظيم، وتحويله إلى مجاميع من الرعية التابعين فاقدي القدرة على التنظيم والمواجهة، وهي محاولة لإعادة إنتاج مفهوم الرعية الإمامي بشكل أكثر بساطة، أو لنقل أكثر تبعية، ليصبح مجتمعا بسيطا بلا حراك أو فاعلية، والتنظيم الوحيد الذي يسوده هو تنظيم جماعة الحوثي، وهو تنظيم خارج المجتمع، يسيطر عليه من خلال عمال أو حكام بطرق بدائية، بعد أن تم إفراغ الدولة، على هشاشتها، من كل مضامينها، وسلب المجتمع منجزيه الوحيدين في هذا العصر؛ الثورة والجمهورية. لم تتحرك الجماعة لاستهداف حليفها الرئيسي علي عبدالله صالح وضرب وجوده العسكري والسياسي؛ إلا بعد أن جففت مصادر قوته؛ وبعد أن أدركت هشاشة موقفه الميداني، وهوانه على كل الأطراف التي عوّل هو عليها بانتظار أن تمنحه لقب المنقذ وفرصة الظهور كبطل، كان بإمكان الحوثيين الاحتفاظ بصالح كرهينة يعمل تحت حمايتهم على تخدير أنصاره وإقناعهم باستمرار التحالف بين الطرفين؛ إلا أن استراتيجية جماعة الحوثي أبعد من ذلك بكثير؛ فبقاء صالح حياً ربما يمثل فرصة ما لدى قاعدته الشعبية بالتمرد على هيمنة الجماعة، برغم أن صالح لا يملك مشروعاً وطنيا للخلاص، وهو الذي أوصل البلد إلى هذا الوضع المتسارع في الانهيار عقابا للمجتمع على ثورته ومحاولة لاستعادة السطوة التي خسرها؛ إلا أن امتلاكه قاعدة شعبية من جهة، وعدم وجود طرف حامل للمشروع الوطني من جهة أخرى، يمنح العاجزين وهم أن يكون صالح بطلاً مفترضا. حاليا تمارس جماعة الحوثي تصفيات جسدية بحق النخب والقيادات المجتمعية؛ وأغلبهم كانوا أعوانها، لكن المرحلة المقبلة، ربما تكون بعيدة، ستكون تصفيات داخلية بين القوى والأسر المكونة للجماعة، وثمة أسباب ومبررات جاهزة. هناك مزاعم النسب الأقوى والأكثر صلة بسلالة الأمام علي بن أبي طالب، وهناك سباق على ادعاء بذل التضحيات الأكبر في صناعة ودعم وبناء وتعزيز مشروع الجماعة، وهناك صراع مناطقي بين مكونات الجماعة يرى فيه حوثيو صعدة أنفسهم الأجدر بالحكم والإمامة؛ إضافة إلى صراع التيارات الذي قد يكون امتدادا لصراع مراكز القوى في النظام الإيراني؛ وقد يكون صراع بين تيارات ممولة من قوى إقليمية ودولية؛ إلى جانب تباين المصالح والمواقف داخل مكونات الجماعة. لكن الجماعة لن تذهب إلى صراع الأجنحة داخلها إلا وقد ضمنت تحصين نفسها من المقاومة الخارجية ومن الأعداء الذين تواجههم حالياً، وبرغم أن لها الكثير من الأعداء؛ إلا أن أهم وأخطر عدو بالنسبة لها هو المجتمع اليمني؛ فهي ترى أن لديها القدرة على تثبيت نفوذها؛ وإجبار القوى والتحالفات الإقليمية والدولية على التعاطي معها وتقديم التنازلات لها، وتبادل المصالح؛ لكن المجتمع اليمني هو العدو الذي لن تأمن له الجماعة، وتعرف أنه لن يستسلم لمحاولاتها تركيعه والهيمنة عليه واستلاب تاريخه وهويته ومستقبله، وفي هذا الشأن تعمل على تجفيفه من كل مظاهر التنظيم، بدأت بتصفيته من السياسة وفعالياتها المصاحبة، مثل الصحافة الإعلام، وسيطرت على المجتمع المدني وجيرته لصالحها، وتغلغلت في مؤسسات الدولة؛ فحولتها إلى مؤسسات تنظيمية تبعة لها، ونهبت المال العام نقوداً وأصولا وعقارات، وبنت اقتصادها الخاص على حساب اقتصاد الدولة، وهذا كله إلى جانب ميليشياتها وأجهزتها القمعية المتعددة؛ ووصلت حالياً إلى إفراغ وتجريف المجتمع من آخر ما تبقى له من مؤسساته التنظيمية، وهي القبيلة التي، وبرغم أنها قبل وطنية وقبل الدولة؛ تعدُّ شكلا تنظيميا متماسكا لديه قوانينه وأعرافه الخاصة التي تحفظ لها التماسك وتنظم العلاقات بين الأفراد والقبائل بعضها البعض؛ خصوصا في غياب أو فشل الدولة. وإذا كانت مظاهر صراع الأجنحة داخل جماعة الحوثي قد بدأت؛ إلا أنها لم تتخذ بعد الطابع الدموي التصفوي، فكما سبق الإشارة؛ لم تصل الجماعة إلى الطمأنينة من أعدائها الخارجيين، وكل جناح داخل الجماعة يتحفز وينتظر تثبيت المشروع الحوثي؛ وتأكيد نفوذه على المجتمع، والوصول إلى تسوية مع الخارج؛ أو صيغة تضمن وقف الحرب التي تستهلك وقتها وجهودها؛ وإن كانت تزيد من تماسكها. بدأت مظاهر صراع الأجنحة داخل الجماعة من خلال التنافس على المناصب في المؤسسات الإيرادية المهمة، والسيطرة على مصادر النفوذ من مال وسلاح ومقاتلين، وتبدو أسرة الحوثي هي الأقوى في المرحلة الحالية، والتي تملك القدرة على السيطرة على هذه المصادر، نظراً لما قدمته من تضحيات في خدمة المشروع، ولأنها هي الحامل الرئيسي له، وواجهت كافة التحديات من أجله منذ البداية؛ في حين كان الآخرون يمارسون التقية أو يوالون الخصوم؛ أو يعيشون في حماية نظام صالح، في حين تشير معلومات غير مؤكدة؛ إلى وجود قيادة أخرى خفية وأكثر سيطرة من أسرة الحوثي تتحك