كان يوم حصولي على وظيفة مدرس في وزارة التربية والتعليم- محافظة أبين - مديرية مودية. وجرى توزيعي في نفس المدرسة التي درست فيها المرحلة الابتدائية، فإذا التاريخ يعيد نفسه، لأجدني هذه المرة طفلا كبيرا بين جدران مدرسة أورمة التي احتضنتني طفلا صغيرا، وإذا بي أسلك الطريق يوميا من قريتي منصب إلى قرية القرن حيث تقع المدرسة مسافة واحد كيلو، نفس الطريق الذي سلكته مدة 12 سنة منها 8 في أورمة و 4 في مودية. هذا الطريق نفسه الذي وطأته خطوات ذلك الطفل وكانت خطواته تكبر سنة بعد أخرى كما تكبر معارفه وعظامه وكما تكبر رؤيته للأشياء، مازالت الكثير من الأشجار على جانب الطريق تحتفظ بوجودها رغم زحف السنين، ولا زالت الطيور تغني على أغصانها ومازالت الأغنام والإبل تداعب الأغصان الخضراء. يا إلهي أين أصحابي؟ لقد كانوا يوما هنا، كنا نتقافز على سور المدرسة ونتسلق الأشجار ونتلاعب في ظلها، هنا كنا نتدافع على الأبواب حين نسمع جرس المدرسة، فعصا الأستاذ لن ترحم المتأخرين. يا إلهي : إنها نفس غرف الدراسة بجدرانها وسقوفها وبعض العلامات والذكريات فيها. هنا الصف الأول حيث كنا نجلس على الأرض صفوفا وعبد الله المعلم يغني لنا بأناشيد (مدرستي) (وكرة القدم)، وشيخ محمد يردد لنا نشيد (يا إله العالمينا). أين ذهب شيخ محمد ؟ لا أدري قيل أنه ترك التدريس وغادر البلاد. هنا الصف الثاني حيث كان الأستاذ شيخ علي يعلمنا درس (الجندي أحمد) ونحن ننظر إلى الكتاب فترى صورة جندي يقف بشموخ. هنا الصف الثالث حيث كان الأستاذة صباح تطل علينا كل يوم مبتسمة ابتسامة الأم الحنون وكانت تحول الدروس إلى قصص جميلة. هنا الصف الرابع حيث كان الأستاذ نصر الظنبري يكرر علينا نشيد (الفتاة والعصفور)، ويدربنا في الإملاء أن نكتب بالطباشير على السبورة. هنا الصف الخامس والذي تزايدت فيه المواد المقررة ومنها الانجليزية التي كان يدرسها الأستاذ الفذ أحمد سالم قشور والأحياء التي بدأ فيها الأستاذ علي محمد ثم غادر إلى السعودية فعاد منها بعد ثلاثين سنة ليستقر في مودية يصحب معه السكري وغيرها من الأمراض التي أودت بحياته. هنا الصف السادس واستاذها عبد الكريم بلعيد الذي غادر إلى الإمارات ثم عاد كما ذهب ولكن بعد عشرات السنين . هنا الصف السابع وأشهر حدث فيه فرحتنا بالطلاب القادمين من عدن والذين جاءوا بعد أحداث 13 يناير. هنا الثامن هنا المزرعة، والورود مازالت تتوالد فيها الشتلات هنا المختبر الذي جفت معظم محاليله . أدور بين الفصول والساحات وتحت الأشجار أبحث عن بقاياي المتناثرة، هنا ابحث عن قلقي ومشاعري ونشيدي وضحكتي، عن خطوات لعبي، هنا كنت يوما أنظر إلى آثار خذائي الجديد فرحا مسرورا. هنا أبحث عن ذكريات أصحابي فمنهم من غادر الحياة ومنهم من غادر البلاد ومنهم من ذهب إلى المدينة. أدور في ساحة المدرسة كالذي فقد شيئا عزيزا، إنني أبحث عن سنوات عمري التي تناثرت هنا فتطايرت كما تتطاير حبات الرمل في يوم عاصف . مازالت الأشجار في مواقعها، وعمود العلم حيث نقف كل صباح نردد النشيد الوطني لازال في موقعه وجبل البصرة يتعالى شامخا متعجرفا بنظراته إلى أولئك الصبيان الذين يمرون عليه كما مرت قبلهم القرون. اليوم أصبحت معلما وحولي الطلاب بثياب أفضل من ثيابنا وأدوات مدرسية أفضل من أدواتنا وكتب جميلة ونظيفة أفضل في مظهرها من كتبنا. ومررررررت السنوات تترا فإذا أبنائي يصبحون طلابا يصحبوني إلى المدرسة فإذا بي أفقد الكثير من ذكرياتي والكثير من أصحابي والكثير من سنوات عمري، لم أعد أرى نفسي في الأفق حيث تشرق الشمس وتغيب بل أصبحت أنظر إلى ذاتي في وجوه أطفالي لتتناسخ أحلامنا وهمومنا وطموحنا. اليوم لو عاد الزمان من جديد هل سأسلك طريق الوظيفة تلك أو سأختار طريقا آخر؟ لا أدري ولكن هذا قدري الذي خط في لوحي، فسارت الخطا حيث رسمت المقادير. ناصر الوليدي