المتأمل للماضي والحاضر يجد بينهما ارتباط متأصل ، بين الحلم والحقيقة ، والواقع المعاش ، في الماضي كان الجميع يناضل، في الجنوب كان الشعب الجنوبي يناضل للتخلص من الاستعمار البريطاني ، وفي الشمال كان الشعب الشمالي يناضل للتخلص من الاستبداد ألإمامي ، كان الثوار الحقيقيون ينشدون وحدة الأوطان ، توالت مراحل بناء البلدان بعد التخلص من المحتل البريطاني في الجنوب واستقلال الجنوب ، وكذلك القضاء على الاستبداد الأمامي وحكمة في الشمال ، توالت حين ذاك الحكومات والأنظمة لحكم الشعبين في كلاً من الجنوب والشمال ، واستمرت فكرة وحدة الأوطان متقدة وفي عنفوان هيجانها العاطفي الشعبي عند أبناء الشعبين الجارين لكي يصلوا الى حلمهم المنشود في وحدة ارادوها جميعاً ،كانوا موحدين الأنفس قبل وحدة الأرض، حين ذاك كان هناك كيانين حاكمين ، في الجنوب كان يسمى الكيان السياسي بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ،.
وفي الشمال كان يطلق على الكيان السياسي مسمى الجمهورية العربية اليمنية ، خلال تلك الفترة من عمر الكيانين الحاكمين كان حلم الوحدة التي أرادها الشعبين يتبلور واقعاً يوماً عن أخر ، لكن ما حصل من مشكل يتمثل بمنطقية كيف نصبح كياناً سياسياً واحداً بعد ما كنا في الماضي كيانين منفصلين كل منا يتمثل بدولة ونظام ؟؟ ، وكل نظام لدية فكرة الذي حكم الدولة به ، وأيضا نظام اقتصادي مختلف وعلاقات دولية مختلفة ، فكيان الدولة الجنوبية آنذاك كان مرتبط بالمد الشيوعي الاشتراكي المتمثل بالقطب السوفيتي ، وكيان الجمهورية العربية اليمنية كان مرتبط بالنظام الرأسمالي المتمثل بالقطب الغربي (الأمريكي وحلفاءه ) ، وكان مطلوب آنذاك من الكيانين السياسيين الممثلين لدولة الجنوب ودولة الشمال أن يسعوا بحسن نية مطلوبة مصحوبة بتأني مدروس لبلورة ذلك الهدف السامي لشعبيهما ، وعدم التسرع والهروب إلى حضن الدمج المباشر لكياني دولتين لكل منهما نظام اقتصادي مختلف عن الأخر، اشتراكي في دولة الجنوب ورأسمالي في دولة الشمال ، وبينهما بون شاسع من الاختلاف ولكل منهما سلبيات في التطبيق ومحاسن ، لكن ما حصل أن كل من الكيانين كان له أسبابه ومخاوفه الداخلية من خلافات وصراعات مع معارضيه ،.
تلك المخاوف دفعت بكل من النظامين الحاكمين تقديم الكثير من التنازلات والتسريع لتوقيع على وحدة غابت الكثير من الأسس الصحيحة لها ، وعوضاً عن الأسس الصحيحة ، كانت هناك اخطاء قاتلة منها الدمج المباشر لمؤسسات دولتين في كيان واحد لكل منهما خلفية نظامه الاقتصادي المختلف كما أسلفنا بالذكر ، ومن هناك نجا النظامين الحاكمين لدولتين بنفسيهما من خلال استغلال حلم شعبين بدولتين مختلفتين بالهوية والعادات والتقاليد كان ينبغي أولا مراعاة مصلحة الشعبين من خلال التريث في الإعداد السليم ومراعاة الفوارق الموجودة ومراعاة الأسس الصحيحة التي من شأنها الوصول لحلم الشعبين وترجمتها واقعاً بوحدة صحيحة تحفظ لهم مصالحهم، وتحقق لهم الهدف من التوحد ، وليس حفظ مصالح نظامين حاكمين .، ما لبثت أن بدأت بوادر النزاع بين النظامين الحاكمين كنتيجة طبيعية لغياب الأسس الصحيحة والإعداد السليم لأسس تمهد لوحدة شعبين حقيقية تؤتي أكلها وتلبي مصالح الشعبين في كيان واحد موحد تكون حقيقية وتملك شروط الاستدامة ، استمر الخلاف بين النظامين الحاكمين (الأطراف الموقعة على الوحدة غائبة الأسس الصحيحة لاستدامتها ) وكان الخيار الأوحد من قبل أحد الأطراف الموقعة وهو الطرف الشمالي التمترس خلف القوة وشن الحرب على الجنوب شعب وهوية ونظام سياسي حاكم من أجل حماية الوحدة الطوعية والشرعية كما أسموها والقضاء على المرتدين الانفصاليين الذين اشتركوا معه كطرف أساسي في توقيع الوحدة (غائبة الأسس الصحيحة لاستدامتها ) ،.
حصلت الحرب في مثل هذا اليوم والذكرى الموافق 27\4\1994 وكانت تلك الحرب بمثابة المسمار الأخير في نعش الوحدة الطوعية التي لم تكن إلا اسم خالي من مضمون الاستدامة لأنها فاقدة الأسس الصحيحة في استمرارها كوحدة تلبي مصالح شعبين في دولة واحدة موحدة ، لأن فاقد الشيء لا يعطي ، وخاوية من أحلام شعبين في أن تحفظ لهم مصالحهم وقبل المصالح حماية الإنسان وعرضه ، وليس قتلة واذلالة وإمتهان كرامته ، وكان نتاج لتلك الحرب والذكرى المشؤومة وجود نظام دولة الجمهورية العربية اليمنية كمنتصر وحيد في الحرب ضد النظام الشريك في التوقيع على الوحدة ( فاقدة أسس استمرارها ) ، وبعد ذلك عاش شعب الجنوب يرى ثروته تنهب وأرضة تسلب وهويته تدمر وتطمس يوماً عن أخر وابناءه يقتلون في سبيل حماية وحدة المنتصر (فاقدة الأسس الصحيحة لإستمرارها ) والتي شرعت بالحرب احتلال الجنوب واستمرار حكمة بالقوة ،من قبل ثالوث القوى المكونة لنظام الجمهورية العربية اليمنية من قبلية وعسكرية ورجال الدين الذين شرعوا الحرب بالفتاوى الدينية ضد شعب شقيق أمن بأحقية وجوب الوحدة قبل أن يكون له نظام وكيان سياسي يحكمة ، لكن شعب ، وظل شعب الجنوب يرفض وحدة القوة ووحدة النظام المنتصر ،.
ولم يستسلم لواقعة الذي وجد نفسه به معلناً وحدة طوعية حلمنا بها لتحفظ مصالحنا وأدت بالحرب ، ووحدة منتصر شرعنت الفيد والسلب نرفضها ولا شرعية لها لدينا ، واستمر الشعب الجنوبي يناضل للتخلص من وهم وحدة لم تملك من وجودها الا اسم خالي من مضمون معنى أن تكون وحدة ، فقد بدأ في 2007 بثورة مطالب وحقوق تخص ابناءه الذين سرحوا من اعمالهم ابان الحرب المشؤومة في 94 ، ما لبثت تلك المطالب الا أن تحولت الى حركة شعبية سلمية عمت كل ربوع الجنوب ومناطقة نتيجة لما وجدته من قتل ومتهان للإنسان الجنوبي ومساومة وزيف عندما خرج يبحث عن حقوق مشروعة ،تلك الحركة الشعبية أعلنت هدفها السامي والطموح الذي كفلتة كل الدساتير والقوانين الدولية وهو التحرير والإستقلال واستعادة الهوية الجنوبية الذي حاول نظام ما بعد 94 طمسها وتدميرها ،متخذة من السلمية منهاجاً وطريقاً لها ،.
تلك الثورة المستمرة في طريقها، مورس ضدها من قبل وسائل الإعلام الفاقدة لدنى شروط الموضوعية والمصداقية التابعة للنظام المنتصر في 94 وشركاءه في الحرب أسوء الحملات الإعلامية لتشويهها ، لكنها استمرت وسوف تستمر رغماً عن كل ذلك ،ايضاً والعمل بالدفع بالمأجورين في اوساط شبابها للتخريب ، لكنها ظلت مستمرة وسوف تستمر ولن تحيد عن طريقها المعلوم بدماء شهداء الأحرار الذين دفعوا نفوسهم رخيصة من أجل تحرير واستقلال الدولة واستعادة الهوية الجنوبية العربية الأصيلة وبناء الجنوب الجديد ، ذو النظام الفدرالي لشكل دولته الجنوبية المحررة التي تراعي مصالح الشعب ومناطقه المختلفة ، مستفيداً من ماضية و من شكل الدولة السابقة ذات النظام المركزي المتسلط، بغض النظر عن الإيجابيات الكثيرة التي كانت موجودة في ذلك العهد البائد واستفاد من خيرها الناس .
أما التفكير بوحدة الأوطان والانتماء الإسلامي منبع العز والقوة ، فلا شك أنه حلم طموح يسعى له كل عربي أصيل ، لكن بما يحفظ أولا وأخيراً مصلحة الإنسان أساس وحدة الأوطان في حيزه الجغرافي الذي يعيش فيه، وليس قتلة ومحاولة دفن معالم هويته ، لكن شعبنا الجنوبي العربي الأصيل كانت له تجربة مريرة لاشك سيكون القرار صعباً في التفكير بتجربة توحديه أخرى ، لكن لكل جيل قراره الذي يحفظ مصالحة ، وحين ذاك لا وصاية على قرارات الشعوب في صنع مستقبلها ومراعاة مصالحها .