تفاقم حال الاستقطاب "السياسي / الاجتماعي" الحاصل بمصر، والذي بدأ مصاحبًا لأول ممارسة صندوقية في مارس 2011، كنتيجة للتردي الحاصل في سياسات الدولة المصرية، وامتد بطبيعة الحال إلى الأروقة الأكاديمية والتحليلية، وامتدت بعض أصابع الاتهام إلى الولاياتالمتحدة كداعم لجماعة "الإخوان المسلمين"، سواء بعد الثورة أو قبلها حين جرت اتصالات بين مسئولين أمريكيين وقيادات بالجماعة "المحظورة" آنذاك. وفي هذا السياق؛ كتب الأكاديمي الأمريكي "مارك لينش"، أستاذ مساعد العلوم السياسية والشئون الدولية بجامعة جورج واشنطن، مقالا بعنوان "هل أخطأنا فهم الإخوان المسلمين؟ في مجلة "الفورن بوليسي ". يجادل "لينش" بأن التوافق الأكاديمي الأمريكي حول جماعة "الإخوان المسلمين" كان صحيحًا إلى حد بعيد، على الأقل حتى العقد الأول من الألفية الجديدة، ويحدد عددًا من القضايا التي أصابت فيها تحليلات الأكاديميين الأمريكيين؛ إذ تمكنوا من تحديد الخطوط العريضة لتطور الجماعة الأيديولوجي، وصراع الفصائل داخلها، بالإضافة إلى قدراتها الانتخابية، فضلا عن نزاعاتها مع كل من تنظيم القاعدة والسلفيين المتشددين، علاوة على الشد والجذب بين طموحها الديمقراطي وتطلعاتها غير الليبرالية. ويضيف الكاتب، أن الليبراليين الذين ساندوا الإخوان ضد التعذيب والاعتقال، لم يكونوا على خطأ أيضًا، بل إن مساندة أي جماعة ضد الظلم، مهما اختلفت معها، هي المحك والاختبار لليبرالية. بيد أن التغيرات التي ألمت بمصر أصابت بنفس القدر جماعة "الإخوان المسلمين" سواء على المستوى الأيديولوجي أو الحركي، وأصبح السؤال حول قابلية الإخوان لأن يكونوا ديمقراطيين محل اختبار عملي الآن. الإخوان المسلمون قبل 2011 قدم "لينش" بشيء من التفصيل بعضًا من التحليلات الخاصة بجماعة الإخوان المسلمين ما قبل 2011، في محاولة للبرهنة على قدرة الباحثين والمحللين الأمريكيين على فهم الإخوان المسلمين، على الأقل في الفترة ما قبل الثورة. • الإخوان فاعل "ديمقراطي" إلا أنه ليس "ليبراليًّا": خلال السنين التي تلت عام 2000، أصبح للإخوان سجل بعمر عقدين، من المشاركة في الانتخابات الوطنية، والنقابات، بالإضافة إلى الانتخابات الطلابية. وكان الإخوان قد عملوا على إنتاج تبرير أيديولوجي لقبول الإجراءات الديمقراطية، بل وتبنيها أيضًا، وبدا أن الجماعة قد بذلت ما في وسعها لإظهار التزام الجماعة بالعملية الديمقراطية في ظل غياب فرصة فعلية للفوز في الانتخابات أو الوصول للحكم. وبطبيعة الحال؛ ساهمت خبرة الإخوان في تطوير ماكينة انتخابية فعالة جاهزة للتشغيل وقتما حانت الفرصة، وهو ما ظهر بشدة في المناسبات التصويتية المختلفة. إلا أن الكاتبَ يرى أن التزام الجماعة بالعملية الديمقراطية لم يترجم أبدًا نحو الالتزام بالتقاليد الديمقراطية أو الليبرالية المتعارف عليها، وفي حين تجنب الإخوان، قبل الثورة، مواجهة الفجوة بين مفهومهم للشريعة والديمقراطية، فإنهم بعد وصولهم للحكم أصبحوا مطالبين بتوضيح نواياهم الحقيقية، وبيان موقفهم من الآراء المخالفة لهم. • التمييز بين الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة: إذ يعتبر الكاتب أن الجمع بين الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية في سلة واحدة يعد خطأ تحليليًّا ذا تبعات سياسية؛ إذ تنتهج الأولى أيديولوجية مختلفة، ومفهومًا مختلفًا لموقعها داخل المجتمع المصري، إضافة إلى رؤية استراتيجية مغايرة، فضلا عن اختلاف قاعدتها الجماهيرية، وامتلاكها تفسيرات أكثر اعتدالا للمفاهيم الخلافية ك"الجهاد" و"التكفير"، علاوة على رؤية مختلفة حول شرعنة العنف. • ظهور مجموعات شبابية من الإخوان المسلمين: وهي مجموعات أكثر انفتاحًا قامت بالتدوين والانخراط في الفاعليات المعارضة لمبارك، وفتحت المجال للمناقشة في الجماعة، وهي في الأغلب مجموعات صغيرة، غادر أغلبها الإخوان قبل الثورة مثل إبراهيم الهضيبي، وعبد الرحمن منصور، ومصطفى النجار. وفي حين تم انتقاد "لينش" نفسه لعقده لقاءات مع تلك المجموعات باعتبار أن ظهورهم ما هو إلا مناورة دعائية من الإخوان، إلا أنه كان محقًّا بشأنهم. الإخوان المسلمون بعد 2011 يشير "لينش" إلى أن تركيبة الإخوان الأيديولوجية، وقدراتهم التنظيمية، ونظرتهم الاستراتيجية قد صيغت وفقًا للقيود التي فرضها نظام مبارك، تبعًا لاعتقاد الإخوان استحالة وصولهم للسلطة، وبعد قيام الثورة واختفاء تلك القيود حاول الإخوان التكيف ولكن على نحو سيئ، وهو ما ظهر من خلال السلوك غير المنظم، وغير الكفء، فضلا عن عدد من الأفعال غير المفهومة التي قادت للاستقطاب، واتباع سياسة هادمة للتوافق الوطني، ونفور القوى التي دعمتهم في مناسبات معينة، بداية من السلفيين والليبراليين، وصولا للثوار. ويتساءل "لينش" عن سبب ما وصل إليه الإخوان المسلمون، خصوصًا وأن "خيرت الشاطر" كان قد أطلعه شخصيًّا على خطط الإخوان للنهوض بالاقتصاد والإصلاح المؤسسي والتي بدت واعدة، على حد قوله. ويحدد الكاتب عددًا من المتغيرات للإجابة على تساؤله. ويُرجع "لينش" عدم قدرة الإخوان المسلمين على التكيف مع الواقع الجديد بعد الثورة، إلى ما أشرنا إليه سابقًا من وجود فصائل وانشقاقات داخل الجماعة؛ إذ تعرضت الجماعة في أعقاب انتخابات مجلس الشعب 2005 التي حصل فيها الإخوان على 88 مقعدًا لحملة قمعية اعتُقل فيها قيادات من الجماعة وصودرت أموالهم. وأدت هذه الأحداث إلى تصعيد الجناح المحافظ داخل الجماعة الذي يفضل الانخراط في الجوانب الاجتماعية والعمل الدعوي على المشاركة السياسية، وهو ما انعكس في استبعاد كل من عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب من مكتب الإرشاد لصالح التيار المحافظ، وتبع ذلك عدة انشقاقات عن الجماعة من التيار الإصلاحي. وعند قيام الثورة كانت شخصيات قيادية وشبان أكثر انفتاحًا وحكمة واعتدالا في الجماعة قد انفصلوا عنها، أو خضعوا للقيادة المحافظة التي هيمنت عليها شخصيات حذرة متشككة بشكل مرضي ومتصلبة أيديولوجيًّا وقليلة الخبرة بشأن بناء شراكة متخطية للأيديولوجية، أو التوصل لحلول توافقية، ويتساءل الكاتب عن كيفية إدارة الجماعة للثورة وما بعدها من أحداث لو كان التيار الإصلاحي أمثال أبو الفتوح وحبيب هم المهيمنون على تكوين مكتب الإرشاد بدلا من الشاطر وبديع. ويضيف أن جزءًا آخر من الإجابة يرجع إلى أن استراتيجية وأيديولوجية وتنظيم الجماعة كان مبنيًّا على أن فوزها بالحكم غير وارد، وأنها لم تكن مستعدة للتغيير الذي منحته الثورة لها، وتجلى ذلك في عدم رغبتها أو قدرتها على التواصل مع الاتجاهات الأخرى، و"سلوكها وخطابها الفظ" الذي يزيد من الطائفية والتشرذم الاجتماعي وضبابية الاقتصاد وعنف الشارع.كما أن تقديم الجماعة مرشحًا للرئاسة بعد أن وعدت بخلاف ذلك قد أطاح بالثقة في التزاماتها، وجعلها مسئولة عن تدهور الفشل الذي تواجهه في الحكم. ويرى "لينش" أن هناك مزيجًا غريبًا من البارانويا والغطرسة تسود الجماعة، فضلا عن اعتقادها الدائم بالتهديد، وأن هناك مخططات لإفشالها داخليًّا وخارجيًّا، وهو ما يتفق وطبيعة خبرة الحرس القديم المهيمن على مكتب الإرشاد، وهو ما ينذر بنتائج كارثية للوضع السياسي المضطرب في مصر. ويخلص "لينش" إلى أن الولاياتالمتحدة لم تخطئ بالعمل مع حكومة الإخوان المسلمين المنتخبة، وأنها رفضت التماهي مع الدعاية المعادية للإسلاميين، وهو ما كان سينتج آثارًا سلبية، وفقًا للكاتب. كما وجه رسالة للأكاديميين وصانعي القرار الأمريكيين بضرورة مراجعة فهمهم للإخوان المسلمين وفقًا للمتغيرات الجديدة، فإذا كانت مصر قد تغيرت، فإن الإخوان تغيروا بنفس القدر، وهو ما يتوجب على الباحثين مراعاته. وبشكل عام، يعطي "لينش" انطباعًا بأن الدافع لعملية البحث العلمي بالأوساط الأكاديمية الأمريكية وأروقة صنع القرار الأمريكية هو دافع إنساني حقوقي منحاز لخير الشعوب، وهو ما يتناقض مع الواقع، فالولاياتالمتحدة تمتعت، وما زالت، بعلاقات طيبة مع أغلب الأنظمة العربية الساقط منها أو القائم، ما دامت تلك الأنظمة تحقق غايتها الاستراتيجية من حفظ أمن إسرائيل، وتأمين تدفق النفط، وعليه فإن فهمهم للإخوان بطريقة جيدة لن يتحدد بمدى التزام الجماعة بقيم الديمقراطية ومعايير الليبرالية، وإنما بمدى تحقيقها لأهداف الولاياتالمتحدة في المنطقة، وتبنيها استراتيجيات تخدم تلك الأهداف.