ما حصل، في السابق، مع المطرب الشعبي المصري الشهير أحمد عدوية، يتكرر الآن، وبالآليات ذاتها، مع السينما المصرية الجديدة. فقد خضع عدوية إلى نوع من الإنكار والتجاهل، بحجة إظهاره لنوعية من “الفن الهابط” الذي لا يرتقي بحال من الأحوال إلى صورة الفن التي قدمها، مثلا، عبقري موسيقى الأجيال محمد عبد الوهاب، أو بقية القامات الضخمة التي قدمتها مصر والمعلومة للجميع كأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش. كان عدوية “تهمة” في الإعلام، وكان الحديث عنه يشبه الحديث عن “خطيئة” يجب التخلص منها. إلى أن تغير المزاج، في شكل أو آخر، تحت ضغط تغير المزاج الفني أيضا، فأصبح عدوية موجة داخل الإعلام الرسمي تم الاعتراف بها بعد تجاهل وصل حد التنكّر. وتبين أن إنكار هذا النوع من الأداء الفني ليس أكثر من صورة نموذجية يصطنعها الاستعلاء والتضخم في وعي الذات.
تتعرض سينما المخرج خالد يوسف إلى ذات النوعية من الإنكار بغض النظر عن انحياز جزء من النخبة لأفلامه ويضاف إليها تهمة علنية بأن أفلامه تظهر وجهاً سلبيا فاقعاً للمجتمع، بل واتُّهم بتشويه صورة المجتمع الذي ينتمي إليه أو تتحرك فيها شخوص أعماله. ولعل الملخص الدال على ما أثارته سينما خالد يوسف يتمثل بما قالته الدكتورة عزة كريم، وهي الباحثة في علم الاجتماع، بأن فيلم: (“حين ميسرة” ساعد في انتشار ظاهرة التحرش الجنسي في مصر) عبر استخدامه هو وغيره ل”الألفاظ الخادشة والترويج للإدمان والسلوكيات المنحرفة تحت مسميات الفن والإبداع”. وذلك في لقاء مع الإعلامي الكبير عماد الدين أديب. لكي يصح كلام الباحثة فيجب أن تكون سينما الأكشن الأميركية مثلا مروجةً للمخدرات وداعيةً للقتل والاغتصاب والجريمة المنظمة.. وكذلك يجب أن يكون المخرجون في السينما الأميركية مروجين للمافيا الإيطالية! لا بل إن مجمل أفلام “الويسترن” التي قدمت أعظم آثار السينما الخالدة، قد تكون، بمثل وعي الباحثة، مدرسة للتدريب على إطلاق النار!
ما حصل مع عدوية يتكرر. فرغم تمثيله لشريحة واسعة من المجتمع، تم إنكاره بحجة النموذج الفني النقي. وكذلك تتهم الأفلام الجديدة من زاوية “تشويه” النموذج الاجتماعي والفني النقي الذي يجب التستّر على لا واقعيته. ولعل اتهام أفلام خالد يوسف بزيادة التحرش الجنسي في مصر، كما قالت الباحثة، هو أكبر ترويج للتحرش الجنسي، في الأصل، كونه على الأقل، يغفل الدافع الأصلي!
النقاء “الوهمي” لم يعد له أي جاذبية في الفكر الحديث، لا بل إن تشويه هذا النقاء وتحطيمه يُعَد عملا نقديا وإبداعيا في المقام الأول. وهو ما قامت به أساسا، السينما المصرية التي إليها يرجع هذا الدور النقدي الكبير عبر تفكيك الشخصية وإحالتها الى مختبر الواقع الذي يظهرها بحجمها الطبيعي وحقيقتها الاجتماعية. ولعل أدب نجيب محفوظ يقوم برمته على هذا الفهم “الأرضي” للشخصية وتخليصها من نقائها الوهمي، حيث يقع كل الأبطال في “خطيئة” وتتجه الشخوص نحو الجريمة بصفتها وعيا مفكِّكا للنقاء/ الطهرانية. ومن هنا يمكن وصف نجيب محفوظ بأنه أكبر مثقف نقدي في تاريخ الثقافة العربية، ولا ينازعه في هذه المكانة حتى المثقفون النقديون بمختلف مسمياتهم التفكيكية والحداثية والبنيوية. هذا فضلا عن أن نصهم نخبويّ مشفّر لم يترك أي أثر في مناهج التفكير العربية السارية.
من أحمد عدوية إلى خالد يوسف ينهار التمثال الشمعي للنقاء، وتتوقف الأنا عن خدمتها اللاّ مشروطة للهوية. وإن كان النموذج السينمائي “يخدش” النموذج الوهمي، فإن الدور الفعّال للسينما العربية، والذي تتسيده السينما المصرية بلا منازع، يبدأ من هذا الخدش الذي، وللأسف، لم يرافقه وعيٌ اجتماعي، على الأقل للفصل والتمييز ما بين أدوار إلهام شاهين، مثلا، في الأفلام، وشخصيتها في الواقع المعيش!