“كتاب العزلة” للشيخ أبي سليمان الخطابي فريدٌ في بابه، فقد جمع ما قيل عن آداب العزلة على لسان خلفاء ومتكلمين ورواة وشعراء. ولعل أطرف ما نقله عن مجاور قبور سُئل عن سبب مجاورته لها فقال: “أجاور قوماً لا يغدرون”، قاصدا الموتى. أو في نصح مفاده أن يهرب الانسان من بني جِلدته “كما يهرب من الأسد”! وربما أقساها وأكثرها سخطا على طريقة الشاعر الفرنسي بودلير بقوله “ساخطٌ على الجميع وساخطٌ على نفسي”، ما نقله عن أبي الدرداء إذ يقول: إنك لن تتفقه كل الفقه حتى تمقت الناس.. ثم ترجع الى نفسك فتجدها أمقت من سائر الناس”! الحقيقة ان أغلب اقتباسات الخطابي ذات طبيعة شخصية. فكل الأشخاص الذين نقل عنهم قولا في العزلة، كانوا قد مروا بتجربة ما في واقعهم المعاش. فمنهم خاسر حرب أو مطرود سلطة أو مخذول أهل أو فاقد أمل. حينها ليست “العزلة” نظرة الى العالم، وليست نسقاً معرفيا. خصوصا أن”العزلة” لا تتوافق والمحاذير الدينية التي ترى فيها ابتعادا عن خلق الله وانصرافاً عن معجزة الخلق وكذلك اقترابها المفهومي من الرهبنة. كل هذا جعل من حديث العزلة محفوفا بمخاطر التناقض مع الخطاب الديني. لهذا لا نجد في مقبوسات الخطابي إلا نظرة للعزلة بصفتها رد فعل أو في أحسن الأحوال تكون تخلصا من الشغب الخارجي أو هروبا من مستلزمات صراع ما، هنا أو هناك. إن أشهر الأدباء المتصفين باعتزال الناس، من دون منازع، هو صموئيل بيكيت. الأكثر صمتا وابتعادا عن الآخرين، جيمس جويس، يقول إن جلسة جمعته وصموئيل بيكيت لساعتين، لم يتكلما فيها أي كلمة! ومن الأدباء الصامتين ديستويفسكي الذي كانت تحكمه “خلطة” ثقافية سلافية ومسيحية وارستوقراطية جعلته أقل تكلماً، وماهرا في الانصات ومراقبة العالم الخارجي بعينيه القلقتين اللتين ظهرتا، بقوة، في شخصية “الأبله” الأمير ميشيكين. على غير عادة تولستوي الذي بسبب ميله المبكّر والقوي ل “العدالة الاجتماعية” كان يحدث الفلاحين والعمال كثيرا والذين فرحوا بالأراضي التي وزعها عليهم أكثر من فرحهم بكلماته. النموذج الأقوى الجامع ما بين العزلة المتعالية والعزلة التي تتسبب فيها الهزائم، هو المتنبي، شاعر الشعراء في كل عصر. الشاعر “المدَنِيّ” لو تُقْبَل التسمية هنا! مَدَنيٌّ لأنه يؤمن بالصراع والتضاد وأنه لا مهرب من الجمع بين القوة الخارجية وقوة الداخل. هذا النموذج الامبراطوري كان الأفضل بلا منازع: ( وما الجمع بين الماء والنار في يدي، بأصعب من أن أجمع الجدَّ والفهما). طلاق مع عزلة الخطابي، وعزلة ديستويفسكي وبيكيت. إن ما منحته قوة الدولة واتساع رقعتها، للمتنبي، لم تمنحه لشاعر آخر. هو الوحيد الذي تلقف الرسالة وفهمها جيدا، بأن قوة الذات الشاعرة المستمدة من الحس الامبراطوري الذي لا يُحَد، لا تنعزل. كل الانعزاليين أو كل محبي العزلة كانوا مكسورين لسبب ما، فببيكيت وجويس وديستويفسكي، وغيرهم من نفس المَيل، كسرهم الحس التعبدي المتصوف ( صموئيل بيكيت وانتظاره الالهي الشهير، ديستويفسكي وهوسه بالمخلص الذي لا يأتي). إلا المتنبي، الذي فهم المستحيل تجربةً معاشة، وبقوته ولا عزلته نختم، وليلاحظ القارئ هذا التشوف العجيب الذي لا يقبل الا منه: نحن أدرى وقد سَألنا بِنَجْدٍ: أطويلٌ طريقنا أم يطولُ! أو أشهرها في بابها: إذا فلَّ عزمي عن مدى خوف بعده فأبعد شيء ممكن لم يجد عزما!