كانت البقرة موجودة في كل بيوت قريتنا اليافعية، فكل أسرة تمتلك أرضًا زراعية؛ تملك بضرورة الأمر بقرة، لتأكل زرعها لا لتحرثها، فأبناء قريتي يفضلون حرث الأرض بأيديهم على إجهادها، فتنعم بعنايتهم السخية، خلافًا لباقي الحيوانات من أغنام، حمير، جمال، وحمام وأرنب ودجاج! العُشب الأخضر لها، والماء المليئ ببقايا الطعام كذلك " طهارة " كان جدي عندما يذهب التعونية يأتي بالبر والدقيق لنا، والبوشة والحَب لها، أما جدتي وبعد أن أصبحت حاكمة لخمس كِنات فقد تفرغت لإعداد المقبلات اليومية للبقرة العُصَّارة، وتبليل البُوشَة بالماء بعد مزجِها بالحَب، لتقدمهنّ بجوار العشب الأخضر لإليفتها. لقد اختيرت الديمة الكبيرة المحصنة بسور واسع "المدارة" لتكون سكنا لها، ووضعت المظلة في زاوية المدارة؛ لتريح جسمها من حرارة الشمس تحتها، وعندما يحل المساء؛ تقف البقرة بباب الديمة تراقب إمرأة عجوز توزع اللهب بطرف كرتون على الجدران؛ لطرد الزواحف المزعجة، والذباب الذي يعكر صفوها،وبعد؛ تدخل البقرة لتنام في ديمتها وحدها لا شريك لها. كل ذلك من أجل قدح من البن تعطيه لنا كل صباح؛ فتمارس تحافتها وترفض أن تعطي جدتي ذلك القدح إلا بعد أن تقوم بالمسح على رأسها، وتصدر صوتًا " تسسس تسس تس " وبينما تتستس الجدة لها؛ تنظر هي باستعلاء، وكبرياء، وتقول " مووووع " تلح على ذات اليدين المليئة بتجاعيد الحياة، أن تلتزم اللطف أثناء حلبها، حتى لا تجرح ما يجعلها باقية. تأخذ الجدة ذلك القدح إلى مخدعها، فتغلق الباب حتى لا يزعجها الصبية، فتشمر ساعديها، تقترب من ثمرة اليقطينة المحنطة، المفروغ جوفها، المفتوح رأسها، والمعلقة سابقا بسقف الغرفة_ نسميها الدبية_ تقوم بفتح الدبية، ومن ثم غسلها، وكبيها بدخان قِشر جذوع شجرة السدر، وتصب اللبن فيها. تتورك الجدة بجوار دبيتها، ثم تمسك بتلابيبها وتهزها لنصف ساعة ولا تنفك هزا؛ حتى يخرج زفراته الأخيرة؛ تفتح غطاء الدبية، وتخرج زفراته "الدهنة" إلى وعاء خاص؛ فتصيره سمنًا بقريا بعد إحراقه بالنار، ثم؛ تدهن به البقسة فتأكلها بشراهة، مصحوبة بكأس من عصير البقرة المكبي. إلا أن تلك الثديات الآتي ينتجنَّ اللبن، ينكمشنّ ويصبحنّ باليات كالخرقة، لتعلنّ البقرة احتياجها لممارسة التكاثر. البقرة؛ تعيش حياة الأميرات، تتصرف مثلهن، وداعة، ولطف، وإحساس، تخاف من جميع الحشرات إلا الفراشات، يجد الطير أمانا على ظهرها، تحب كل أشكال السلام، تكره كل أشكال الحرب، وتفعل الخير مع كل شخص مد لها يديه وتعامله بلطف، ولأن الأطفال هم من يشبهونها، فقد كانوا يهرعون إليها بعد قطفهم ثمار الصبار المشوكة لتنزع الشوك بلسانها بلا تردد! فيقبلونها بناصيتها ويعودون لأمهاتهم بأيدي خالية من الشوك. ولأن حب الخير ينتج كره الشر؛ فقد كرهت الشر وأدواته، وألوانه، وأصواته؛ فتنطح كل من يريها اللون الأحمر، وتخفي رأسها بين أيديها حتى لا تسمع الرصاص، وتفزع من قرع الطبول لجانب الجدار وكأنها تريد أن تتلاشى بين الحجارة؛ فالحرب هي من ولدت الطبل! هكذا تفعل. اليوم لم نعد نسمع صوتها، لا نجيد تحنيط ثمار اليقطينة، ولا نشم رائحة السمن البقري على الخبز، حتى العصيدة أفقدناها مذاقها؛ استبدل الحُقن بالحقين. لقد أصبحت أيادي الأطفال تجوب القرية فلا أحد يتجرأ على إخراج أشواك الصبار من أيديهم البريئة الآثمة بلسانه! حتى أمهاتهم يقمنّ باستخدام الملقاط الحديدي لنزع الشوك بصعوبة، ومع كل شوكة تخرج من أيديهم يتلقون ضربة على الرأس، لقد كانت البقرة أراف بهم من أمهاتهم، لقد غادرت البقرة بيوت يافع!! اهتم اليفع قديما بالبقرة أيما اهتمام، صحيح أنها لم تكن تحرث الأرض في قريتنا، لكنها تحرث في قرى أخرى، ومع ذلك فهي حاضرة في أجسادهم بفتميناتها، وترابهم بسمادها، وأكلهم بلحومها، وشربهم بحليبها، وسفرهم بجلودها، حتى أن جدران المنازل كانت تليص بروثها. لقد هزمت أدوات العصر الحديثة البقرة، ولم تعد يافع أرضا صالحة لها. أهملت الأرض فغادرت البقرة حنقا؛ كيف لها أن تعيش بمكان لا ينتج العشب الأخضر، قبل أن تذهب سلمت ديمتها الفسيحة للحمار، ليقول بعد برهة: أكلت يوم أكِلت البقرة.