في الحقيقة تظل الازمة اليمنية الراهنة من بين الازمات الاكثر تعقيدا بالمنطقة كما ان مسعى تناولها ومحاولة فهم تفاصيلها وتبايناتها بصورة موضوعية سوف لن يقل جهدا او صعوبة عن محاولات فهم أعقد قوانين الجاذبية الارضية بالنسبة لطالب المرحلة الابتدائية، ومع ذلك ستبدو النقطة التي أشار اليها الاكاديمي الامريكي والمهتم بالشأن اليمني د/ ستيفن داي هي الأقرب والأكثر شفافية في شرح واقع الازمة وخلفية الصراع؛ إذ نوه (داي) خلالها الى اهمية تناول الازمة اليمنية من منظورين اثنين : الاول من الداخل الي الخارج. الثاني من الخارج الى الداخل. واذا ما شرعنا أولا في الحديث عن وقائع الازمة من منظور الداخل وما باتت تصدره لنا اليوم من تحديات وتصورات تمكنت كثيرا من السيطرة على مخيلة العقل الجمعي وجعله لايتحدث الا وفق ادبيات ومفردات بعينها. فاننا مثلا سنجد ان هنالك تركيز كبير على الخلاف بين الشمال والجنوب على الرغم من ان واقع الامر يبدو أكثر تعقيدا من ذلك . فالحرب المستعرة اليوم والتي كما يتاكد انها أخذت بعدا إقليميا ودوليا واسعا لم تستطع هي الاخرى التوقف عند حدود ذلك الخلاف التقليدي او البناء عليه بل على العكس تبين ان الازمة اليمنية هي أزمة مركبة واكثر تفرعا مما كان يعتقد ، وان هنالك بالفعل هويات مناطقية متعددة في البلاد تتجاوز التصنيفات القائمة على اساس الشمال والجنوب وهو ما قد يرشح استمرار الحرب لصالح تسوير تصنيفات جديدة وتزكيتها كواقع مفروض ومسلم به. لذا ربما سيبدو من الصعوبة الحديث عن إمكانية إعادة صياغة الخارطة السياسية اليوم وفقا للصورة التي كانت قائمة بين الشطرين قبل عام 1990م وبطبيعة الحال يأت ذلك لإعتبارات وعوامل عدة جاء بعضها عقب حرب صيف 94م فيما جاء الاخر عقب حرب 2015م . وهو الامر الذي قد يكون ربما سببا وراء تكرار تصريحات الاقليم والمجتمع الدولي حول الالتزام بمشروع الدولة الاتحادية واعتباره الانسب بالنظر الى تفاصيل وخلفيات الصراع اليمني ماضيا وحاضرا. لايمكن تجاوز حقيقة ان التقسيم على اساس الشمال والجنوب يخفي انقسامات عديدة بين السكان. ومع ان الوضع لازال صحيحا على جانبي الحدود القديمة بين الشمال والجنوب الا ان شبح الانقسام الداخلي لما وراء تلك الحدود بات واضحا مشاهدته اليوم اكثر من اي وقت مضى. فمثلا سنرى ان الحراك الجنوبي ومن بعده المجلس الانتقالي عانيا كثيرا من مشكلة الانقسامات الداخلية بين الجنوبيين وهو ما ساهم كثيرا في تشويش الرؤية امام الحلفاء والحسم لصالح دعم طرف بعينه دون الاخذ بالحسبان تداعيات وتبعات التباين والخلاف الداخلي مستقبلا حال تجاوزوا ذلك الواقع . وليس بعيدا عن ذلك لازال الشمال العتيد يعاني هو الاخر انقساما داخليا رجح الى حد كبير تغول الاقلية الحوثية وتصدر مشروعها للمشهد هناك عدا ان هذا لايعني ان الامر قد حسم شمالا وان المشاريع الاخرى لم تعد ذات ثقل . هنا ايضا تعود ذات الصورة في الاهتزاز مجددا امام الأسرة الدولية ويصعب مرة اخرى التعاطي مع طرف دون غيره. ان استمرار حالة الانسداد والتمحور النشط لمشهد الصراع شمالا وجنوبا وبالشكل الذي نراه اليوم سيدفع وبكل تأكيد نحو تعزيز وترجيح كفة مشروع الدولة الاتحادية من اقاليم عدة وتغليب هذا المشروع السياسي لدى متعهدي ملف الازمة اليمني كإطار سياسي يعكس حقيقة الصراع والازمة ويضم تناقضات البلد السياسية . لكن السؤال الابرز في هذا الجانب يظل ! حتى وان سلم الاقليم والعالم بهكذا مشروع اتحادي هل تعتقد ان قوى الداخل بمختلف توجهاتها وتناقضاتها السياسية ستسلم به وقد تساعد في تحوله الى واقع سياسي وجغرافي جديد؟ حينها اين سيكون موقع القوى المتنفذة وتحالفات الظل من هذا الواقع؟ على العموم دعنا نغادر الى الاتجاه الاخر في محاولة تناول وفهم مشهد الأزمة تلك من خلال نظرة الخارج الى الداخل؛ وهنا ربما سنجد ان الواقع الأكثر وضوحا ومثولا أمامنا هو ! أن بروتوكول المصالح المشتركة المقر والقائم بين دول رباعية الازمة اليمنية والمحصن أمميا يكاد يكون هو الإطار الفعلي للازمة والمتحكم الوحيد بمسارات الصراع ومفاتيح اللعبة باليمن على الاقل في الوقت الحاضر . وعلى هذا الاساس سيبدو من المنطقي جدا ان تضع جميع اطراف الداخل وخاصة تلك المنضوية تحت عباءة التحالف العربي رؤيتها وقائمة خياراتها الخاصة وفقا لهذا التصور وعند هذا السقف ان هي أرادت تجنب مغادرة المشهد مبكرا . وللعلم الحوثيون انفسهم كذلك ليسوا إستثناء عن سطوة ذلك الإطار وتوجهات أصحابه؛ ولكن لأسباب وغايات مستقبلية وضعها الكبار ويعلمها كثيرون ستبدو هنا الجماعة الحوثية وحتى حين خارج إطار تلك السطوة والتأثير الخارجي الذي يتملقه الأخرون اليوم . لكن ماذا لو علمت بإستحالة القضاء على مسببات الازمة ومحو الجميع قبل ان يحقق رعاة الملف والازمة غاياتهم ومصالهم عبر إستمرارها أطول؟ وماذا لو علمت ايضا ان لاشيئ أفضل من سياسات تدوير الازمات وتبديل الأدوار وتعويم المواقف كمنهجية إدارية يدار بها جميع المتصارعين بالداخل على الدوام،الأمر الذي يسهل الاحتفاظ بهم حينها كأدوات تنفيذ مؤطرة يحمل أحدها صفة حليف والاخر صفة عدو بدلا من إزاحتهم سريعا تحت مسمى ( طرف معرقل) وبالتالي إنهاء الصراع مبكرا؟ وهنا ليس أفضل من استعراض بعض المفارقات الحية لتأكيد واقع التناقضات الذي تعيشه اليوم الساحة المحلية بمختلف توجهاتها وكذا دور العامل الخارجي وعلاقته بذلك الواقع المستجد . اذ لازالت اشكالية تعثر اتفاق الرياض الموقع بين حليفي التحالف العربي الشرعية والانتقالي قائمة وبشكل غير مبرر وبخاصة اذا ما وضعت في حسابات التأييد والدعم الدولي الواسع الذي حضي به هذا الاتفاق فضلا عن امكانات وقدرات رعاته في إنفاذه فورا حال حضرت النية طبعا. عموما وعلى اثر ذلك الشطط بات لدينا اليوم انقسام واضح ونبرة مستحدثة تتحدث عن خيار اصطفاف جديد تسوقه تصريحات قيادات طرفي الاتفاق يصنفها مابين مشروع عربي ممانع واخر غير عربي دخيل. وعلى الشق الاخر من المشهد يستمر الحوثيون في تجاهل دعوات الاممالمتحدة وبريطانيا واميركا لهم بضرورة التجاوب والتعاون لتجنب كارثة مصفاة صافر الوشيكة؛ بل وصل ذلك التجاهل حد الشتم والتحدي كما جاء على لسان القيادي بالجماعة محمد البخيتي مؤخرا في رده على سؤال احدى الفضائيات حول تصعيد أممي قد يستهدف تعنت جماعته قائلا : (.. وأي قرارات لمجلس الامن سندوسها تحت اقدامنا ). ومع ان حديث القيادي الحوثي مثل تحديا صريحا وأهانة سافرة بحق منظومة الاممالمتحدة ودورها باليمن الا ان الدعم الاممي المريب للحوثيين لايزال مستمرا وان اخذ طابعا انسانيا كعادته لكنه بالاخير ليس سوى تعزيزا لسلطة الانقلاب وتمتينا لسطوته بالشمال،اذ تمكنت بعدها حقا طائرات تابعة لمنظمات اغاثية خاضعة لسلطات الاممالمتحدة من الهبوط في مطار صنعاء وافراغ حمولتها الضخمة لصالح قوى انقلابية وتحت تصرف قيادات لاتعترف اصلا بمنظمة الاممالمتحدة ككيان دولي لحل النزاعات عدا ان تتعاون معها في قضية صافر او غيرها. وهنا هل سيبدو حقا ان تفاقم الازمة والعجز عن حسم الصراع هي بالفعل أمور خارجة عن ارادة الحلفاء والرعاة الدوليين؟ وهل سيبدو ايضا ان منطق أزدواجية التعاطي والذي ساهم كثيرا في تأطير التناقضات والخلافات الداخلية وتحولها الى مقدمات لواقع سياسي قادم كان منطقا عفويا ويخلو من نوايا ربما لم تكن حسنة منذ البداية؟