بالصور .. العثور على جثة شاب مقتول وعليه علامات تعذيب في محافظة إب    الجيش الوطني يدك مواقع المليشيات الحوثية بالسلاح الثقيل    صاعقة رعدية تنهي حياة شاب يمني    محمد المساح..وداعا يا صاحبنا الجميل!    صورة ..الحوثيون يهدّون الناشط السعودي حصان الرئيس الراحل "صالح" في الحديدة    آية في القرآن تجلب الرزق وفضل سورة فيه تبعد الفقر    العليمي يكرّر كذبات سيّده عفاش بالحديث عن مشاريع غير موجودة على الأرض    رفع جاهزية اللواء الخامس دفاع شبوة لإغاثة المواطنين من السيول    نصيب تهامة من المناصب العليا للشرعية مستشار لا يستشار    على الجنوب طرق كل أبواب التعاون بما فيها روسيا وايران    مقتل مغترب يمني من تعز طعناً على أيدي رفاقه في السكن    انهيار منزل بمدينة شبام التأريخية بوادي حضرموت    ما هي قصة شحنة الأدوية التي أحدثت ضجةً في ميناء عدن؟(وثيقة)    وفاة الكاتب والصحفي اليمني محمد المساح عن عمر ناهز 75 عامًا    العليمي يتحدث صادقآ عن آلآف المشاريع في المناطق المحررة    صور الاقمار الصناعية تكشف حجم الاضرار بعد ضربة إسرائيل على إيران "شاهد"    عاجل: انفجارات عنيفة تهز مدينة عربية وحرائق كبيرة تتصاعد من قاعدة عسكرية قصفتها اسرائيل "فيديو"    صورة تُثير الجدل: هل ترك اللواء هيثم قاسم طاهر العسكرية واتجه للزراعة؟...اليك الحقيقة(صورة)    وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خاطرات حول تسميات أوروبية وأمريكية وشيوعية تسللت إلى قاموس الإسلاميين
نشر في عدن الغد يوم 28 - 04 - 2013

تكلم المثقف المصري، جلال أمين، في سيرته الذاتية الأولى (ماذا علمتني الحياة؟) عن شيء في مصر الستينيات اسمه مكتب الأمن في وقت كان السفر من مصر – كما قال- أمرا صعباً يستلزم إجراءات لا نهاية لها، بل أن جواز السفر نفسه لم يكن من السهل أبداً الظفر به.
يقول جلال أمين عن مكتب الأمن: إنه اسم مخيف لمكان غامض، مملوء بالملفات والتسجيلات التي تسجل أي بادرة أو هفوة أو فكرة قد تكون قد خطرت ببالك، ويشتم منها بعض الخطورة على النظام.
أتى كلامه هذا بمناسبة حديثه عن حادثة حصلت له بعد عودته من انجلترا إلى مصر بسنتين. وكان قد عاد إليها سنة 1964 بعد أن تحصل على درجة الدكتوراه من كلية الاقتصاد بجامعة لندن.

تلك الحادثة هي أن جامعته جامعة لندن وجهت إليه دعوة لحضور مؤتمر اسمه (مصر منذ 1952) سنة 1966، وطلبت منه أن يكتب بحثاً عن تطور الاقتصاد المصري منذ الثورة، ولبّى هو الدعوة وشرع في كتابة البحث المطلوب منه.
ظل جلال أمين نحو ثلاثة أشهر يجري وراء الحصول على استمارة الموافقة من مكتب الأمن، وكان مكتب الأمن يماطل فيه أسبوعاً بعد أسبوع، ويقال له تارة إن الجهة المعترضة هي المباحث وتارة أن الجهة المعترضة هي المخابرات حتى وصل إلى مرحلة اليأس، مما دفعه مكرها أن يبرق إلى المؤتمر وإلى زوجته الإنجليزية جان التي سبقته إلى لندن، يعلمهما أنه لن يتمكن من الحضور إلى لندن، وبعد أسبوع من إرساله لهذه البرقية هاتفه خالد محيي الدين، يخبره أن مشكلته قد حلتّ، وأن بإمكانه الذهاب إلى مكتب الأمن للحصول على استمارة الموافقة.

عانى جلال أمين كثيراً من أجل الحصول على استمارة موافقة من مكتب الأمن تتيح له الحصول على تأشيرة خروج إلى إنجلترا، رغم أن المتشفع له خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة السابق، والذي كان مدعواً أيضاً للمؤتمر، وكان جلال على معرفة به عن طريق شقيقه الأصغر عمرو الذي هو صديق له.
ومن الجهود التي بذلها خالد محيي الدين للتغلب على موانع سفره إلى لندن أنه اصطحبه معه إلى زيارة وزير الدولة شعراوي جمعة وقد استبشر خيراً حين رأى شعراوي جمعة يحتضن خالد محيي الدين بمودة بالغة وظن أن مشكلته على وشك الانتهاء. ولكن سرعان ما خاب ظنه، إذ ما إن فتح خالد محيي موضوعه حتى بدأ شعراوي جمعة يقدم له مبررات الإجراءات المتخذة ضده، وكان أولها أنه بعثي!

وكان ثانيها، أنه في سنة 1963، وهو يعمل على إنجاز موضوعه في رسالة الدكتوراه دعته منظمة الطلبة العرب بانجلترا لإلقاء محاضرة. وكان عبدالناصر قبلها بأيام قد هاجم البعثيين وسخر من ميشيل عفلق سخرية شخصية مرة. فقرر جلال أن ينتقم للبعثيين ولميشيل عفلق الذي آلمته سخرية عبدالناصر منه، فضمّن محاضرته نقداً لما دار في مباحثات الوحدة، وثناء على بعض أفكار البعث، بل وبعض السخرية من بعض عبارات الميثاق الذي كان قد أصدره عبدالناصر في أعقاب الانفصال.
وكان ثالثها، أنه في سنة 1965 في إحدى محاضراته في كلية الاقتصاد بجامعة عين شمس وهو يدِّرس مقرراً جامعياً في تاريخ الفكر الاقتصادي، قال شيئاً يسيء إلى النظام.

وقد ترتب على هذين الجرمين السياسيين في تقدير النظام الناصري، فتح ملف انتماؤه لحزب البعث في مصر.
هذه التهمة يدفعها جلال أمين أنه انتمى إلى هذا الحزب، وهو بعد طالب في المرحلة الجامعية وأنه استقال منه بعد أن أمضى فيه فترة قصيرة، لا تتجاوز الأربع سنوات، وذلك بعيد وصوله إلى لندن بأشهر، لمواصلة دراسته العليا هناك. وأنه من غير العدل أن تلاحقه هذه التهمة، رغم أنه انفصل عن الحزب مبكراً وباختياره.
وكان في سبيل الدفاع عن انتمائه الحزبي السابق يذكر بأن حزب البعث سبق تجربة عبدالناصر في تبني قضية الوحدة العربية ، وسبقها في الاتجاه إلى الاشتراكية.
قد لا يعلم جلال أمين أن أكرم الحوراني مؤسس الحزب العربي الاشتراكي الذي اندمج مع حزب البعث في حزب سياسي واحد، ذكر في مذكراته أنهم كانوا مغتبطين بانضمام ابن لأحمد أمين، يدرس بالجامعة، إلى حزب البعث وأن اسمه حسين!

وما أنا متأكد منه أن شقيقه حسين لو علم بما قاله عنه أكرم الحوراني في مذكراته، لسارع بتصحيح هذا الغلط الفادح، ذلك أنه يعتز بأنه – طيلة حياته – كان طاهر الذيل من أي انتماء إلى حزب عقائدي أو غير عقائدي.

دفاع جلال أمين عن نفسه بأنه انفصل عن حزب البعث في شبابه صحيح في ظاهره وغير صحيح في باطنه. ففي الباطن وفي العمق لم يتحقق له الانفصال الفكري والروحي التام عن عقيدة حزب البعث، أو هو كان لا يرغب بذلك. أقول هذا ليس استناداً إلى تلك المحاضرة اللندنية التي ثأر فيها للبعثيين ولميشيل عفلق من جمال عبدالناصر، وإنما إلى بعض ما كتب في عقود قريبة وفي الفترة الحاضرة، بل أن انتماؤه القديم هو بمثابة مفتاح ضمن مفاتيح ، لفهم ترددات مواقفه واختلافها من حين إلى آخر، وإعماله مراجعة تلو مراجعة لمواقفه في غضون سنوات قليلة، ومن بين القضايا التي يختلف فيها القول عنده من حين إلى آخر، التجربة الناصرية، فتارة يدافع عنها، وحيناً يهوي عليها بمطارق النقد، ثم في سنوات يترافع عنها، وفي سنوات تليها يكرّ عليها ناقداً، وهكذا دواليك. ليس في هذه القضية وحسب، وإنما في قضايا عدة هي محل عنايته، ومن محاور فكره.




يختلف حسين أمين عن أخيه جلال أن آراؤه ونظراته ليس فيها أي درجة من اليسارية أو صبغة من الماركسية وأن موقفه من العلمانية والتيار الإسلامي واليسار والماركسية والناصرية والتجديد الديني غير متناقصة.
هذا التردد والمراوحة والتناقض الذي يسميه هو تضاداً لا تناقضاً، ينفرد بصفات قل أن نجدها عند مثقف عربي آخر، وهو أنه ذو طبيعة مركبة ومحتوى غني، وهو بالإضافة إلى ذلك ممتع ومفيد.

ربما مرد هذا إلى سعة ثقافته وإلى عمق نظراته ونفاذ تحليلاته وذكاء ملحوظاته، وإلى أنه ذو عقل جدلي وإلى أنه مزيج بين مثقف متين وفنان ذي روح ساخرة.
وهذا التردد والمراوحة والتناقض يجري في قضايا هي – كما قلنا سابقاً- محل عنايته ومن محاور فكره، لكنه لا يمتد إلى توجهه الأساسي الذي هو توجه عروبي ويساري، فهو في كل ما كتبه لم ينقلب على هذا التوجه ويغادره إلى توجه مختلف أو نقيض.

إن ما يتغير عنده استجابة لمستجدات موضوعية آنية أو وفقاً لمستجد ذاتي خاص- (مثل كتابته لسيرته: ماذا علمتني الحياة؟ الذي تناقض بعض ما جاء فيها مع آراءه في الحدود التي يجب أن تقف عندها حرية الفن والإبداع )- هو زاوية النظر، إذ يغلب من حين إلى حين زاوية على أخرى.
ثمة قضايا – هي من محاور فكره – لا تتعرض إلى ما ذكرناه، فرأيه فيها ثابت لا يتغير، ومنها – على سبيل المثال – نقده الراديكالي للحضارة الغربية، رغم أن ثقافته منذ يفاعته، هي ثقافة غربية وأن نمط حياته – بدرجة أساسية – نمط غربي.

يختلف عنه شقيقه حسين – الذي يحلو لي أن أسميه بالحاج العلماني – في وجوه عديدة، منها إلى أنه إلى ثقافته الغربية يتوفر على ثقافة عربية وثقافة إسلامية ثرَّة. وأن موقفه من الحضارة الغربية هو – بمعنى من المعاني – استمرار لموقف أبيهما أحمد أمين. وأن آراؤه ونظراته ليس فيها أي درجة من اليسارية أو صبغة من الماركسية. وأن مواقفه من قضايا كالعلمانية والتيار الإسلامي واليسار والماركسية والناصرية والتجديد الديني …الخ مطردة ومتساوقة.

يصح وصف جلال أمين بأنه مثقف إشكالي، وأرى أنه من الأوفق النظر إلى تردداته ومراوحاته وتناقضاته في بعض القضايا ضمن هذا التصنيف المعقد. وجلال مثقف قلق لكن قلقه من النوع الإيجابي. فهو قلق يشعرك أن صاحبه ما زال شاباً في فكره، رغم اكتهاله في السن.قلق يحفز فيك التفكير والتأمل وإن كنت لا تتفق معه، وذلك حينما يجترح الآراء.ويولِّد الأفكار ويطارح المسلمات. وما يطارحه جلال –عادة- مسلمات علمانية ومادية، وليس مسلمات دينية وتقليدية، كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ.
لنا أن نعتبر سيرتيه الذاتيتين: (ماذا علمتني الحياة؟) و (رحيق العمر) من مصادر موضوع لا يوجد فيه كتاب كرّس للبحث فيه، ألا وهو الاتجاه القومي البعثي في مصر. فمن غير المشهور لعقود طويلة في العالم العربي أنه كان في مصر فرع لحزب البعث الذي حُلَّ في أول سنة من الوحدة ما بين مصر وسوريا. والذي كان من بين أعلامه: عصمت سيف الدولة وأحمد عبدالمعطي حجازي وعلي مختار وسليمان فياض .. ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن أحمد بهاء الدين كان ذو هوى بعثيّ!

مكتب الأمن

أعاد جلال أمين في سيرته الأخرى (رحيق العمر)- التي كان متأثرا فيها بسيرة لويس عوض ( أوراق العمر: سنوات التكوين )، فحاكاه فيها ربما من دون أن يقصد ذلك – الحديث مرة ثانية عما جرى له مع مكتب الأمن. سبب إعادة الحديث أنه بعد صدور سيرته الأولى عثر على بضع صفحات كتبها في مفكرته الشخصية سجل فيها ما حدث له، يوماً بيوم، منذ تلقيه الدعوة لحضور المؤتمر في إبريل سنة 1966 وحتى يوم سفره في 2 سبتمبر من تلك السنة.



في كلامه الثاني الذي كتبه عن الحادثة نقلاً عن مفكرته الشخصية صحح بعض المعلومات الواردة في كتابته الأولى عنها، إذ كان يعتمد في كتابته الأولى على الذاكرة المعرضة للسهو والنسيان. من هذه المعلومات التي صححها أن معاناته استمرت خمسة أشهر وليس ثلاثة أشهر، وأنه طلب من خالد محيي الدين التوسط له بعد مضي أسبوعين من وصول الدعوة إليه، وليس أن خالد محيي الدين عند سمع بما يحدث له، طمأنه بأنه سيحل له المشكلة، وأن خالد محيي الدين فشل أكثر من مرة في حل مشكلته، وأنه توسط له أيضاً مدير مكتب رئيس الوزراء، ونائب رئيس الجمهورية، وكان رئيس الوزراء ونائب رئيس الجمهورية وقتذاك زكريا محيي الدين.

ومنها قول مدير مكتب رئيس الوزراء ونائب رئيس الوزراء أنه حتى رئيس الوزراء ونائب الوزراء لا يستطيع أن يفعل شيئاً، حين رد عليه مدير مكتب الأمن في أثناء تشفعه لجلال أمين، قائلاً: نحن عادة نستطلع رأي سبع جهات، وجاءتنا موافقة معظمها ولكن رفضت المخابرات.
وتضمن كلامه الثاني تفصيلات في أسماء ووقائع لم يتذكرها عندما كتب عن الحادثة في سيرته الأولى. ومن هذه التفصيلات الواردة في مفكرته الشخصية ذكر اسم مدير مكتب الأمن، طه ربيع، وأن الاتصال بشعراوي جمعة وزير الدولة (غلط جلال أمين في كتابته الأولى في منصب شعراوي جمعة، إذ جعله وزيراً للداخلية في حين أنه كان وزير الدولة، وقد تولى هذا المنصب بعد مضي شهر وثمانية أيام على الحادثة، وتولى منصب وزير الداخلية بعد سفره بثمانية أيام) لحل المشكلة جاء بناء على نصيحة من مكتب رئيس الوزراء عن طريق صديقه أحمد القشيري الذي كان يعمل مستشاراً في المكتب: «حاول أن تتصل بشعراوي جمعة وزير الدولة لأن صلته بالمخابرات كبيرة، وإذا استطاع أحد أن يفعل شيئاً، فهو شعراوي جمعة فهو حلقة الوصل بين الحكومة والمخابرات». وهذه النصيحة تبين تعدد رؤوس صنع القرار في عهد عبدالناصر، ومركز الثقل فيه وإلى ما أسماه عبدالناصر في أخريات عهده، وأسماه محمد أنور السادات في أول عهده ب «مراكز القوى».

تختلف كتابة جلال أمين الثانية عن كتابته الأولى عن الحادثة، بأنها تقف بك أكثر على وطأة المعاناة التي تعرض لها جرّاء تقديمه طلباً للحصول على تأشيرة سفر للخارج. وتطلعك على حجم السلطة التي يتمتع بها مدير الجهاز المسمى في ذلك الوقت بمكتب الأمن. الي جعله يرد تشفع خالد محيي الدين، ويرد تشفع مدير مكتب رئيس الوزراء ونائب رئيس الجمهورية أكثر من مرة.

حُلّت مشكلة جلال عن طريق شعراوي جمعة، بعد أن استغرقت وقتاً طويلاً بأن يوافق على التوسط له، وذلك بعد أن كتب مذكرة بطلب منه، يشرح فيها علاقته القديمة بالبعث وكيف انتهت، وكذلك استغرقت وقتاً طويلاً في أن يحصل له على موافقة على سفره من جهازي المباحث والاستخبارات.
مما ذكره جلال عن طه ربيع في يومياته عن الحادثة قوله: «ذهبت إلى طه ربيع على الرغم مني… لا رد من المخابرات، ومقابلة أسوأ وأقصر، ويقول لي الواقف على الباب: إنني يجب ألاَّ أدخل مباشرة، قد حلّت عليهم المتاعب بسبب دخولي مباشرة على طه ربيع من يومين…».

الشاوي وتلميذه الذي أرهب جلال أمين

كنت قبل قراءتي لسيرتي جلال أمين، قد قرأت كتاباً بعنوان (مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي 1945-1965) لتوفيق محمد الشاوي ، أحد الإخوان المسلمين وأحد الأسماء البارزة في ما يسمى بإخوان الخارج والذي أدركته المنية منذ سنوات قريبة، وكان يتمتع بعلاقات ممتازة مع حكام عرب ومع حركات التحرر الوطني في بلدان شمال أفريقيا ومنظمة التحرير الفلسطينية. و هو صهر أستاذه عبدالرزاق السنهوري فهو متزوج من ابنته الدكتورة نادية.
في كتابه هذا، عرض الشاوي لحادثة وقعت له مع مدير مكتب الأمن طه ربيع في صيف 1954.

يقول الشاوي عن طه ربيع إنه أحد تلاميذه في معهد العلوم الجنائية بكلية الحقوق، وكان هو المشرف على مكتب الأمن بوزارة التربية والتعليم.
ويحدثنا عن مكتب الأمن، فيقول: «إنه يمثل المباحث والاستخبارات في كل وزارة وفي كل مصلحة أو شركة حسب أسلوب الازدواجية الموجود في النظم العسكرية والشمولية» ويضيف قائلاً: «كنت على علاقة طيبة مع كل تلاميذي ، وكثير منهم كان من ضباط الشرطة والأمن، ولم أكن أخفي عليهم علاقتي بالإخوان، وهم كانوا لا يخفون أنهم يعرفون مشاكلي مع الحكومة، لأن اعتقالي كان معروفاً».

بدأت الحادثة عندما اقترح أحمد بن بيلا على توفيق محمد الشاوي أن يسافر إلى فرنسا ليقابل الزعيم الجزائري مصالي الحاج ويصلح ذات البين بينه وبين اللجنة المركزية، رغم أنه يعلم أنه اعتقل لأسابيع في شهر مارس ثم أفرج عنه، وصدر قرار بمنعه من السفر. ولما أبدى له شكه أن توافق الحكومة المصرية على سفره قال له بن بيلا: لابد أن تحاول. بدأ الشاوي الإجراءات للحصول على جواز السفر والإذن بالخارج بحجة رغبته في حضور مؤتمر لهيئات التدريس بالجامعات في فيينا وأعطى طلبه تلميذه طه ربيع، فقال طه ربيع: «إنني سأسعى لذلك، وعاد بعد أسبوع ليخبرني بأنهم سيصرحون لي بالسفر ودهشت لذلك، ولكنني سررت، وأخذ مني الجواز، وقال لي أن عنده أملاً كبيراً في الموافقة، وأن الوزير وهو كمال الدين حسين وعده بهذا، وطلب مني أن أزور الوزير في منزلة لأفهمه أنني ذاهب إلى مؤتمر علمي».
قابل الشاوي الوزير كمال الدين حسين في منزله، والذي هو – كما هو معروف قريب من فكر الإخوان المسلمين- وأحسن استقباله. وأكد له أنه سيسمحون له بالسفر في الوقت المناسب.

عن طريق محمد عبدالله عنان، وعن طريق محمد محمد حسين شاعت تسمية “الهدامة” الملحقة بالتيارات والحركات والمذاهب والأفكار في كتابات الإسلاميين.
يقول الشاوي: «فعلاً حصلت على الإذن بالخروج، رغم أني كنت يائساً من ذلك، وعلاوة على هذا فإن طه ربيع لازمني في كل خطواتي حتى ركبت الطائرة، وكان هذا في ظاهرة مجاملة لي بصفتي أستاذة وباعتباره تلميذي، ولكني لم أكن واثقاً من أن الدافع كان هو مجرد حب التلميذ لأستاذه وحسن معاملته معه، وقد اعترف لي فيما بعد، وبعد أن اعتقلت وأفرج عني، والتقيت به عدة مرات بعد خروجي من المعتقل عام 1956، بل وبعد أن ترك المباحث (في الظاهر على الأقل) وحصل على الدكتوراه، وأخبرني أنه عين أستاذاً في الخرطوم في فرع جامعة القاهرة. لقد اعترف لي بأنه كان في ذلك الوقت يصر على مرافقتي ويعمل بصفة رسمية إلى جانب صفته كتلميذ، وأنه كان مكلفاً بأن يتتبع كل خطواتي ويقدم تقريراً عن كل الجهات التي اتصل بها والأشخاص الذين يتصلون بي ومعرفة الهدف الحقيقي من سفري (…) وصاحبني في خان الخليلي لشراء هدايا بحجة أنه له أصدقاء هناك يجاملونه في الأسعار».

لا يمكن من خلال السرد أعلاه مقارنة حادثة توفيق الشاوي مع مدير مكتب الأمن، طه ربيع، بحادثة جلال أمين معه التي تلتها بإثني عشر سنة. فحادثة الشاوي معه كانت هينة ولينة وبسيطة وطه ربيع كان يعامله بلطف ورفق واحترام كبير. ومن ظاهر ما رواه أنه كان يساعده في تخطي إجراء منعه من السفر وأنه أعفاه من القيام بالإجراءات الروتينية اللازمة وقام بها هو نيابة عنه وحتى مهمة مراقبته له كانت تتم بنعومة ولياقة وأدب رفيع، وليس هكذا كان الحال في حادثة جلال أمين، فلقد عامله طه ربيع بصلف وقسوة وعرضه ل «البهدلة» وزيادة على ذلك كان بدافع سياسي أيديولوجي ذاتي يعرقل حصوله على استمارة الموافقة رغم توسط بعض أهل النفوذ له تحت دعوى التهمة التي كان يرددها على مسامع خالد محيي الدين وغيره، وهي قوله عنه: «ده بعثي»!

وبسبب العنت والمشقة والإهانة التي واجهها جلال أمين في سبيل الحصول على استمارة الموافقة على السفر من مكتب الأمن، كان يطيب له – كما قال – أن يعد الحادثة قصته المفضلة للتدليل على نوع المناخ العام الذي كان يعيشه المصريون في النصف الثاني من الستينات، والدولة البوليسية التي سادت في مصر في ذلك الوقت، فكتمت أنفاس المثقفين وأساتذة الجامعات.

من هو طه ربيع؟

شدّني – لسبب شخصي – ما قيل عن هذا الرجل: طه ربيع. فلقد كنا نعرفه في كلية الدعوة والإعلام – وقبلها في قسم الإعلام بكلية اللغة العربية – باسمه الثلاثي: طه أحمد ربيع، وبلقبه الفخم: اللواء الدكتور فاللواء الدكتور طه أحمد ربيع من جيل المدرسين الأوائل في قسم الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد استمر في التدريس بالكلية إلى أن بلغ أجله.

وكنت سأدهش كثيراً لولا أني قبل أن أقرأ ما كتبه توفيق محمد الشاوي وجلال أمين عن طه أحمد ربيع، قد عرفت من الزميل الصحافي المصري ماهر عباس في أوائل التسعينيات، طرفاً يسيراً من ماضيه السلطوي غير البهي.
ففي إحدى المرات، وكنا نتجاذب الحديث عن أساتذة الإعلام من المصريين الذين درسوني، وكان على معرفة شخصية بمعظمهم، عرجنا في الحديث على طه أحمد ربيع فأشار إلى أن زملائه اللصيقين به من أساتذة الإعلام المصريين يذكرون أنه قبل وفاته بسنوات كان يشعر بتبكيت الضمير، خوفاً من أن يكون قد ظلم شيوعيين في أحد تقاريره.


محمد عبدالله عنان


لعل أول من استعمل تسمية الحركات والمذاهب الهدامة في الكتابات العربية إزاء المذاهب الاجتماعية الحديثة وإزاء المذاهب والحركات القديمة في التاريخ الإسلامي والتاريخ الأوربي وتاريخ الشرق القديم، هو المؤرخ المصري المرموق محمد عبدالله عنان
من هذه الإشارة العابرة في حديث ماهر عباس، فهمت خطأً، أنه كان يعمل في جهاز أو مكتب مكافحة الشيوعية، وكنت أجهل قبل قراءتي لما كتبه توفيق الشاوي وجلال أمين أن في مصر الخمسينيات والستينيات جهازاً يسمى مكتب الأمن لكن بعد قراءتي لما كتبه الشاوي عرفت طبيعة المنصب الذي كان يشغله في عهد جمال عبدالناصر على وجهه الصحيح، وعرفت أن سلطته كانت تستند إلى جهازي المباحث والمخابرات.

كانت شخصية طه أحمد ربيع مختلفة تماماً عن الصورة التي عرفه بها جلال أمين في الحادثة التي روى يومياتها في سيرته (رحيق العمر)، فرغم أن شخصيته مهيبة، ويزيدها هيبة أنه كان أجش الصوت، فإنه كان معنا – نحن طلبته- ودوداً ومترفقاً، ولا أتذكر أنه «شخط» أو «بهدل» أحداً منا.
كان يعاملنا بسواسية ، فلا يحابي طالباً أو طلبة على حساب طلبة آخرين، ولا يستهدف طالباً بعينه، فيلحق به الأذى. بمعنى أنه لم يكن مزاجياً أو أهوائياً.
كان يقبل على محاضراته بهمة عالية منشرح الصدر ومسرور الخاطر، ولا ينفك ثغره عن التبسم. كنت ألمس أن تدريسه لم يكن –بالنسبة له – مجرد وظيفة يجب عليه أن يتحمل أعبائها، بل هي متعة يسعد بأدائها على أحسن وجه.

كان متواضعاً ويميل في بعض الأحيان إلى الاستطراد والتبسط في الحديث عن تجاربه وما خبره من تاريخ الصحافة المصرية ويتحدث عن الشيوعية واليسار حديث المباغض والمكاره.
وللمقارنة، كان ثمة أستاذ جامعي سوري درّسنا مادة (الجغرافيا السياسية)، في أول فصل دراسي. هذا الأستاذ كان جيداً في إلقاء مادته وشرحها، وكان مثل طه أحمد ربيع يميل إلى الاستطراد في شرحه فيما يتعلق بالتيارات السياسية والفكرية، خاصة الشيوعية فكان يقول لنا: أن الشيوعية في بلدان الشام هي صنيعة الأقليات العرقية والدينية والمذهبية. ثم يهاجم خالد بكداش بحماس وعاطفة مشبوبة. غير أنه كان يقيم حاجزاً فاصلاً بيننا – نحن طلبته – وبينه.
وكان مما يلفت نظرنا في طه أحمد ربيع إلى أنه على غير عادة المصريين في ذلك الوقت يقتني سيارة غير بخسة الثمن، وكانت سيارته من فئات المرسيدس.
طه أحمد ربيع كان يرتدي دائماً بدلة رسمية كاملة، وكان أنيقاً في اختياراته للقمصان وألوان الكرافتات. كان ينطبق عليه من حيث الشكل والملبس وأسلوب التصرف وصف «حضرة البيه» أو «سعادة الباشا»، التي كان ممتلئاً بها منا من يهوى مشاهدة الأفلام المصرية القديمة.
كان حيوياً في مشيته ونشيطاً في حركاته، رغم تقدمه في السن وكنا نعزو ذلك إلى أنه في الأصل رجل عسكري، كما يشير إلى ذلك اللقب الذي يتقدم اسمه ويتقدم لقبه العلمي.

ومما أذكره في هذا الصدد أنه قال عنه نفسه، أنه درس في الجامعة قانون جنائي، وعمل في مؤسسة دار الشعب، وهي المطبعة الرسمية للحكومة في مصر.
لم نكن وقتها نفهم – لحداثة دارساتنا الجامعية – كيف لرجل عسكري درس القانون الجنائي أن يدرّس مادة إعلامية. كنا سألناه هذا السؤال. فأجابنا: أنه أتم دراسته العليا في مجال الإعلام، وأن الإعلام له صلة بالقانون من حيث اللوائح والأنظمة وتطبيقها عليه.
وقد نسيت ما قاله في تفسير أنه عسكري وأستاذ إعلام في الوقت نفسه.

أتذكر أنه في بعض محاضراته كان يقتضي منه المقام في بعض الأحيان الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم وبأحاديث نبوية، فتجرأ يوماً طالب وسأله: لماذا يا دكتور لا تقتدي بالسنة وتربي لحيتك؟
سؤاله هذا كان بغرض التخابث، إذ كان هو أيضاً يحلق لحيته. وبحركة لا إرادية تحسس أستاذنا طه أحمد ربيع ذقنه التي يحرص على حلقها مع مطلع كل صبح، وأجاب: كنت أتمنى تربيتها لكن تربيتها تسبّب لي حكة! فضحكنا لإجابته.

كان الطالب يتعرف عليه عند التحاقه بهذا القسم في أول فصل دراسي، فهو كان يدرس مادة تاريخ الإعلام لطلاب هذا الفصل.
كانت المادة عبارة عن مذكرة كتبها هو. وكنت قد قرأتها كاملة ليس بغرض المذاكرة المبكرة، وإنما لشغف الاطلاع على ما فيها من معلومات شيقة كانت جديدة علي.
استوقفتني جملة في المذكرة تجعل من الشيوعية والفاشية والنازية شيئاً واحداً، وتسلكها كلها ضمن تسمية هي: المذاهب الهدامة. مثل هذا العك الدعائي الذي لا يلتفت إلى أن الفاشية والنازية هما نقيضان للشيوعية وأن الشيوعية هي أيضاً نقيضة لتيارات أخرى في الفكر الأوربي، كنت أقرأه في كتب الإسلاميين. وبما أنه مما يتبدى مما يقوله طه أحمد ربيع في محاضراته أنه ليس إسلامياً حزبياً، وأنه يصدر عن فكر الإخوان المسلمين،تشجعت عندما عندما وصل في محاضرته إلى تلك الجملة أن أبدي اعتراضي عليها ذاكرا فحواه،أجابني على الفور:” هو أنت شيوعي ياوله!؟ قلت : لا، اعتراضي هو اعتراض علمي. قال: بص! همّا بيجمعهم الاشتراك في الهدم والتخريب والارهاب واللي يفرقهم حاجات شكلية”!

في ذلك الوقت كنت أنطوي على نزعة معادية للماركسية لكن لايستهيوني النقد الدعائي لها، وافضّل الاتجاه الذي كان ينقدها نقدا موضوعيا.
فسرّت جملته وإجابته وقتها بأنها محاباة لذلك العك الدعائي خاصة وأنّا كنا في جامعة ذات توجه ديني، ومن طبيعة الأمور أن تهيمن عليها مقولات الإسلاميين حتى في التخصصات التي هي خارج نطاق العلوم الدينية.
لكن بعد قراءتي لما كتبه جلال أمين عنه في سيرته (رحيق العمر) أدركت أن تفسيري غير صائب. فالرجل لم يكن في جملته تلك محابياً، وإنما كان يصدر عن مفهوم أمني (أو بوليسي) سائد في مصر الملكية ومصر الناصرية تغذّى منه وتشبع به، وهو من ضمن إيماناته الصادقة وقناعاته الراسخة.


إن حصر المذاهب الاجتماعية الحديثة في زاوية غير موضوعية وفي منتهى الضيق سمة بارزة في الكتاب الإسلامي المعاصر. كما أن استعمال كلمة «الهدامة» إزاء المذاهب أو الحركات أو التيارات أو الأفكار الحديثة والقديمة، هو استعمال شائع في أوعية الخطاب الديني الإسلامي كافة، المسموع منها والمكتوب.
لذلك كنت أحسب أن لاصقة «الهدامة» وبخاصة مع المذاهب والتيارات، هي من مفردات الدينين والإسلاميين، وأنهم أخذوها من الكتب التي ألفّها قدمائنا عن الفرق والمذاهب والملل والنحل.

ثم عرفت لاحقا أن هذا أمراً غير صحيح. فوصف أمر أو نشاط بأنه هدّام ووصف مبادئ أو مذاهب أو نظريات …إلخ. بأنها هدامة، هو في واقع الأمر وصف محدث وطارئ على المعجم الإسلامي قديمه وحديثه. فهذا الوصف ترجمة لكلمة SUBVERSION يقابلها باللغة العربية كلمات كالتخريب والتدمير والتهديم. وقد ترجمت هذه الكلمة الإنجليزية إلى العربية منذ البداية باستعمال الكلمة الأخيرة، فيقال النشاط الهدام والأنشطة والمبادئ والمذاهب والحركات «الهدامة».

لعل أول من استعمل تسمية الحركات والمذاهب الهدامة في الكتابات العربية إزاء المذاهب الاجتماعية الحديثة وإزاء المذاهب والحركات القديمة في التاريخ الإسلامي والتاريخ الأوربي وتاريخ الشرق القديم، هو المؤرخ المصري المرموق محمد عبدالله عنان. فلقد استعمل في عنوان كتاب له تسمية الحركات الهدامة واستعمل في تضاعيفه تسمية الحركات الهدامة.
هذا الكتاب صدر في طبعته الأولى سنة 1926.وكان عنوانه (تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة، متضمناً سيرها، ونظمها، وتعاليمها، ووثباتها، محلّى بالصور التاريخية).



تلحظون أن العنوان جداً طويل ، وربما ظن البعض منا أن محمد عبدالله عنان في عنوان كتابه الطويل، وبخاصة أنه صدر منذ تاريخ بعيد، يحتذى سنة المؤلفين العرب والمسلمين القدامى في طول عناوين مصنفاتهم. والأمر خلاف ما يظن هؤلاء، فبعض المؤلفين العرب من ذوي الثقافة الحديثة الذين يتكلمون لغة أجنبية من نهايات القرن التاسع عشر إلى فواتح القرن الماضي، كانوا يحتذون في عناوين كتبهم الطويلة الطريقة الفرنسية في عنونة الكتب والتي تغنيك عن مطالعة فهارس محتوياتها!
وقد لاحظت أنه ابتداء من الطبعة الثانية للكتاب التي تمت سنة 1954، محا محمد عبد الله عنان العنوان التفصيلي الطويل المذيل بالعنوان الرئيس: (تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة)، وقد عرف الكتاب واشتهر بطبعاته اللاحقة بهذا العنوان المختصر. وأزال عبارات واردة على غلاف الكتاب في الطبعة الأولى، وهي: إضافة لقب (المحامي) إلى اسمه وتعريف أتى تحت اسمه هو: (محرر بجريدتي السياسة والسياسة الأسبوعية مؤلف تاريخ العرب في أسبانيا و قضايا التاريخ الكبرى … الخ) وتحذير مكتوب تحت هذا التعريف يقول: كل الحقوق محفوظة وممنوع قطعاً النقل والاقتباس دون إذن خاص.ولنا أن نعدّ هذا التحذير تأثراً مبكراً بقانون حفظ الحقوق المؤلف المعروف عند الغرب.
ومما له صلة باستعمال محمد عبدالله عنان تسميتي الحركات الهدامة والمذاهب الهدامة أنه كان بالأصل لصيقاً بالثقافة الأوربية وكان يتكلم لغات أوربية عدة، وكان يترجم عنها، وأن الكتاب جاء بعد تجربة سياسية فاشلة تخلى هو عنها تماماً.
هذه التجربة هي أنه هو ومحمود حسني العرابي وسلامة موسى وعلي العناني وآخرين أنشأوا جمعية اشتراكية لدراسة الفكر الاشتراكي سنة 1919. ثم بعد ذلك هو وهؤلاء مع لفيف من الإشتراكيين الأجانب المهاجرين إلى مصر أسّسوا حزباً سياسياً أسموه (الحزب الاشتراكي المصري ) سنة 1921 وهذا الحزب في جناح منه يعد باكورة الأحزاب الشيوعية بمصر.

كان هذا الحزب يتنازعه اتجاهان: اتجاه اشتراكي فابي واتجاه شيوعي صريح. وبعد مضي أحد عشر شهراً ونصف الشهر على تأسيس الحزب انقض أنصار الاتجاه الأخير على مكتب قيادة الحزب بالقاهرة وطردوا قياديه وهم، محمد عبدالله عنان وسلامة موسى وعلي العناني من الحزب، لأن اشتراكيتهم كانت اشتراكية إصلاحية وليست ثورية وأبقوا على محمود حسني العرابي في قيادة الحزب لأنه كان يشاركهم الرأي. ونقلوا مركز القيادة من القاهرة إلى الإسكندرية.وبانتصار هذا الاتجاه أخذ الحزب جرعة ماركسية أكثر في عرض برامجه لكنه حُل في سنة 1924 على يد زعيم الوفد سعد زغلول.

بعد طرد محمد عبدالله عنان من الحزب تحول كلياً عن الفكر الاشتراكي إلى ما يسمى في ذلك الوقت بالأفكار الأحرارية، أو التحررية أو المذهب الحرّ أو إلى مايسمى منذ عقود طويلة بالليبرالية. وعمل ابتداءً من سنة 1924 في جريدتي (السياسة) و(السياسة الأسبوعية) التابعتين لحزب الأحرار الدستوريين من دون أن ينضم إلى الحزب. ولقد ظل لسنوات من غلاة القومية المصرية، كما هو حال كثير من المثقفين المصريين في ذلك الزمن.

كنت أحسب أن لاصقة “الهدامة” وبخاصة مع المذاهب والتيار هي من مفردات الإسلاميين ثم عرفت لاحقا أنها ترجمة لكلمة انجليزية يقابلها باللغة العربية كلمات كالتخريب والتدمير والتهديم.
أطلعنا سلامة موسى في كتابه (تربية سلامة موسى – ط1، 1947، طبعة منقحة 1958) – وهو يتذكر كفاحه السياسي – على نتفة مما حل بالحزب الاشتراكي الذي أنشأه مع رفاقه الثلاثة. يقول سلامة موسى في هذا الكتاب “ولكن حدث فجأة أن أحدنا، الأستاذ حسني العرابي، وجد فينا بطئاً لم يطق له صبراً، فقصد إلى الاسكندرية وأعلن الحزب (الاباحي) – وكلمة اباحي يقصد منها مايفهمه الجمهور الآن من كلمة شيوعي –”.
محمود حسني العرابي جعل كلمة اباحي على الضد من اشتراكي وإصلاحي ومعتدل، وكان يقصد بها الجذرية والثورية، وأنها حق مباح.
المفارقة أن الإباحية التي قالها شيوعي في سنوات نشأة الشيوعية في منطقة الشرق الأوسط، ستغدو فيما بعد تهمة شنيعة تصم الحكومات والتيارات الأخرى الشيوعييين بها، وكانت هذه التهمة الشنيعة تزعجهم أيما إزعاج.

الإباحية في ذلك الزمن مثل كلمة خليعة التي يستعملها أصحاب المجلات وأصحاب المسرحيات الساخرة الهزلية في وصف مجلاتهم ومسرحياتهم، إذ كانت الخلاعة أيامها كانت تعني السخرية والهزل ولم يكن لها معنى قدحي معيب.
ولفهم الملابسات والمناخ الذي استعمل في ظلهما محمد عبدالله عنان تسميتي الحركات الهدامة والمذاهب الهدامة نلملم ماسبق في نقاط محددة هي:
- الكتاب صدر بعد سنتين من توجيه ضربة للحزب الاشتراكي المصري الذي كان بعد طرده وطرد رفيقيه سلامة موسى وعلي العناني كان قد ذيّل اسمه في أوراقه الخاصة ومطبوعاته بهذه التتمة: (الشعبة المصرية للدولية الشيوعية).

- أنه طرد من الحزب الذي كان من ضمن مؤسسيه، وأنه انقلب جذرياً حتى على الفكر الاشتراكي.
-أنه من باب الغضب والغيض والمكايدة لرفاقه أصحاب الفكر الثوري الذين عاش معهم تجربة سياسية حزبية قصيرة، استخدم تينك التسميتين اللتين كان يجري استخدامهما في الفكر الغربي اليميني المحافظ وفي الفكر الشيوعي الثوري على حد سواء.
عندما حلّ سعيد زغلول الحزب الاشتراكي المصري في منتصف العشرينيات أصدر قوانينا تجرّم ترويج الشيوعية، وقد زادت فيها حكومة إسماعيل صدقي في منتصف الأربعينيات مع صعود المد الشيوعي في مصر.

ما بين منتصف العشرينيات إلى سنوات الخمسينيات، كانت تعبيرات من مثل النشاط الهدام والحركات والأفكار والمبادئ والمذاهب “الهدامة” مستخدمة في حقل التداول السياسي والأمني والحزبي والقانوني والصحافي والثقافي بمصر.

محمد محمد حسين أو قنطرة الإسلاميين

كتب محمد محمد حسين أستاذ الأدب العربي بجامعة الاسكندرية سلسلة من المقالات في مجلة (الأزهر) ما بين سنة 1956 وسنة 1957 وسنة 1958، حمل معظمها عنواناً ثابتاً هو (حصوننا مهددة من داخلها)، وكان رئيس تحرير المجلة وقتذاك محب الدين الخطيب.
هذه السلسلة من المقالات في أثناء نشرها أعجبت الشيخ عبدالمهيمن أبو السمح إمام المسجد الحرام كثيراً، فطلب من كاتبها محمد محمد حسين أن يأذن له بجمع بعض منها في كتاب فأذن له بذلك. جمع الشيخ عبدالمهيمن أبو السمح أربعة مقالات منها كانت قد نشرت سنة 1957 في كتاب طبعه على نفقته الخاصة، وكان هو ناشره، تحت عنوان (في وكر الهدامين).

أرجح أنه طبع إما في سنة 1958 وإما في أول سنة 1959.
هذا الكتاب هو من الكتب النادرة، إذ لا توجد منه سوى نسخ محدودة في بعض مكتبات الجامعات ودور الكتب ومراكز البحوث والدراسات في العالم العربي، يتراوح عددها ما بين النسخة الواحدة والنسختين وبالكثير خمس نسخ.
ولأن هذا الكتاب كتاب نادر، ولأنه بصيغته النهائية التي استقر عليها سنة 1967، سيغدو الى جانب كتاب تلاه في الصدور وكتاب آخر للمؤلف سبقه في الصدور مؤثراً في مسار الفكر الإسلامي الحديث، وتبعاً له مؤثراً في اتجاهات الحركات الإسلامية، سأقدم وصفاً له وبيانات عنه.




استوحى محمد محمد حسين عنوانه الشهير عند الإسلاميين “حصوننا مهددة من الداخل” من التعبير الذي استخدمه وزير الخارجية الأمريكي دالاس: “الغزو من الداخل”، أو بالأحرى هو تصرف في ترجمته وصاغته صياغة بليغة.
عنوان الكتاب هو من صنع المؤلف محمد محمد حسين وليس من صنع الناشر الشيخ عبدالمهيمن أبو السمح. فالعنوان استوحاه المؤلف من عبارات ترددت أن من أسماهم بالهدامين، ينتمون الى عصابة. والعصابة يكون لها وكر سري تجتمع به لنسج مؤامرات التخريب والهدم.
غلاف الكتاب يتضمن اسم المؤلف واسم ناشره.تتصدر الكتاب مقدمة تليها كلمة الناشر.جاءت المقدمة في صفحتين وما يقرب من نصف صفحة، وجه صاحبها الخطاب فيها الى القارئ، بعبارة هي: اخي في الله. ومما قاله المقدم في مقدمته أن الكتاب “يفضح أساليب الاستعمار ويكشف الستار عن الدمى التي يحركهاالاستعمار”. ونبه الى أن “الاستعمار لا يشن هجومه من الخارج بل للأسف يهاجمنا من داخل حصوننا.. من داخل بلادنا..” والكاتب يشرح كيف يربي الاستعمار فئة من مواطنينا تخدم مصالحه وتسبح بحمده وتقدس له، ثم يدفعها الى مراكز القيادة في البلاد وفي منظماتنا العربية ليستطيع بواسطتها ابعادنا تدريجياً عن الصراط المستقيم. لا تحمل المقدمة اسماً صريحاً ولا اسماً مستعاراً، وإنما اسم يزيد من رهبة عنوان الكتاب ومضمونه عند قارئه، هذا الأسم هو: (فاعل خير)!

جاءت كلمة ناشر الكتاب الشيخ عبدالمهيمن أبو السمح في نصف صفحة، وقد خاطب القارئ، بعبارة هي: “أيها الاخ المسلم”، مفصحاً له في بداية كلمته عن سبب جمعه مقالات محمد محمد حسين ونشرها في كتاب، السبب هو كما قال: “اعجابي بها حفزني على نقلها من مجلة الأزهر وطبعها على نفقتي حسبه الله وابتغاء مرضاته لعلك لم تطلع عيها من قبل لترى ما يحيكه الاستعمار من الأساليب وعلى يد من؟! على أيدي أخوة لك في الإسلام استهواهم بما زين لهم من الأساليب، وخدعهم بالمادة، وزين لهم القبيح، رأوه حسناً وليس بالحسن…”.

وختم كلمته بإفادة عجيبة، تعطينا فكرة عن رأي زملائه المشايخ في مثل هذا الصنف من الكتب، يقول في افادته: “وقد لامني الكثير من اخواني على ما بذلت من طبع هذه المقالات فأجابتهم بما قص الله عن صلحاء بني اسرائيل في قوله تعالى: {وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة الى ربكم ولعلهم يتقون} “.

عنونت المقالات الأربعة التي ضمها الكتاب بعناوين ثلاثة ثابتة لا تتغير. هذه العناوين الثلاثة بحسب ترتيب وضعها من أعلى الى أسفل هي: حصوننا مهددة من داخلها، في الجامعة العربية، دعوة الاستعمار الى احياء الحضارات السابقة على الإسلام، وفي كل مقال من المقالات الأربعة وضعت بعد نهايته هذه العبارة: الدكتور محمد محمد حسين أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة الأسكندرية، مما يشير الى أن دور ناشره الشيخ عبدالمهيمن أبو السمح قائم على نقل حرفي من مجلة الأزهر، من دون أي تنسيق واعادة ترتيب.
عدد صفحات الكتاب اثنتان وستون صفحة، ولا يتضمن فهرساً لمحتوياته.
طبعت نسخة من هذا الكتاب في مطبعة نهضة مصر بالعنوان نفسه، ولا يعرف على وجه الدقة سنة صدورها. ومن المحتمل أن تكون هذه السنة في أول عقد الستينيات. وتعد هذه النسخة نسخة نادرة.

في المرحلة الاولى التي مر بها الكتاب، مرحلة الشيخ أبي السمح، لم يحظ الكتاب بالانتشار، رغم عنوانه الجاذب الذي يوحي للقارئ بانه مؤلفه يخوض مغامرة بوليسية. ربما يعود هذا الى ان ناشره طبع منه نسخاً قليلة. وبحكم ان ناشره ذو منصب ديني مرموق وشيخ وواعظ وذو اتجاه سلفي فلقد عرف الكتاب على الأقل في عنوانه في أوساط المشايخ السلفيين التقليديين.

زار محمد محمد حسين الكويت سنة 1966، بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في موسمها الثقافي، وألقى فيها محاضرتين طلب منه الناشطون الإسلاميون هناك، وكان معظمهم من غير الكويتيين، في أثناء زيارته هذه طبع مقالاته المنشورة في مجلة (الأزهر) جميعها في كتاب فوافق على ذلك، وصدرت تلك المقالات في كتاب عنوانه الرئيس (حصوننا مهددة من داخلها) وعنوانه الفرعي: (في اوكار الهدامين) وقد جعل بين هلالين. الكتاب صدر عن مكتبة المنار الإسلامية بالكويت مكتبة الثقافة بالدوحة، وصدرت منه في سنة ثانية طبعة ثانية مصورة من الطبعة الاولى في بيروت.
الكتاب في مرحلته الثانية في طبعته الاولى بالكويت والدوحة وطبعته الثانية في بيروت شهد اقبالاً واسعاً من القراء وهذا يرجع الى ان الحركة الإسلامية (قبل أن تسمى بالصحوة) تبنت الكتاب وروجته.
وقد أشار عثمان الصيني في مقال له بجريدة (الرياض) نشر بعنوان (فوبيا الغزو الفكري أم عكس الاتجاه) الى سعة انتشار الكتاب وتأثيره في أبناء جيله في مرحلته الثالثة.
في طبعة الكتاب الثالثة الصادرة عن دار الارشاد ببيروت سنة 1971 وهي مرحلته الثالثة أسقط المؤلف العنوان الفرعي (في اوكار الهدامين) من العنوان الرئيس (حصوننا مهددة من داخلها)، وظل هذا هو عنوان الكتاب في طبعاته اللاحقة العديدة.

تبدأ مرحلته الرابعة من طبعته الرابعة، ذلك أنه في هذه الطبعة أسقط منه فصولاً ثلاثة التي ضمها باب (في الدراسات الإسلامية) وأضافها الى أبواب كتابه {الإسلام والحضارة الغربية) الصادر في طبعته الاولى سنة 1969، وأضاف الى هذه الطبعة مذكرة حوت رأيه فيما يتعلق بقضية تطوير الدراسات العربية والإسلامية.
يتضمن الكتاب في طبعته الاولى الصادرة سنة 1967 وفي طبعاته اللاحقة المتعددة مقدمة نص المؤلف على أنها مقدمة الطبعة الاولى، وهي مؤرخة ب 9 رجب 1379ه الموافق ل 18/1/1959م. هذه المقدمة بتاريخها المذكور تربك القارئ، لأن المؤلف من خلال بيانات كتابه وإشارة في مقدمة الطبعة الثالثة الصادرة سنة 1971 يذكر أن طبعة الكتاب الأولى تمت سنة 1967، ولا يعد نشر الشيخ عبدالمهيمن أبو السمح للكتاب هو طبعته الاولى، ربما وهذا ما قد يفهمه القارئ من تلك الاشارة الى أن ما جمعه الشيخ عبدالمهيمن أبو السمح هو بعض المقالات وليس كلها، وأن الكتاب صدر مليئاً بالأخطاء.

ونتيجة لهذا الإرباك الذي أوقع المؤلف القارئ به، كنت أعتقد أن طبعة الشيخ عبدالمهيمن حوت مقدمة الطبعة الأولى، وعندما اطلعت عليها اكتشفت أنها غير موجودة فيها ولا هي أيضاً موجودة في النسخة التي طبعتها مطبعة نهضة مصر.
في تقديري أن المقدمة كتبها لكتابه الذي نشره الشيخ عبدالمهيمن لكن الشيخ استعجل في طبعه، فطبعه قبل أن تصله المقدمة.
وأرى أن صدور الكتاب من غير مقدمته وعدم رضاه عن الهيئة التي ظهر بها الكتاب، هما سبب عدم اعترافه بطبعة الشيخ عبدالمهيمن أبو السمح، وليس السبب أنها ضمت بعض المقالات لا كلها، ولا انها كانت مليئة بالأخطاء، فهذان سببان غير كافيين لعدم اعترافه بها.

محمد محمد حسين كان هو القنطرة التي عبرت عليها تسمية “التغريب” إلى ضفة كتابات الإسلاميين، وقد تحدرت إلينا هذه التسمية من كتابات المستشرقين في أوائل القرن الماضي والتي تأتي عندهم مرادفة للتحديث.
مقدمته تضمنت إشارات ومعلومات تحف بكتابته لسلسلة مقالاته في مجلة {الأزهر} يراها هو مهمة وهي بالفعل كذلك وأن لا غنى للكتاب عنها، ومحمد محمد حسين منذ فترة مبكرة في كل أعماله التأليفية ابتداء من آخر سنوات الأربعينيات، يحرص على استيفاء الجانب الشكلي فيها، اقتداء بالطريقة الغربية في صناعة التأليف، والكتاب بالهيئة التي هو عليها في طبعة الشيخ عبدالمهيمن أبو السمح كما أشرنا سابقاً ليس فيه تنسيق وترتيب ولا بيانات نشر وهذا امر يعنى به محمد محمد حسين عناية صارمة في كتبه.

أعد محمد محمد حسين بحثاً بعنوان (في شؤون الروح) في أثناء نشر سلسلة مقالاته في مجلة (الأزهر) في أواخر الخمسينيات ضمن هذه السلسلة لكنه كما اخبرنا انقطع عن نشر بقيته بعد ان نحي الأستاذ محب الدين الخطيب عن رياسة تحرير المجلة، وحل محله احمد حسن الزيات، فألقاه في جمعية الشبان المسلمين، ثم نشره في كتاب صادر عن (منشأة المعارف) سنة 1960 تحت عنوان (الروحية الحديثة: حقيقتها وأهدافها).
وفي هذا الكتاب كان يستعمل تسمية الدعوات الهدامة، ثم أعاد نشره في بيروت سنة 1969، مستخدماً هذه التسمية ضمن عنوانه: {الروحية الحديثة دعوة هدامة: تحضير الأرواح وصلته بالصهيونية العالمية).

البرنامج الأمريكي :النقطة الرابعة

لا يمكن من زاوية تحقيبية وسياسية وأيديولوجية عزل مقالات محمد محمد حسين المنشورة في مجلة (الأزهر) في أواخر الخمسينيات وفصلها عن كتابين ألّفهما شابان في ذلك الوقت. هذان الكتابان، هما: ( الاستعمار الجديد أو النقطة الرابعة) و(في أزمة الثقافة المصرية)، وهذان الشابان، هما: الصحافي أحمد بهاء الدين والناقد رجاء النقاش.

لا يمكن عزل تلك المقالات وفصلها عن هذين الكتابين، لنشر المقالات والكتابين في العقد نفسه (الكتاب الأول نشر في القاهرة سنة 1951م، والكتاب الآخر نشر في بيروت سنة 1958م) ولأن المقالات والكتابين تضمنا هجوماً على المشاريع الثقافية الأمريكية في مصر والمنطقة العربية، ولأن الكتاب الثلاثة كانوا موالين لجمال عبدالناصر، وظلوا على هذا الولاء إلى وفاتهم.

يختلف عنهم محمد محمد حسين في ما كتب من مقالات أنه أكاديمي متضلع وباحث متمرس، وأن عروبته عروبة إسلامية ضيقة، وأنه محافظ محافظة زمِّيتة إزاء قبول التحديث، رغم أنه تعلم تعليماً حديثاً وكان متحرراً في مطلع حياته العلمية والأكاديمية، بينما كان أحمد بهاء الدين ورجاء النقاش في كتابيهما عروبيين متحررين مع ميل لليسار.

كتابا أحمد بهاء الدين ورجاء النقاش اندثرا ولم يكن لهما تأثير يذكر، أما مقالات محمد محمد حسين فقد أصبحت كتاباً ذائع الصيت عند الإسلاميين منذ صدوره في أواخر الستينيات. وكان له تأثير عميق في وعي الإسلاميين المعاصر وفي أطاريحهم الأكاديمية، وقد قدم محمد محمد حسين في هذا الكتاب وفي كتابين له أشرت إلى اسمهما فيما سبق، إلى الإسلاميين رؤية كلية متزمتة اتكأ عليها كثير منهم في موقفهم النابذ لعصر النهضة العربي والتحديث الفكري والتجديد الديني وأعلامه، والكاره للطهطاوي وخير الدين التونسي و جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي.

عن طريق كتاب محمد عبدالله عنان (تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة) وعن طريق كتاب محمد محمد حسين في تسميته الأولى (في وكر الهدامين) وتسميته الثانية الفرعية (في أوكار الهدامين) وعن طريق كتابه ( الروحية الحديثة دعوة هدامة ..) شاعت تسمية (الهدامة) الملحقة بالتيارات والحركات والمذاهب والأفكار إلخ .. في الخطاب الإسلامي الوعظي وفي كتابات الإسلاميين عامة. فالكتاب الأول من المراجع المعتمدة في كتابات الإسلاميين. والكتاب الثاني بالمراحل الأربعة التي مرّ بها كان كتاباً تثقيفياً أساسياً في الفكر الديني التقليدي المحافظ وفي الفكر الإسلامي الحركي على مختلف تياراته، إلى أواخر الثمانينيات الميلادية.

الغارة على العالم الإسلامي

في سنة 1911 كتب المستشرق أ. ل. شاتليه في (مجلة العالم الإسلامي) الصادرة باللغة الفرنسية تقريراً طويلاً عن نشاط الإرساليات التبشيرية البروستانتية في العالم الإسلامي. فلخص محب الدين الخطيب (سوري مهاجر الى مصر) ومساعد اليافي (لبناني طرابلسي عاش فترة من الزمن في مصر) هذا التقرير ونقلاه الى العربية ونشراه في ذلك العام بجريدة (المؤيد) الصادرة بالقاهرة. ونقلته عن (المؤيد) مجلات متعددة، منها مجلة المنار في القاهرة وجريدة الإخاء العثماني في بيروت. وفي سنة 1949 أعاد محب الدين الخطيب في جريدته جريدة (الفتح) نشر التقرير الطويل الذي كتبه شاتليه ولخصه ونقله الى العربية هو اليافي. وفي سنة 1931 طبعه محب الدين الخطيب في كتاب في (المطبعة السلفية) بالقاهرة. وقد تعددت طبعاته في المطبعة التي يملكها، وهي المطبعة السلفية، وفي دور نشر أخرى.




للأكاديمي السعودي فالح بن شبيب العجمي كتاب اسمه ( تحت القشرة: دراسات في الثقافة والموروث) جانب فيه الصواب حين اعتبر أن مصطلح “العالم الإسلامي” هو صنيعة الخطاب الديني المعاصر.
كان الخطيب واليافي في فترة عملهما محررين بجريدة (المؤيد)، يعنيان بترجمة بعض الأبحاث المنشورة في (مجلة العالم الإسلامي) منذ صدورها في سنة 1904، ولقد صدمهما التقرير الذي كتبه رئيس تحريرها المستشرق شاتليه، فبعد أن كانت المجلة التي يوليانها عنايتهما “مجلة اجتماعية أدبية (..) ظاهرة بمظهر علمي تكون الغايات السياسية فيها بالدرجة الثانية.. تحولت في الشهر الذي نشر فيها شاتليه تقريره إلى مجلة تبشيرية”. يقول اليافي مخاطباً رفيقه الخطيب وزميله في (المؤيد): أنظر، إنما أصدرت عدداً ضخماً ليس فيه غير بحث واحد هو بحث تبشيري يدور حول ما تقوم به ارساليات البشير البروتستانية في العالم الإسلامي وما قيل في المؤتمرات التي عقدتها تلك الارساليات في اوقات مختلفة، وقد جعلت عنوان هذا البحث (الغارة على العالم الإسلامي) أو (فتح العالم الإسلامي).

اختار الخطيب واليافي الترجمة الاولى وهي الغارة على العالم الإسلامي عنواناً لما نشراه مسلساً في جريدة (المؤيد) ولقد حافظ الخطيب على هذا العنوان حينما اعاد النشر في جريدة (الفتح) وعند إصداره في كتاب.
تلخيص الخطيب واليافي لما كتبه شاتليه ونقله الى العربية أثار نقداً عند فريق من المسلمين ” ساءهم أن ينشر المؤيد مقالات (الغارة على العالم الإسلامي بدون ان يعلق عليها”. وأثار سجالاً بين جريدة (لابورص اجبسيان) الصادرة بالاسكندرية و(مجلة العالم الإسلامي) ، وبين جريدة (المؤيد).

من أين جاء هذا الوصف: العالم الاسلامي ؟

وبمناسبة ذكر ( مجلة العالم الإسلامي)، كنت قد قرأت منذ سنوات كتاباً للأكاديمي السعودي فالح بن شبيب العجمي اسمه ( تحت القشرة: دراسات في الثقافة والموروث) رأياً حول مصطلح (العالم الإسلامي) جانب الصواب فيه. يقول فالح العجمي في الفصل الأول من الكتاب ( الثوابت نوابت: دراسة نظرية وتطبيقية على خطاب الجماعات الإسلامية المعاصر): ” إحدى مكونات الهوية التي يخلط فيها الخطاب الديني عناصر المكونات الجغرافية والسياسية للأوطان، ما أصبح يطلق عليه (العالم الإسلامي). وهو دليل على نجاح الخطاب الديني في التغلغل إلى أذهان السياسيين والعلماء المتخصصين، بل والعامة الذين استعاروا – جميعاً – هذا المصطلح، وأصبحوا يستخدمونه مرادفاً للرقعة الجغرافية التي يوجد فيها مسلمون”.

ويدعم رأيه برأي قاله الأكاديمي العراقي عبدالله إبراهيم في دراسة عنوانها (المجتمعات الإسلامية ورهانات الحداثة والعولمة) منشورة في مجلة (قضايا إسلامية معاصرة). يقول عبدالله إبراهيم: ” وهذا بالطبع يخلق مشكلة في تصنيف العوالم الأخرى، هل تصنف سلباً (بأنها ليست إسلامية؟ ) أم تصنف حسب هوياتها الدينية المقابلة للإسلام؟ وهذا يدخلنا في دوامة من العداء مع الأخر، فإذا كان مصطلح (العالم الإسلامي) بديلاً لدار الإسلام، فإن بقية العالم ستكون ( دار الحرب) “!
يهوي بهذين الرأيين إيضاح بسيط، وهو أن تسمية (العالم الإسلامي) ليست من صنع الخطاب الديني المعاصر، بل هي تسمية غربية، فالغرب هو الذي سكّ تسمية (العالم الإسلامي) وهذه التسمية في العربية هي ترجمة ل (لي موند مسلمان) LE MONDE MUSULMAN في اللغة الفرنسية. والغرب هو الذي سك ايضا تسمية ( عالم الاسلام).

يلتقي كشك بعد تحوله عن الشيوعية بمحمد محمد حسين في خطاطته التأريخية وترسيمته العقدية التي وضعها الأخير لفهم تاريخ التحديث والعلمنة من منظور شديد في محافظته ينتصر فيه للتقليدية في مواجهة التجديد.
كما أن تسمية (العالم العربي) هي – بالأساس- تسمية غربية، ترجمت إلى العربية.
استخدام مفردتي عالم والعالم في مجال الجغرافيا هو استخدام بدأ في العصر الحديث. وكذلك هو الأمر في النسبة أو الإضافة إليهما كقولنا عالمي والعالمي.
فالجغرافيون المسلمون كانوا يستخدمون بديلاً لمفردتي عالم والعالم مفردات من مثل أقاليم وممالك وبلاد وأرض وديار وبرّ والأماكن والبقاع والأصقاع.
يقوم رأي عبدالله إبراهيم الذي تبناه فالح العجمي على تعسف ظاهر وافتراض زائف، تنقضهما الواقعة التالية: كان الجغرافيون المسلمون يستخدمون تسمية دار الإسلام وتسميتين آخريتين، هما: بلاد الإسلام ومملكة الإسلام، ومع ذلك فإنهم لم يستخدموا تسمية دار الحرب إزاء الرقع الجغرافية التي تقع خارج حيز دار الإسلام، بل كانوا يستخدمون إزائها تسميات مملكة … وممالك … وأرض … هذا أولاً. ثانياً أن دار الإسلام ودار الحرب تقسيم فقهي وليس تقسيماً جغرافيا عند المسلمين، وأن هذا التقسيم– كما أوضحنا- لم يؤثر في اصطلاحات الجغرافيين المسلمين.

ثالثاً، أن التقسيم الفقهي هو تقسيم ثلاثي وليس تقسيماً ثنائياً. فهناك – كما لا يجهل عبدالله إبراهيم – دار الإسلام ودار الحرب ودار العهد (أو دار الصلح). والدار الأخيرة هي التي لا تكون تحت الحكم الإسلامي ولا يؤخذ من أهلها جزية لارتباطهم بمعاهدة أو اتفاق مع دار الإسلام. ومع أن هذه الدار – التي نشأت تأسيساً على حالة نجران والنوبة والأرمن – كانت استثناء في عصور الهيمنة الإسلامية، وكانت ترتبط بعلاقة خضوع مع دار الإسلام إلا أنها – على الأقل – فتحت باباً للخروج من حدي الحرب والجزية، إلى عقد علاقات مع الدول المسيحية قائمة على معاهدات في العصور الوسيطة.

يؤسفني أن أقول إن فصل (الثوابت نوابت: دراسة نظرية وتطبيقية على خطاب الجماعات الإسلامية المعاصر)، في كتاب فالح العجمي (تحت القشرة: دراسات في الثقافة والموروث) تطيح بما بُني عليه، معلومة أساسية غابت عن فالح.
هذا الفصل مبني على أن مصطلح (الثوابت) من صنع الخطاب الديني المعاصر. وأن (الثوابت) أو (المرجعيات) أو (الهوية) هي مرادفات للمصطلح التقليدي (المعلوم من الدين بالضرورة )!وقد زعم فالح في هذا الفصل أننا ” لو أردنا ترجمة كلمة (الثوابت) إلى لغات أجنبية، لعجزنا، لأن مقابلاتها في اللغات الأخرى ليست جزءاً من الثقافة السائدة التي تترسخ المصطلحات الدالة على عناصرها”.

إن (الثوابت) وشقيقتها (المتغيرات) تسمية متأخرة جداً في الخطاب الإسلامي المعاصر. ولقد استعارها الإسلاميون من تسمية دارجة وشائعة في الخطاب اليساري والقومي التقدمي في سبعينيات القرن الماضي. وتنتمي هذه التسمية إلى حقل العلوم الاجتماعية. وهي مترجمة عن الغرب ترجمة حرفية.وأصحاب الخطاب اليساري والقومي التقدمي استخدموها بنهج مختلف عن استخدام أدونيس لها في كتابه الشهير (الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والإبداع عند العرب).الصادر في طبعته الأولى في مطلع السبعينيات، فنهج أدونيس في هذا الكتاب كان ينحو منحى المستشرقين في ما يصح تسميته ب( النقد الثقافي) للثقافة العربية والإسلامية. وكتاب أدونيس يندرج ضمن إطار هذه التسمية.، ويجب التنبيه هنا إلى أن هذا الكتاب لأدونيس يعتبر من الكتب المبكرة في المكتبة العربية في مجال ” النقد الثقافي”.

الغزو الثقافي!

كتاب (الغارة على الإسلامي) هو لبنة أساسية في ما أصطلح على تسميته ب (الكتاب الإسلامي المعاصر) وهو المصدر البعيد لتسمية ( الغزو الفكري)، فالغارة والتي هي من مرادفات الغزو كما في العرض السابق جاء استخدامها ترجمة لعنوان خطه شاتليه بالفرنسية.
استخدام تسمية الغزو في المجال الثقافي جاء اول ما جاء في مقالات محمد محمد حسين المنشورة في مجلة (الازهر) في أواخر الخمسينيات. ففي مقاله (في التعليم العام) المنشور سنة 1958 في مجلة الازهر وهو يتحدث عمن أسماهم بدعاة الشر في التعليم العام في مصر، قال:” هذه بعض امثلة تصور الأسلوب الجديد الذي يعتمد على )الغزو من الداخل(- إن جاز لي أن أستعير تعبير المستر دالاس- “.

لم يذكر محمد محمد حسين من أي كتب وزير الخارجية الامريكية جون فوستر دالاس استعار هذا التعبير، وربما يكون دالاس استخدمه في كتابه (حرب أم سلام) الصادر بالانجيزية سنة 1950.
استوحى محمد محمد حسين من التعبير الذي استخدمه دالاس (الغزو من الداخل) عنوانه الشهير عند الإسلاميين (حصوننا مهددة من داخلها)، أو بالأحرى هو تصرف في ترجمته الى العربية وصاغه صياغة بليغة ، ومع أن محمد محمد حسين استخدم تعبير (الغزو من الداخل) مرة واحدة في جملة اعتراضية، ناسباً إياه إلى صاحبه دالاس إلا أن استخدامه شاع في مقالات وأبحاث وكتب الإسلاميين.

في قصيدة شهيرة للشاعر اليمني عبدالله البردوني ألقاها في بغداد في أوائل السبعينيات يقول مطلعها:
وهل تدرين يا صنعاء من المستعمر السري ** فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري
فقد يأتون تبغاً في سجائر لونها يغري ** غزاة لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري

استخدم تعبير (الغزو من الداخل) عنواناً لقصيدته الشهيرة هذه. وأقطع بأن هذا التعبير لم يتحدر الى البردوني مباشرة من المستر دالاس، وهذا يشير الى أن هذا التعبير غدا شائعا.
وفاتني أن أذكر أن أول مؤلف أذاع تسمية (الغزو الفكري)، هو الصحافي والكاتب محمد جلال كشك، وذلك من خلال عدد من الكتب التي نشرها في عقد الستينيات، وكان – وقتذاك- حديث عهد بالتحول عن الشيوعية إلى توجه عروبي إسلامي. كتبه التي أذاع تلك التسمية من خلالها هي: (الغزو الفكري – 1964)- وهو أول كتاب إسلامي له بعد تحوله – و(الماركسية والغزو الفكري – 1965) و (القومية والغزو الفكري – 1966) و(النكسة والغزو الفكري – 1968). وعن طريق هذه الكتب انتقلت تسمية (الغزو الفكري) إلى قاموس الإسلاميين . فهذه الكتب، وكتب أخرى له صدرت في الستينيات وفي أول السبعينيات ك(مفاهيم إسلامية: الحق المر) و(دراسة في فكر منحل) و(أخطر من النكسة ) و( الطريق إلى مجتمع عصري) و(إيلي كوهين من جديد) و (الجهاد ثورتنا الدائمة ) و (طريق المسلمين إلى الثورة المعاصرة) و( النابالم الفكري ) و( دخلت الخيل إلى الأزهر) ، كانت من روافد الكتاب الإسلامي ومن ضمن مرجعياته في الشأن الحديث والمعاصر، من ناحية التعرف عليه ومجادلته والتنظير الإسلامي المضاد له.




أول مؤلف أذاع تسمية “الغزو الفكري”، هو الصحافي والكاتب محمد جلال كشك، وذلك من خلال عدد من الكتب التي نشرها في عقد الستينيات، وكان وقت ذاك حديث عهد بالتحول عن الشيوعية.
يلتقي محمد جلال كشك بعد تحوله عن الشيوعية، بمحمد محمد حسين في خطاطته التأريخية وترسيمته العقدية التي وضعها الأخير لفهم عصر النهضة العربي وتاريخ التحديث والعلمنة في مصر، من منظور شديد في محافظته، ينتصر فيه للتقليدية في مواجهة التجديد.
لا يقتصر استخدام تسمية (الغزو الفكري) على الإسلاميين في مجال الثقافة الاسلامية ، فقد استخدم القوميون والماركسيون واليساريون هذه التسمية، فالتيارات الوافدة من الغرب الرأسمالي والفكر البرجوازي الليبرالي والثقافة والاعلام المدعوم من امريكا في بعض البلدان العربية في عرف القوميين ذي الميل اليساري والماركسيين واليساريين هي غزو ثقافي أما ما يأتي من الغرب ومن الشرق من تيارات ماركسية ويسارية، والثقافة والإعلام المدعوم من موسكو في بعض البلاد العربية، فهو ليس غزوا وإنما هو تلاقح ولقاح وإرشاد وتبصير وتنوير!

محمد محمد حسين في كتابه (حصوننا مهددة من داخلها) وفي كتابين آخرين له، هما: (الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر) و(الإسلام والحضارة الغربية)، كان هو القنطرة التي عبرت عليها تسمية (التغريب) الى ضفة كتابات الإسلاميين، وقد تحدرت إلينا هذه التسمية من كتابات المستشرقين في أوائل القرن الماضي والتي تأتي عندهم مرادفة للتحديث، وكان المثقفون الروس في روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر يستخدمونها إزاء الثقافة الأوروبية.
هناك تسمية لصيقة بتسمية (الهدامة) وهي تسمية (الانحراف الفكري)، هذه التسمية دارجة في المصطلح الشيوعي الأرثوذكسي. ومن المعلوم أن الإسلاميين في اصطلاحاتهم اغتنوا من المعجم الماركسي رغم عدائهم العميق للماركسية والماركسيين ورغم عداء الماركسيين الشنيع لهم.
أما وضع طه أحمد ربيع للشيوعية والفاشية والنازية في سلة واحدة، فأرجعه عل وجه أخص للدعاية الناصرية الإعلامية المضادة للشيوعية وللشيوعيين، فالشيوعيون العرب كان يرمون قومية جمال عبدالناصر بتهمة الفاشية، فخاطهم إعلامه الدعائي مع الفاشية والنازية في قميص واحد.

لماذا اليسار وليس الإخوان المسلمين!؟

هاتفت جلال أمين قبل أن أكتب هذه السطور، وأبديت له إعجابي بما اسماه هو بسيرتيه المتوازنتين: (ماذا علمتني الحياة؟) و (رحيق العمر) ثم سألته هل أتاك رد فعل على ما كتبته عن طه ربيع؟ فأجاب بالنفي.
قلت له: أني أعرف هذا الرجل، لأنه درّسني في الجامعة فأبدى جلال أمين دهشته، وقال: لابد أنك مخطئ، فهو لا علاقة له بالأكاديميا، ربما أن الذي درسك حامد ربيع.
قلت: أعرف حامد ربيع ولم أخلط بينه وبين طه ربيع، فحامد ربيع لم يسبق أن درّس في الجامعات السعودية. ذكرت له شواهد على أن صاحبه في الحادثة هو نفسه الذي درسني، منها ما كتبه عنه توفيق محمد الشاوي.




هناك تسمية لصيقة بتسمية (الهدامة) وهي تسمية (الانحراف الفكري)، هذه التسمية دارجة في المصطلح الشيوعي الأرثوذكسي. ومن المعلوم أن الإسلاميين في اصطلاحاتهم اغتنوا من المعجم الماركسي رغم عدائهم العميق للماركسية والماركسيين ورغم عداء الماركسيين الشنيع لهم.
أعلمته أن صورته عندنا –نحن طلبته- مختلفة تماماً عن الصورة التي عرفه هو بها في منتصف الستينيات.
صارحني جلال أمين بأنه لم يسامحه على ما فعل به لكنه في الوقت نفسه قد يتفهم دوافعه، وأضافا موضحاً: ثمة أناس في جهاز السلطة في عهد عبدالناصر كانوا مؤمنين بتجربته أشد الإيمان ن وفي ظل المناخ السياسي الإقليمي والدولي المشحون ،كانوا يعتبرون الأشخاص والأحزاب المختلفة مع جمال عبدالناصر متآمرين وأعداء للوطن، وقد يكون طه ربيع من هؤلاء الناس.

إذا تأملنا جملة توفيق محمد الشاوي التي ألمع فيها إلى اعتراف طه ربيع له بأن كان يراقبه، سنلحظ أنها كانت مربكة من حيث تحديد وقت الاعتراف: هل هو بعد خروجه من المعتقل سنة 1956 أم هو – كما قال – بعد أن ترك المباحث ظاهرياً وحصل على الدكتوراة؟
أستبعد أنه اعترف له بذلك بعد خروجه من المعتقل سنة 1956 والأقرب أن الاعتراف كان في سني السبعينيات فأول زيارة لتوفيق محمد الشاوي لمصر بعد أن هاجر منها سنة 1958، كانت في سنة 1974
اعترف طه أحمد ربيع للشاوي بذلك من ظاهر روايته، لأنه كان يحترمه ويوقره ويوده. ولأنه أساساً لم يلحق به أذى، بل هو ساعده في تيسير إجراءاته ومع هذا فإن الشاوي لم يتورع عن التشهير به!

أميل إلى أن الإخوان المسلمين العاملين في وزارة التربية والتعليم في عهد جمال عبدالناصر، حينما كان طه أحمد ربيع المشرف على مكتب الأمن فيها لم يطلهم أذى منه، فلو طالهم أذى منه، لكانوا شهروا به في كتبهم التي تتحدث عما طالهم من عسف واضطهاد في عهد جمال عبدالناصر، ولما كان درّس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في وقت كان للإخوان المسلمين نفوذاً قوياً فيها.

وتعليل هذا الأمر أن أساتذة الجامعات الأعضاء في جماعة الإخوان المسلمين كانوا قلة قليلة،هاجر أكثرهم إلى خارج مصر، كتوفيق محمد الشاوي ومحمد كمال خليفة ومحمود أبو السعود .. وفي مرحلة تالية هاجر من الجيل الثاني حسان حتحوت.
كانت النية حين شرعت في كتابة المقال أن اتحدث عن ذكرياتي عن بعض زملاء طه ربيع في قسم الإعلام بجامعة الإمام، وآخرين أتوا بعده ، لكنني من دون خطة مسبقة انسقت إلى مطالعة اتيمولوجية* حول بعض التسميات الشائعة عند الإسلاميين، ولن يغيب عن فطنة القارىء وزكانته أني كنت في هذه المطالعة أحاول أن أؤرخ لا أن أقوّم وأحكم .
*من علي العميم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.