في عدن قبل عام 1990 أو بالأحرى قبل الوحدة، كان لا يتم تعاطى القات وبيعه إلا في الإجازات والعطل الرسمية، ويومي الخميس والجمعة من كل أسبوع، أما في غير تلك الأيام فالعقوبة بمقتضى القانون زاجرة، وتنفيذها يتم بصرامة.. سمعتُ عن قصة ذلك الرجل الذي أبلغ به جاره أنه يتعاطى القات سرا في بيته بدار سعد، فتم القبض عليه، ومحاكمته، والحكم عليه بالحبس سنتين مع النفاذ.. بعد الوحدة تم نقلي من عدن للعمل في صنعاء، وخلال إقامتي فيها، شاهدت معظم المجتمع يتعاطى القات على مدار الأسبوع.. أكثر الأسواق المزدحمة، وأكثرها صخبا وضجيجا في صنعاء هي أسواق القات.. بعض الأشخاص يتعاطون القات مرة واحدة في اليوم، وبعضهم مرتين، أو ما يعرف بنظام "الشوطين"، والبعض يزيد عليها ما تُسمّى ب "التفذيحة".. شاهدتُ أطفال أعمارهم بين العاشرة والثامنة عشر سنة، يتعاطون القات، منفلتين ومتشردين وعاملين في مهن، وبعضهم يتعاطونه برعاية آبائهم وتشجيعهم، والبعض بعلم أسرهم.. وبعض الزوجات يتعاطين القات مع أزواجهن، أو برعايتهم ودرايتهم, وسمعت عن مجالس "تفرطه" النساء اللاتي يتعاطين فيها القات.. الحقيقة أن الذي يأتي من خارج بيئة القات، يستطيع أن يعرف حجم الكارثة المجتمعية ومدى خطورتها.. عرفت أصدقاء لا يهتموا بالغذاء الجيد، ولكنه يهتموا بالقات الجيد.. وآخرين نفقات تعاطيهم القات أكثر من نفقات غذائهم.. أصدقاء يعيشون على وجبة واحدة يومياُ، ولكنهم يتعاطون القات بانتظام على نحو يومي أو شبه يومي.. ينامون دون عشاء، ويواصلون نومهم الى وقت الظهيرة، ثم يتغدون ويشترون القات بقيمة تصل إلى ضعف قيمة وجبة غذائهم.. بعضهم يعمل ويهدر أجر عمله من أجل أن يتعاطى القات كل يوم، فيما يأكل على نحو يبقيه فقط على قيد الحياة والعمل بالكاد.. إنه مجتمع ينتحر.. كان يفترض وفق ما تم الاتفاق عليه بين قيادة الشطرين لقيام الوحدة اليمنية، أن يتم العمل بما هو إيجابي من قوانين الشطرين، ويفترض أن يتم التشريع بما هو أفضل من قوانين الشطرين، ولكن ما حدث في التشريع وما تم تكريسه في الواقع كان عكس هذا تماما.. ثم جاءت حرب 1994 والتي انتهت باستقواء المنتصر، ومن ثم سير الأمور من سيء إلى أسوأ، وتراكم على تراكم، وفساد على فساد، وحروب على حروب، ليصل الوضع إلى ما وصل إليه اليوم، حتى بات عصيا على التوصيف أو حتى على التسمية.. ولا يمكن لطرف سياسي أو قوى سياسية أن تتحلل من المسؤولية، أو تدّعي أنها لم تساهم بما حدث بنسبة وصيغة ما.. كل الأطراف والقوى السياسية ولاسيما الرئيسية منها قد ارتكبت الخطايا لا الأخطاء، بحق هذا الشعب والوطن.. كان القات في الوعي الجمعي أو السائد ينظر إليه باعتباره يستحث النشاط والجهد والتفكير، فضلا عن كونه وسيلة مهمة لجمع الأصدقاء والزملاء، بل والتعارف أيضا حتى مع الغرباء.. يوثق العلاقات، ويشرح النفوس، ويجلب النشاط والانتشاء، وينشِّط المجهود والذاكرة.. يثير الجدل السياسي، وغير السياسي.. يبعث مشاعر الدفء بين الحاضرين، وربما الحميمية في بعض الأحيان.. أما الأطفال فكانوا يشعرون بالندية والرجولة وهم يتعاطون القات.. غير أن الأكثر من كارثة أن أخطر القوانين والقرارات والسياسيات التي تمس الشعب أو بعض من فئاته، كان مصدرها مجالس القات، وغرف المقيل المغلقة، ولازال هذا قائما إلى اليوم، وربما على نحو أكبر، عند من بقي له قرار.. بعد قدومي إلى صنعاء ومضي فترة وجيزة أحسست إن لم أتعاط القات سأعيش منبوذا وحيدا معزولا منكفئا على الذات.. ومع ذلك خضت صراعا طويلا مع القات قبل أن أدمنه.. شعرت أنني في مجتمع مدمن ومخدر يجمعه القات، وفيه يبدو السوي شاذا، ويبدو الشاذ سوياً.. القاعدة تتحول إلى استثناء والاستثناء يتحول إلى قاعده.. الصحيح يبدو في نظر "المجتمع الخطأ" خطاء، والخطاء يبدو صحيحا في وعي هذا المجتمع .. لم أكن محل سلطة وليس بإمكاني أن أصدر قوانيني لأعممها على المجتمع، ولا قدرة أرغم فيها المجتمع على إنفاذها من غير سلطة.. لا بأس من الميل قليلا.. هكذا ربما فكرت.. اشتريت مساند ومداكي محشوة بنشارة الخشب وألياف أخرى لا أدري صنفها، وربما بعضها صنعناها نحن في البيت بعد أن حشيناها بأشياء أخرى مثل أقمشه قديمة، وذلك كاحتياط أو لسد النقص عند الاحتياج.. كان مقيلي الأول في صنعاء يظم لفيف من الأصدقاء والزملاء والأصهار، جميعهم يتعاطون القات، باستثناء اثنين، هما رفيقي جازم، وزميلي وصديقي وجاري منصر الواحدي.. أما أنا فهناك من حملني أن أقع "أعورا بين العوران" كما جاء في المثل الشعبي، ولاسيما أنني كنت المستضيف للمقيل، وأرغمتُ على التخزين فيه.. صهري محمد المطري "مبحشم" كبير، ومولعي قات من الدرجة الأولى، وبمثابرة يومية لا تنقطع إلا لظرف قاهر، كمرض شديد الوطأة ألزمه الفراش.. خبرته في القات والتخزين والكيف ضاربة جذورها في مدى أربعة أو خمسة عقود متوالية من عمره.. عزمت صهري محمد المطري إلى المقيل معي في أول يوم افتتاح ليشرّف مجلسي.. حضر بقاته وقاتي دون أن أطلب منه أن يشتري لي قات معه، بل لم أكن أعتزم التخزين، وإنما اعتزمت الجلوس مع المخزنين.. غير أن المطري أرغمني على التخزين بالأيمان الغلاظ، والحرام والطلاق.. صديقي ورفيقي ومسؤولي الحزبي جازم العريقي الذي أحببت أن أعرفه بأصهاري في صنعاء لا يتعاطى القات مطلقا، وأستعاض عنه ب "الزعقة" فيما جاري وصديقي منصر الواحدي لا يتعاطى القات ولا الزعقة، وكلما مل ذهب إلى بيته في الجوار وعاد بعد ساعة, فيما رابع وخامس يتعاطون القات، ولكن لا أدري بأي قدر، ولم أخبرهما من قبل. وجدت نفسي أمارس إكراه نفسي على التخزين.. كنت في بداية المقيل وأنا أتعاطي القات، في حال أشبه بحال المحكوم عليه بتعاطي السم.. كنت كلما حشيت ورقة في فمي، أجد مرارتها تلسع راسي، وتلدغ جمجمتي من الداخل كثعبان.. أشعر بالكلفة والإرغام وأنا أتعاطيه.. أحسست في المقيل أنني أتعذب لا أستمتع بمضغ القات.. طلبت شاي أسود بالنعناع والزر، أحسست وأنا أكرع الشاي في فمي إن المطري مستاء مما أفعل، وملذوع أكثر مني، سمعت منه همهمة وبركضة كلام غير مفهوم، ثم أستأنف الحديث في سياق آخر.. شعرت كأنني ارتكبت ثمة خطأ لا أعرف ما هو.. في عدن يتعاطون الشاي والمزغول مع القات.. أحسست أن ما أفعله لا يروق له، بل ربما يكسر كيفه دون أن أعلم، أو هذا ما عرفته منه لاحقا.. بدأ كيف المطري وكأن أصابه العطب، حاول أن يكظم غيضه مرارا حالما كان يشاهد الرفيق جازم في الوجه المقابل له، وهو يأكل الزعقة باحترافية مدهشة، وكان صوت فقص "الزعقة" لافتا، وأحيانا يبدو صوت بعضها صارخا ومستفزا لكيف المطري.. نفذ صبر المطري، وقد بدت له أصوات قصقصة الزعقة كانفجارات قنابل يقذفها رفيقنا في وجهه.. فأنفجر المطري بيننا كالغم.. صرخ بانفعال لم نتوقعه منه في وجه رفيقنا جازم: خزن وإلا قم أخرج.. اقلع.. قيص قيص قيص، من الساعة ثلاث ما خليتنا نخزن ولا خليتنا نطعم القات.. أحمر وأسود وجهي خجلا من حماقة المطري حيال رفيقنا جازم، الذي كان خجولا، وإنسانا من الطراز الرفيع.. جازم شخص مرهف الإحساس والمشاعر.. جازم بالنسبة لي مثالا وقدوة.. مثقف ممتلئ، وقيادي حزبي من الطراز الأول.. مرهف وحساس إلى حد بعيد.. اعتذرت للجميع واعتذرت للرفيق جازم الذي شعرت أن ما فعله المطري به لا يداوى حتى وإن فرشت على جرح جازم صفحة وجهي.. وكان هذا أول درس صادم تعلمته في أول مقيل في صنعاء.. ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، يتبع.. بعض من تفاصيل حياتي