أظهرت منظومات الأمن الجماعي الدولية تراجعاً لا بل فشلاً ذريعاً وواضحاً في مواجهة أزمات غير عسكرية شهدها العالم وهو ما قد يجعل مفهوم الأمن الجماعي عرضة للتبدل أو الإنهيار وذلك رهناً بكيفية التعامل مع العدوى الفيروسية التي تجتاح الكرة الأرضية في الأيام القادمة، وبدأت الجائحة تولد الأزمات الممتدة التي تتخلق عن أزمة رئيسية وهي كما تعرفها منظمة الفاو عبارة عن سياقات حادة تتعرض فيها نسبة كبيرة من السكان إلى الجوع والمرض وعرقلة سبل كسب العيش لفترات مطولة مع الإشارة إلى أن جميع الدول التي عانت من أزمات ممتدة شهدت تقريباً نزاعاً عنيفاً على مدار فترات زمنية طويلة وهذا ما ينذر بتراكم هذه الأزمات ونشوء نزاعات جديدة بسبب كورونا. ويطرح انتشار الجائحة سؤالاً جديداً يضاف إلى سلسلة الأسئلة القديمة حول دور الأممالمتحدة الحقيقي في وضع حد للصراعات في شتى أنحاء العالم فأين دور هذه الأمم الحقيقي في مواجهة كورونا؟ وأين مفهوم حفظ الأمن والسلم الدوليين مما يحصل اليوم في انحاء مختلفة ومتفرقة من العالم؟ ولماذا لا تتحرك الأممالمتحدة بشكل سريع لمواجهة هذه الأزمات والنكبات والكوارث؟ وأين محورية دورها الذي يفقده العالم بشكل جدي أمام كل أزمة؟ أوليس الأمن الصحي هو جزء لا يتجزأ من السلم والأمن العالمي؟! هذه الأسئلة وغيرها من الصعوبة في مكان الإجابة عنها لدى مسؤولي هذه المنظمة كما أن العدد الهائل من الأزمات دائماً يبدو مستعصياً على الحل في الوقت الذي تقف فيه المنظمة الدولية عاجزة تماماً عن القيام بدورها. تقوم الأممالمتحدة منذ تأسيسها في 26 يونيو "حزيران" من العام 1945م في "سان فرانسيسكو" على مقاصد متعددة اهمها حفظ السلم والأمن الدوليين وإنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها وتحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى قواعد تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وجعل هذه الهيئة مرجعاً لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها نحو إدراك كل هذه الغايات المشتركة، لكن للأسف لم تتمكن هذه المنظمة الدولية من تحقيق هذه المقاصد بشكل فاعل حيث يسود العالم توترات كبرى جديدة في الجغرافيا السياسية العالمية حيث تشهد العلاقات بين عدد من الدول العظمى تدهوراً سريعاً يرافقه تقارب استراتيجي جديد بين دول اخرى وهناك تحولات اقتصادية عالمية عميقة حيث تعد الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم لكنها ستصبح أكبر اقتصاد في العالم وستحل محل الولاياتالمتحدة بعد أكثر من 150 عاماً من الهيمنة الإقتصادية العالمية الأميركية، ورغم أن قضايا الأمن والسلم الدوليين هي من المعضلات الأساسية في العلاقات الدولية إلا أن هذه العلاقات اتسعت رقعتها لتشمل مواضيع واهتمامات عالمية أخرى تحوز على مصالح إنسانية مشتركة بغض النظر عن مدى تعارض السياسات بين الدول وهي تشمل قضايا البيئة والصحة ومواجهة الكوارث الطبيعية والهجرة وحقوق الانسان إلا أن هيمنة الولاياتالمتحدة على النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة جعل من الأممالمتحدة أداة طيعة في يدها تستخدمها لتحقيق مصالحها السياسية المتمثلة في الهيمنة وقيادة النظام الدولي وتخفيف الأعباء عنها في هذا الاطار. وكشف وباء كورونا المستجد الكثير من العيوب في النظام الدولي ولعل أهمها ما تعانيه الأممالمتحدة من ضعف ووهن وإرتهان وعدم قدرتها على تنفيذ مشاريع الإستجابة السريعة حيث لوحظ تباطؤ دورها في مواجهة هذه الأزمة التي تعصف بالعالم فمنظمة الصحة العالمية وهي احدى وكالات الأممالمتحدة كانت الأقل تعاطياً مع ازمة دولية هي من صميم مهامها وواجباتها الأممية وبإستثناء إعلانها عن كورونا وباء عالمياً الى جانب بعض التصريحات الخجولة لم نلاحظ أي نشاط فعلي في مواجهة الفيروس او وضع خطط وبرامج استراتيجية على الأرض حتى الآن لمواجهة الكارثة الإنسانية التي يسببها هذا الفيروس القاتل، ورغم كل العيوب التي تعاني منها منظمة الأممالمتحدة الا أن اللوم يقع على الدول الأعضاء فيها التي ما برحت تعمل خلال العقدين الماضيين على تهميش هذه المنظمة. قال "داغ همرشولد" الأمين العام السابق للأمم المتحدة بين تاريخي 1953م 1961م : لم يتم إنشاء الأممالمتحدة لإدخالنا الجنة بل لإنقاذنا من الجحيم، فأين دور الأممالمتحدة اليوم في إنقاذنا من الوباء الداهم والفتاك؟. دائماً ما ينظر إلى الأممالمتحدة على أنها مهمة للغاية لأنها تشكل جزءً كبيراً من نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية لدرجة أنها إذا فشلت أو تعثرت فإن ذلك من شأنه زيادة ضعف الإستقرار لنظام عالمي ضعيف أصلاً، وفيما يواجه نظامنا الحالي تحديات جديدة ومتصاعدة ومتفاقمة يبقى خطر الأوبئة والجوائح تحدياً للمجتمع الدولي ويتفاقم هذا الخطر بسبب الزيادة السريعة والمستمرة لعدد سكان العالم ب 83 مليون شخص سنوياً، وفي حين أن خطر الأمراض المعدية على مستوى العالم في تزايد فإن قدرة النظم الصحية العامة الوطنية والعالمية على كشف الأمراض والأوبئة والوقاية منها غير جاهزة. وتعتمد مشكلة الأمراض المعدية في العالم على مجموعة من العوامل من بينها كفاءة النظم الصحية المحلية وكفاءة مستويات التغذية وغيرها من الأمور التي تعد أكثر تعقيداً من الصراعات والنزاعات المسلحة والتي كشفت عن ضعف المنظومة الدولية بعد انتشار جائحة كورونا، لذا فإن فشل منظمة الصحة العالمية في الإستجابة السريعة وبفعالية لأزمة كورونا يسلط الضوء على المخاوف المتعلقة بقدرة منظومة الأممالمتحدة على التعامل بفعالية مع الأوبئة المماثلة في المستقبل، وبموازاة ذلك فإن أزمة البحث عن المضادات الحيوية العالمية ومشكلة مقاومة المضادات الحيوية العالمية عبر العالم الناتج عن الإفراط في الوصفات الطبية والإفراط في الإستخدام تلوح في الأفق كواحدة من أكبر التحديات الهيكلية التي يواجهها المجتمع الصحي الدولي كذلك فإن القدرة المحدودة للخدمات الصحية الوطنية والعاملين في مجال الصحة الدولية والمرافق التي سيتم نشرها على نحو فعال للأزمات في جميع أنحاء العالم تمثل مشكلة لوجستية متنامية. ويبدو أننا نقترب بعد وباء كورونا من نقطة تحول عالمية جديدة تنطلق من افتراضات شهدتها العقود الأخيرة مفادها أن ديناميات المزيد من الإندماج العالمي لا يمكن وقفها بطريقة أو بأخرى لذلك ففي الوقت الذي نشهد فيه ظهور قوى جديدة تهدد بتفريق العالم فإن المؤسسات المنشأة من قبل المجتمع الدولي لتجميع العالم من خلال أشكال تعاونية ذات حوكمة عالمية ينبغي أن تكون لها أهمية أكثر من أي وقت مضى في مقابل تراجع دور الأممالمتحدة. وباتت الدول تكاد تأخذ بالإعتبار دور الأممالمتحدة بالنسبة للنظام الدولي وتهمل الدور المستمر الذي تلعبه في وضع الخطوط العريضة لسير العلاقات الدولية ومن ثم التعامل مع ما يطرأ من أزمات لذلك فلا شيء يبقى إلى الأبد بما في ذلك ديمومة المؤسسات العالمية التي يعتبر تاريخها حديثاً علماً أن من دون الأممالمتحدة فلن يتبقى سوى علاقات هشة متزايدة بين الدول ودور ضئيل في حل الأزمات الدولية وهذا ما يدعو إلى إصلاحها بدلاً من التخلي عنها. ويرى "تريغفي لي" الأمين العام للأمم المتحدة 1946م 1952م أنه لا يزال هناك أهمية بطبيعة الحال للأمم المتحدة وذلك لأن مسألة مستقبلها له علاقة مباشرة بمستقبل النظام العالمي لكونها تعد حجر أساس في النظام العالمي القائم فإذا تلاشى هذا النظام المتعدد الأطراف المتواجد في الأممالمتحدة والذي يعتبر حجر الأساس لنظام ما بعد الحرب العالمية ستكون هناك عواقب غير محمودة، لذا فإن المنظمة الدولية مدعوة اليوم واكثر من اي وقت مضى إلى مراجعة توجهاتها وإعادة النظر في وظائفها وهيكلها وطرق توزيعها للموارد بالشكل الذي يجعلها مجهزة بشكل أفضل لمواجهة تحديات المستقبل.